عندما نسمع لفظ «شبيك لبيك» لن يتبادر للأذهان سوى صورة المارد الذي يخرج من المصباح، والذي ينفذ جميع ما نتمناه في طرفة عين بعد قوله ذاك اللفظ المتواتر المحبب للنفوس: «شبيك لبيك». وما يفعله ذاك المارد هو نفسه ما فعله الشيطان الذي باع له دكتور فاوست روحه نظير ما يوفره له من معارف الكون في لمح البصر.
وعند مقارنة تلك المفاهيم الأسطورية بما يحدث حالياً في عالمنا المعاصر، نجد أن عالم الخيال الذي عرفناه في حواديت الأطفال قد تحقق، وبأسهل السبل، وبدون أن يبيع أحدهم روحه للشيطان من أجل المعرفة؛ فالمعرفة هي قوام أي نهضة وتقدم حقيقي تحرزه. فبدون إتاحة المعارف والعلوم، لن تصير الدول رائدة منتجة، بل تابعا مستهلِكا، يرضى بما يقدم له من فتات العلوم والتكنولوجيا، وتنعدم لديه القدرة على مجاراة ما يحدث على الساحة العالمية. وبالنظر لدول العالم الغربي، يلاحظ أنها تنبهت لخطورة عدم إتاحة ألوان المعارف بشكل سهل لأبنائها، لما لها من دور في خلق مجتمع سوي منتج. ومن ثم، يتفنن الخبراء والعلماء في حث أبناء العالم الغربي ـ الذين احتكروا لأنفسهم بلقب العالم الأول – على القراءة، والاطلاع، والانفتاح على شتى أنواع المعارف باختلاف ألوانها.
ومن هذا المنطلق، يعكف علماء العالم الأول على تدبر الوسائل التي تسهل الاطلاع، والتعلم. وكانت الإنطلاقة الحقيقية لتدشين العلوم دفعة واحدة، وتسهيلها على دول العالم بأكملها هي استحداث الإنترنت واتاحته للجميع – على حد سواء – للانفتاح على القنوات المعرفية وقتما شاء المرء. وبالتأكيد، شملت تلك الوسيلة المهيبة دول العالم الثالث، إلا أنه تم اكتشاف أوجه القصور في هذه التجربة الفريدة التي تجسدت في شكل إيقاع حياة متسارع، وكم مسؤوليات شخصية متزايدة، فحجبت عن المرء إمكانية إيجاد الوقت الكافي لتنمية الذات، من خلال الانفتاح على العلوم التي صارت متاحة بضغطة زر واحدة على أي جهاز حاسوب – أو ما شابهه – متصل بشبكة الإنترنت. فحفز ذاك الوضع الخبراء والعلماء على استحداث وسائل أخرى لتسهيل الوصول للمعارف بشكل أسرع وأكثر تكثيفاً، مثل استحداث جهاز الكيندل Kindle لشراء وتحميل الكتب إلكترونياً، وهو كتاب يشبه لحد كبير التابلت شكلاً، لكنه متصل بموقع الأمازون لشراء وتحميل الكتب إلكترونياً في أي بقعة من بقاع العالم. ولم تقف محاولات نشر المعارف عند هذا الحد، بل تشعبت، وتزايدت، لدرجة أنه تم استحداث كتب منطوقة للاستماع إليها في أي مكان، سواء أكان المرء في السيارة، أو أثناء التجوال، أو في أوقات الاسترخاء، لكن أهم شيء ألا ينقطع أي شخص عن متابعة ما المستجدات على الساحة العلمية والأدبية.
وباكتشاف أوجه قصور في التجارب السابقة، التي تمثلت في عدم توافر الوقت الذي يكفي لقراءة كتاب كبير، أو حتى الاستماع إليه. أضف إلى ذلك، إقبال الكثير على قراءة الروايات وألوان الأدب المختلفة، مخلفين وراء ظهورهم الكتب العلمية، والفلسفية. وبما أن أوروبا هي مهد المعرفة والاطلاع والتطور، نجد أنها قامت بعمل دراسات على انفتاح الشعوب على القراءة. وانبلج عن تلك الدراسة إيضاح أن الشعب الأمريكي هو أقل الشعوب التي تميل للقراءة؛ حيث أن متوسط قراءة الفرد في العام الواحد يبلغ أربعة كتب فقط. الطريف في تلك الدراسة، أنه تم استثناء دول العالم العربي، لتأكد الدول الأوروبية أن الشعب العربي – على وجه العموم – ليس قارئا جيدا. وحتى من يدعون القراءة الغزيرة منهم، نجدهم يفخرون بقراءة كتاب أو اثنين في اليوم الواحد. وعند سؤالهم كيف تمكنوا من فعل ذلك، يكون الرد أن «القراءة السريعة» Skimming and Scanning تمكنهم من ذلك، أي أنهم يكتفون بالعناوين وبضعة أسطر، بدون فهم حقيقي للب الموضوعات المطروحة.
يعكف علماء العالم الأول على تدبر الوسائل التي تسهل الاطلاع، والتعلم. وكانت الإنطلاقة الحقيقية لتدشين العلوم دفعة واحدة، وتسهيلها على دول العالم بأكملها هي استحداث الإنترنت واتاحته للجميع – على حد سواء – للانفتاح على القنوات المعرفية وقتما شاء المرء.
ولتغير أوجه المعرفة والاطلاع، ولفتح المزيد من الآفاق أمام الشعوب، انطلق من مدينة برلين الألمانية المعروفة بأنها مدينة انتقائية ومهد للابتكارات، مشروع جديد يعد من أقوى الاختراعات المعرفية، التي من شأنها تغيير الطريقة التي يقبل بها المرء على القراءة. وهذا المشروع هو عبارة عن تطبيق يسمى «قائمة في طرفة عين» Blinklist أو بالأحرى «قائمة شبيك لبيك». ولقد أثار هذا التطبيق فضول المستثمرين في العالم، وتهافتت عليه الشركات الاستثمارية الأمريكية، إلى أن فازت به إحداها. والغريب أن الاشتراك في «تطبيق قائمة في طرفة عين» – أو قائمة شبيك لبيك – مجانيا، وكذلك هو متاح لأي فرد من أي دولة في العالم، شريطة فقط أن يعلم هذا الفرد بوجوده؛ وذلك لعدم وجود حتى الآن دعاية كافية وقد تكون منعدمة ـ لتطبيق قائمة شبيك لبيك. والجديد في هذا التطبيق هو استعراض الكتب ـ في ما خلا كتب القصص والروايات والأشعار- من خلال كبسولة معرفية، بحيث يتم تلخيص الكتاب سواء بشكل مكتوب أو منطوق، في حيز خمس عشرة دقيقة فقط على يد مجموعة من الخبراء. فيتم استعراض النقاط الأساسية بالكتاب، وشرحه وتبسيط مفاهيمه. وبالطبع، لسوف يختزل هذا المفهوم الجديد للقراءة المجهود الذي يتم بذله في فهم النظريات الحديثة، والقديمة لما يقدمه من شروحات مبسطة لأصعب الكتب العلمية. أضافة إلى ذلك سوف يعفي هذا التطبيق محبي القراءة من تأنيب الضمير لعدم تدبر وقت كاف لتخصيصه للاطلاع.
حقاً، الانطلاقات العلمية تأخذنا إلى آفاق جديدة، لكن المشكلة الجمة تكمن في عالمنا العربي، أو دول العالم الثالث بوجه عام. فلم تحجب دول العالم الأول عنا اختراعاتها، لكنها حطمت في أنفسنا الرغبة في الاطلاع والمعرفة. فبنظرة فاحصة لحقيقة الوضع في العالم العربي، يلاحظ أنه بدءاً من الحملات الاستعمارية، خاصة الحملات الصليبية التي تزايدت مع ضعف شوكة دول المشرق، لا يشن العالم الغربي علينا إلا حرباً نفسية؛ لتأصيل الشعور بالدونية، والتبعية لعالم أكثر تفتحاً. ومن أهم ركائز تلك الحرب هي زرع بذور كراهية الذات والظروف التي تحيطنا، والإيعاز بأن المستقبل لا ينبئ بالخير؛ لأن الخير الوفير لا يصيب إلا فئات معينة. ومن هنا أيضاً، تم غرس الفئوية والتفرقة الاجتماعية بين البشر، والتكالب على بيع الضمير والأهل والأصدقاء لمجرد أن يتاح للفرد مكان في أيٍ من دول العالم الأول. وكنتيجة لذلك، وسم العالم الأول أفراد دول العالم الثالث الذين ينصاعون لهم بالخيانة وعدم الصدق، وبعدها صارت تلك هي الوسمة المميزة لدول العالم الثالث.
وأخطر من كل هذا وذاك، صارت المهمة الرئيسية للمستشرق الأجنبي هي وضع الخطوط الحمراء على أي ممارسة ثقافية أو أخلاقية متوارثة، ثم فصلها عن المواقف التي خصصت من أجلها، وأخيراً تفريغها من مضمونها. أما الخطوة التالية فتكون نشرها على العالم على أنها الممارسة السائدة في تلك البلاد. فعلى سبيل المثال، وبعيداً عن عالمنا العربي وممارساته، عندما ذهب المستشرق الأجنبي لدول إفريقيا السوداء للبحث عن أسس ظاهرة إساءة معاملة البنات، نجد أنه وسم إفريقيا السمراء بموئل تجارة الإناث للعمل في الدعارة، وأن ذلك ما هو إلا امتداد لظواهر وثنية ما زالت سائدة في إفريقيا مثل استخدام الفتيات في السحر الأسود، حيث يتم إهدائهن لمعابد تلك الممارسة. أضف إلى ذلك، تأصيل ظاهرة دعارة الفتيات يأتي من العادة الوثنية التي تدعى «بوتلاتش» Potlatch وهو نظام مقايضة كان يتم بين السادة الأشراف وزعماء القبائل في العصور البائدة؛ بحيث كانت تتم مقايضة كل شيء، من عمال وألقاب، وطلاسم ومهام، وطعام وكذلك مقايضة النساء والأطفال. وكانت تتم المقايضة تحت مسمى «تقديم الهدايا»، وكلما ازداد تقديم الهدايا، قويت شوكة زعيم القبيلة (أو الشريف) وصلاته بالقبائل الأخرى. وفي المقابل، كان زعماء القبائل والأشراف يتلقون هدايا مماثلة ممن قدموا لهم الهدايا في ما سبق.
رغم أن فيض المعارف متوفر لأن ينهل منه الجميع كيفما شاءوا، لكن لا يقرب له الأغلبية العظمى من سكان دول العالم الثالث.
وفي العصر الحديث، خاصة في المناطق النائية وغير الحضرية، لا يزال تقليد تقديم الهدايا متبعاً، ولكن في شكل مقنن. فبالنسبة للأطفال، لا يتم تقديمهم كهدايا، لكن لربما يعهد لأحد أفراد العائلة، أو القادرين على كفالتهم من أجل أن ينالوا حياة كريمة يتمتعون فيها بقسط أكبر من التربية الراقية والتعليم الجيد. أما في ما يختص بالنساء، فتقديمهن كهدايا لا يكون إلا في إطار دفعهن للزواج من أحد المعارف لخلق جو من المحبة والتآلف بين العائلتين، أي تتم الهدية في إطار شرعي قانوني. لكن تم تحريف هذا التقليد من قبل المستشرق، وانتشر بالمراجع العلمية والمنتديات أن بضع قبائل إفريقيا السمراء تدفع نساءها كهدايا. فكره الأفارقة عاداتهم المتوارثة، واستبدلوها بأخرى غربية. والنتيجة كانت ضياع الملامح الأساسية لهويتهم الثقافية، وتزايد ثقتهم في العالم الغربي وأفكاره وتوجهاته، وأيضا تفشي الإيمان بأن الغرب هو الوحيد الذي لديه القدرة لأن يأخذ بيدهم لعالم من النور. وتوكيداً على ذلك، كانت اليد التي مدها الغرب لهم هي تقديم المساعدات الإنسانية، والانفتاح على ثقافة جديدة. لكن تبين في ما بعد أن أغلب هذه الأغذية كانت فاسدة ـ تماماً كما حدث في الصومال وقت المجاعة عام 1992 عندما تم إهداء الجائعين أغذية ملوثة بالغبار الذري لمفاعل تشيرنوبل ـ وأما الثقافة الجديدة فكانت نشر ثقافة التحرر الجنسي المتسارع، فتفشت الأمراض الجنسية وأخطرها كان الإيدز، وتزايد عدد الأطفال اللقطاء الذين شكلوا عبئاً جديداً على الدولة. أما في ما يتعلق بمساعدة الأطفال والنساء، فجاءت المساعدة في شكل كفالة بعض أفراد دول العالم الغربي القادرين لبعض الأطفال والفتيات الإفريقيات المعوزات، مع الوعد بإلحاق المكفول بمدارس وجامعات العالم الغربي. ولكن عندما خطا الأطفال والفتيات لعالم الأحلام المنشود، وجدوا أنهم فريسة لشبكات الدعارة التي لا يمكن الفرار منها، ما يعني ضياع الهوية، وانمحاق قيمة الذات.
أما الطامة الكبرى فهي تصدير فكرة أن إفريقيا موئل للدعارة والداعرات على الصعيد العالمي. وما يزيد الوضع سوءاً هو اقتناع الإفريقيات بتلك الفكرة، لدرجة أنهن صرن يمارسن الدعارة عن كل اقتناع، ويرتضين بيع أنفسهن لشبكات الدعارة في العالم الغربي. فعلى الرغم من قدرة هذا الشعب ـ كمثل أي شعب في العالم – على التمييز بين الطيب والخبيث، لكن تم اقناعهن بأن الدعارة هي السبيل الأوحد للخلاص من حياة كئيبة.
وعلى المنوال نفسه، رغم أن فيض المعارف متوفر لأن ينهل منه الجميع كيفما شاءوا، لكن لا يقرب له الأغلبية العظمى من سكان دول العالم الثالث. والسبب هو تصدير فكرة أن العقول في ذاك العالم لن تصل لحد الرقي، وكذلك أنهم ذوو إمكانيات ذهنية محدودة، ولذلك مهما حاولوا فلن يستطيعوا مجاراة دول العالم الأول. حالياً، المشكلة لا تكمن في عدم الاطلاع على المعارف، وعدم القدرة على الابتكار والتطوير الحقيقي، المشكلة تكمن في وجوب القضاء على الإحساس بالدونية الذي صار راسخاً في أذهان أبناء دول العالم الثالث. فإذا أردت أن يهرع إليك العالم قائلاً «شبيك لبيك»، عليك أولاً أن تتخلص من كم المغالطات التي يعج بها ذهنك وحياتك، وألا تكتفي بكونك متفرجاً مستهلكاً، بل كن ناشطاً منتجاً، ويا حبذا لو صرت مبتكراً.
٭ أكاديمية مصرية