بات من المقرر أن تعقد الانتخابات البرلمانية العراقية في 30 نيسان/ابريل. في خضم الأحداث المتسارعة التي يعيشها المجال العربي، من سوريا ومصر إلى اليمن وتونس، والصراع الدائر بين قوات رئيس الحكومة المالكي ومقاتلي أبناء محافظات الأغلبية السنية، سيما محافظة الأنبار، لا يبدو أن ثمة اهتماماً كبيراً بهذا الموعد العراقي. ولكن هذه الانتخابات هي حدث بالغ الأهمية.
أولاً، لأن الانتخابات مناسبة جديدة لإيضاح ما إن كان النظام التعددي الانتخابي للدولة العراقية الجديدة، دولة ما بعد الغزو والاحتلال، لم يزل قابلاً للحياة والاستمرار.
وثانياً، لأن هذا الموعد الانتخابي، على وجه الخصوص، سيحدد ما إن كان بإمكان العراق أن يتخلص من نظام المالكي الاستبدادي سلماً، وبوسائل انتخابية بحتة، أو أن رئيس الحكومة لفترتين متتاليتين مصر على الاستمرار في السلطة مهما كانت العواقب التي سيجرها استمراره على العراق.
أما السبب الثالث وبالغ الأهمية، أن هذه الانتخابات، وفي ضوء سابقاتها منذ 2003، ستوضح ما إن كانت الطبقة السياسية العراقية باتت أكثر قدرة على إدارة شؤون البلاد والحكم باستقلال عن القوى الإقليمية النافذة في شؤونه، إضافة إلى الولايات المتحدة.
من العبث، بالطبع، عزل أوضاع العراق عن شؤون الإقليم. فمنذ الغزو والاحتلال قبل أكثر من عشر سنوات، أصبح الشأن العراقي الداخلي، أكثر من أي فترة سابقة منذ ولادة العراق الحديث في أعقاب الحرب الأولى، عرضة للمؤثرات الإقليمية والدولية.
الانتخابات العراقية المقبلة لا يمكن، على سبيل المثال، عزلها عما يجري في سوريا، وما تعيشه علاقات إيران بجوارها العربي من اضطرابات، وما تواجهه حركة الثورة والتغيير العربية من عقبات، وما تشهده علاقات الولايات المتحدة بالشرق الأوسط من متغيرات. ولكن المفترض، بالرغم من هذا كله، أن يكون نظام عراق ما بعد 2003 والإنسحاب الأمريكي أصبح أكثر نضجاً، وأن يكون وعي الطبقة السياسية العراقية بتأثيرات الخارج محفزاً لتوكيد مصلحة العراق وشعبه، واستقلال قراره وإرادة شعبه عن محاولات التدخل الخارجية في شؤونه، أو جعله مجرد رهينة في التوازنات الإقليمية.
شكلت الانتخابات العراقية البرلمانية السابقة، التي أجريت قبل أربع سنوات، في آذار/مارس 2010، واحدة من أهم المحطات في مسيرة عراق ما بعد الغزو والاحتلال. فمن جهة، كانت ولاية المالكي الأولى قد انتهت إلى فشل ذريع على المستوى السياسي وكارثة فادحة على مستوى التنمية والإصلاح السياسي والاقتصادي. صحيح أن أجواء الحرب الأهلية التي عاشتها البلاد بصورة دموية وغير مسبوقة بين 2005 و2008 كانت قد انقشعت إلى حد كبير، ولكن رئيس الحكومة الذي تسلم مقاليد البلاد، متعهداً مواجهة الطائفية، انتهى إلى تبني سياسات طائفية تمييزية مفضوحة، أدت إلى تهميش مؤسسي للسنة، وسياسات مناهضة للأكراد، أدت إلى توتر علاقة بغداد بالإقليم الكردي، وسياسات استحواذ وتسلط غير مسبوقة، أدت إلى إفساد علاقته بالقوى الشيعية السياسية الأخرى من حلفائه. وبالرغم من تحسن أوضاع العراق المالية، والزيادة المضطردة في إنتاجه من النفط، فما إن تمكن المالكي من الحكم حتى أدار وأشرف على شبكة من الفساد، نهبت قطاعاً ملموساً من مقدرات البلاد، بينما بدت الدولة عاجزة، بعد سبع سنوات من الغزو، عن توفير الخدمات الأساسية لمعظم شعبها.
قبل موعد الانتخابات بقليل، تصدت مجموعة من العراقيين لواحدة من أكثر المهمات إلحاحاً وتعقيداً: تشكيل قائمة سياسية غير طائفية، ببرنامج وطني، يؤكد وحدة العراق والعراقيين، واستقلال قراره. عندما أعلنت نتائج الانتخابات، وبالرغم من موجة الرعب والترهيب التي أطلقتها القوات الموالية للمالكي في المناطق المؤيدة للقائمة العراقية يوم الانتخابات، وعجز مئات الألوف من العراقيين المهجرين في العراق وفي دول الجوار عن التصويت، خرجت القائمة العراقية باعتبارها صاحبة الحصة الأكبر من البرلمان الجديد، بواحد وتسعين مقعداً، بينما حصلت قائمة دولة القانون التي يترأسها المالكي، التي أدارت أجهزته العملية الانتخابية، على تسعة وثمانين مقعداً فقط. ولكن العراقية لم تستطع الفوز برئاسة الحكومة. عملت الضغوط الإيرانية على الزج بالقوى الشيعية الأخرى تحت مظلة المالكي، ومارس الأخير ضغوطاً على المحكمة العليا لتوفير فتوى تشرع لتشكيل القائمة السياسية بعد الانتخابات لا قبلها؛ كما عمل توافق إيراني أمريكي مستتر على إعادة المالكي رئيساً للحكومة لولاية ثانية. في السنوات الأربع الماضية، تجلت السياسات التي اتبعها المالكي خلال ولايته الأولى بصورة أكثر بشاعة. في موازاة الإنتشار الفادح للفساد، استمر تعثر برامج الإصلاح والتنمية؛ وبالرغم من الخصومات التي أججها المالكي مع عدد من دول الجوار، أصبحت السياسة العراقية الإقليمية أسيرة للقرار الإيراني؛ وبينما بدأ المالكي ولايته الثانية بتشكيل حكومة وحدة وطنية، عمل رئيس الحكومة خلال شهور من بداية ولايته الثانية على تكريس تفرده المطلق في إدارة شؤون الحكومة والسيطرة شبه الكاملة على مؤسسات الدولة، بما في ذلك الإعلام، والبنك المركزي، والقوات المسلحة.
لإحكام سيطرته على مقدرات البلاد، وتوكيد السيطرة الطائفية على مقاليد الحكم والدولة، لم يطارد المالكي معارضيه، بمن في ذلك نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، وحسب، بل وعمل على تفتيت المشهد السياسي العراقي وتشظيه. وكانت القائمة العراقية، على وجه الخصوص، الهدف الرئيسي لهذه السياسة، التي استخدمت فيها أموال هائلة، إغراءات المناصب والحصص، والتهديدات المستمرة من أجهزة الأمن والقضاء. ولكن سياسة المالكي لم تكن السبب الوحيد خلف انهيار القائمة، التي شكلت حين تأسيسها أملاً كبيراً للوطنية العراقية. السبب الآخر كان هشاشة الطبقة السياسية العراقية الجديدة، ضعفها الأخلاقي وعجزها عن فهم ثوابت العراق ومواريثه التاريخية. وخلال عامين فقط من عمر البرلمان العراقي المنتخب في 2010، كانت السياسة العراقية عادت مرة أخرى إلى طبيعتها الطائفية والإثنية. وكما كل سياسات التجزئة والتفتيت، انتهت الساحة السياسية العراقية إلى التشظي داخل كل من مكونات البلاد الرئيسية. انهارت الوحدة القسرية التي فرضتها إيران على القوى السياسية الشيعية، وذهبت وحدة القوى السياسية السنية، التي شكلت عماد القائمة العراقية، أدراج المصالح المتناقضة والبحث عن المكاسب والطموحات الشخصية المضخمة. ولم يكن غريباً بالتالي أن تنفجر البلاد في وجه الاستبداد السياسي والطائفي.
أخذ الانفجار صورة حراك شعبي غير مسبوق في محافظات الأغلبية السنية الست، بدأ منذ كانون ثاني/يناير 2013 بصلوات جمع موحدة، واعتصام جماهيري كبير في محافظة الأنبار، وعدد من مدن المحافظات الأخرى؛ كما في محاولات متكررة من القيادات السياسية الشيعية لتغيير رئيس الحكومة برئيس حكومة آخر، أكثر عقلانية وإدراكاً لتحديات حكم العراق.
في المقابل، حاول المالكي، طوال العالم الماضي، قهر الحراك الشعبي بسلسلة من الحملات القمعية والمجازر، واختراق صفوف الكتل المعارضة وتجنيد الموالين؛ كما بتهميش القوى السياسية الشيعية الأخرى، وإظهار نفسه باعتباره المدافع الوحيد عن سيطرة الطائفة على الحكم. قبل أسابيع قليلة، وإثر اقتحام قوات المالكي لساحة الاعتصام الرئيسية في الأنبار، تطور الحراك الشعبي إلى ثورة مسلحة، أوقعت هزيمة بالغة بقوات رئيس الحكومة وأتباعه، وأظهرت هشاشة المؤسسات التي يقودها.
على خلفية من الحراك الشعبي الواسع، كانت ملامح الخارطة السياسية تتبلور بصورة أكثر وضوحاً. ستخوض القوى الشيعية الرئيسية الثلاث، بما في ذلك قائمة المالكي، الانتخابات منفصلة؛ بينما سيخوضها الأكراد بقائمة التحالف الكردستاني التقليدية. في الجانب السني والوطني، الذي شكلت القائمة العراقية من قبل مظلته الرئيسية، ذهب عدد من السياسيين السنة، لتشكيل قائمة ‘متحدون،’ بقيادة رئيس البرلمان، أسامة النجيفي؛ بينما التحق عدد آخر إلى القائمة الوطنية، التي شكلها رئيس الحكومة الأسبق، إياد علاوي، الرئيس السابق للقائمة العراقية. ولكن الواضح، بعد تجربة السنوات الأربع الماضية، أن القطاع الأوسع من الشارع العربي السني فقد الثقة في الطبقة السياسية التقليدية وقدرتها على تمثيله، وبالرغم من صعوبة التقدير الآن، يصعب القول بأن أياً من القوائم السابقة يمكنه التحدث باسم العرب السنة، الحامل الضروري للوطنية العراقية ولوحدة العراق وشعبه. وهذا ما دفع ثلة من العراقيين، سبق أن لعب بعضهم دوراً رئيسياً في تشكيل القائمة العراقية ومحاولة إحياء الخيار الوطني، إلى تشكيل ‘قائمة الكرامة’. ترتكز القائمة إلى عدد من الشخصيات السياسية النشطة والقيادات العشائرية، مثل النائب المعتقل أحمد العلواني والشيخ عبد الرحمن المنشد العاصي والشيخ علي الحاتم، الذين انحازوا إلى الحراك الشعبي خلال العام الماضي؛ وإلى عدد من النشطين غير المعروفين سابقاً، ممن لعبوا دوراً بارزاً في هذا الحراك واستمراره؛ وعدد من الأكاديميين، الذين قرروا تحمل مسؤولياتهم تجاه شعبهم والعمل من أجل مستقبله، عوضاً عن الإنزواء في زوايا الأمن الأكاديمي.
هذه قائمة من لا صوت لهم، من حاول المالكي ومن سبقه من القيادات الطائفية التنكر لوجودهم وحقوقهم، وهم بناة العراق وتاريخه وحراس وجوده؛ ومن خذلتهم القيادات السياسية التي منحوها من قبل حق تمثيلهم والتحدث باسمهم. هذه قائمة لحظة الإحباط الواسع في عراق ما بعد الغزو والاحتلال، ولحظة الثورة والأمل في وجه نظام الاستبداد والارتهان للخارج، الذي أقامه رئيس حكومة قصير النظر طوال سنوات ثمان. وهذه قائمة لحظة العراق الحرجة، التي قد تحدد مستقبله لزمن قادم طويل: إما السلم الوطني والتغيير بإرادة الشعب، أو الانفجار الذي لن ينجو منه أحد.
ولكن ثمة شيئاً آخر. ففي ظل مناخ الاستقطاب الطائفي، الذي أججته سياسات المالكي، وحالة التشظي السياسي، لم تستطع قائمة الكرامة أن تتبلور كقائمة وطنية، عابرة لحدود الطائفة. ولكن الجهد الذي قامت به القائمة في محافظة كركوك، من أجل أن يشكل سكان المحافظة العرب والتركمان، سنة وشيعة، كتلة انتخابية واحدة، تطرح مثالاً لما يجب أن يكون عليه عراق المستقبل، يشير بوضوح إلى أن قائمة الكرامة لا تمثل الحركة الشعبية وجموع العرب السنة وحسب، بل وتطمح أن تقود سياسة وطنية، تؤسس لنظام وسياسة عراقية جديدة بالفعل.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
هناك إشكال كبير لا يفطن اليه كثير من المثقفين االقوميين لعرب عند تحليلهم الوضع في العراق ، وهو أن النظام السيايسي الذي أقامه الإحتلال الامريكي – الايراني للعراق هو نظام طائفي تقسيمي يحاول تقسيم العراق والعودة بوعي العراقيين الى قرون التخلف ، وهو نظام ، إضافة الى إفتقاده الشرعية ، قائم على احزاب وشخصيات جاءت من الخارج وولاؤها للخارج لذلك أسست نظاما فاسدا سارقا سلطويا لا يمكن أن ينجب ديمقراطية ، ولا يمكن أن يسمح للقوى الوطنية العابرة للطائفية أن تحتل موطيء قدم فيه ، ولذا فإن محاولات إصلاح هذا النظام ( من الداخل ) فشلت وستفشل في المستقبل ، والحل الوحيد هو إنهاء العملية السياسية الحالية بدستورها وقوانينها البريمرية وشروع العراقيين بكتابة دستور وطني جديد وتأسيس عقد إجتماعي جديد مبني على إرث العراق الحضاري والقومي يليق بعبقرية شعبه.
الحل الحاسم يتمثل في انقلاب عسكري يقوده عراقيون شرفاء مخلصين لوطنهم اولا وانتمائهم لامتهم العربية . ومن المهام الاولى والفورية للقيادة الوطنية الجديدة اجتثاث جذري لكل عملاء واذناب الامريكان والايرانيين ثم تشكيل حكومة وطنية لاتعترف بالطائفية اطلاقا. فهل من منقذ ننتظره فورا وبلا تأخير؟!!