قاطعوا الأغاني الوطنية… وريبورتاج سوري طويل تحت جسر الرئيس

حجم الخط
2

هذه المرة يستحيل أن نصدق أن النظام السوري تقصّدَ المَشاهدَ، برمزيتها الكثيفة وخلاصاتها، كما رآها العالم تحت جسر الرئيس وسط العاصمة السورية، صحيح أنها مشاهد في غاية الإذلال، وكذلك في غاية الترويع، وقد يقول البعض إنها جاءت كدرس أخير كبير (على هيئة مكرمة) لجموع السوريين، لكن المكرمة فلتت من يده لتقول شيئاً آخر. أرادها مكرمة فترك إعلامييه يقومون هم بالتغطية، ويبدو أنه كان ينتظر أن تقوم أعراس وابتهالات وأدعية، لكن النتيجة كانت فضيحة تاريخية، إلى حد أن المواقع التي بثت فيديوهات من قلب الحدث تراجعت وحذفت.
المصادفة، أو قل التلاعب، قادت جموع ذوي المعتقلين إلى تحت جسر حافظ الأسد، الجسر الذي قيل عنه مرة إنه وجد ليكون جسراً بين عالمين؛ عالم أبو رمانة المترف، وحيّ البرامكة الذي كان على الدوام تجمعاً تصب فيها باصات الضواحي والعشوائيات والفقراء والجامعيين الحالمين، منطق ليس بإمكانه أن يصمد ساعة، فمن يصدق أن لدى حافظ الأسد هذا العمق الفلسفي، وهذه الرغبة بجَسْر الهوة بين مترفين وفقراء!
على أي حال معروف أن الجسر احتفظ على الدوام بسمعة سيئة، ليس أولها اسمه، ولا آخرها أشياء تجري في الزوايا المعتمة، وما المشاهد الأخيرة لأهالي المعتقلين ينتظرون أبناءهم هناك سوى تفصيل آخر.

لو أن فريقاً صحفياً مهنياً تقصّد إنجاز مقابلات جسر الرئيس لما سُمح له، لحذفته الرقابة، لقُدّم للمحاكمة بدعوى إيهان نفسية الأمة.

كيف يمكن قراءة مشهد في بلد لآلاف الناس ينتظرون أبناءهم المغيبين في السجون، من دون خبر ولا علم، ولا محاكمات، لسنين طويلة؟ كيف يُقرأ أن هؤلاء، أمهات وآباء وأشقاء، لإرهابيين، بالجملة، هذه تقول لها ولدان، وهذا يقول ثلاثة، كيف يُقرأ أن يكون كل هؤلاء إرهابيين وخارجين عن القانون!
كيف يُقرأ أن تتلاعب «الدولة» بهؤلاء «المعتّرين» وتتركهم نهباً للشائعات حول أماكن إطلاق سراح المعتقلين، وعدم معرفة أسماء المطلق سراحهم أصلاً، إلى حدّ راح الناس يتراكضون، في مشهد ولا أذلّ، وأدلّ، في الشوارع وراء أي خبر، رائحة خبر.
كيف تُقرأ أصلاً أحوال الخارجين كأشباح من السجون، هؤلاء المجوّعين والمعذّبين والمغيّبين في الأقبية من دون أمل.
ما قدمته الفيديوهات هو عبارة عن ريبورتاج مطوّل، بالصوت والصورة والأرقام، لو أن فريقاً صحفياً مهنياً تقصّد إنجازه لما سمح له، لحذفته الرقابة، لقُدّم للمحاكمة بدعوى إيهان نفسية الأمة.
نرجو ألا يقول قائل إن نظاماً مجرماً كهذا لم يعد يفرق معه شيء، هذه الصور خارجة عن إرادته، فما من ربع عاقل يمكن أن يكون لديه حجة تدافع عن تلك الصور.
لا يقرأ الفيديوـ الفيديوهات الكثيرة، سوى على أنها خاتمة وشيكة للنظام، غير الممكن تأهيله، ولا بألف معجزة.

قاطعوا الأغاني الوطنية

بالترافق مع مشاهد مجزرة «التضامن» تكرر فيديو طويل مواز على مواقع التواصل الاجتماعي، يصور جيش النظام وهو يدخل الحيّ، وفي الصورة دمار فظيع، وفيه العسكر المنتشون بنصرهم وقواهم المدمرة وقناصيهم، وبدعم صريح من لهجات لبنانية جنوبية.
نشوة النصر تأتي على وقع أغان «وطنية» بثت مع كل خطوة، كل طلقة قناص، كل ضحكة عسكري فوق رماد الحيّ.
كيف تنظر اليوم إلى تلك الأغاني، التي لطالما أحببتها وتغنيت بها، توضع لرفع الأدرينالين في دم القناصين! توضع فيما الجيش يدبك في بطنك.

هل رأيت مرة جيشاً عربياً  يمشي على إيقاع تلك الأغاني الوطنية لمقاتلة جيوش الأعداء خارج الحدود؟

يأخذك الحال أحياناً، فتجد نفسك تغني، أو ترنّم لحناً وطنياً، خصوصاً أن أغاني من استُعين بهم تاريخياً لصنع عدة الحرب تلك كانوا من المهرة حقاً في اختصاصاتهم، من محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، إلى عبد الحليم حافظ، وسائر المغنين من سوريين ولبنانيين وفلسطينيين، من «خلّ السلاح صاحي» إلى «والله زمان يا سلاحي» إلى «وين الملايين» و»بنرفض نحنا نموت» و»أحبائي».. وسواها الكثير المموه بنكهات رومانسية وشعرية وخلافه.
هل رأيت مرة، جيشاً عربياً، من جيش جمال عبد الناصر، إلى صدام حسين وحافظ الأسد ونجله، يمشي على إيقاع تلك الأغاني لمقاتلة جيوش الأعداء خارج الحدود؟ هل وجدتَ أثراً لتلك الأغاني إلا في الكويت ومختلف مدن العراق وحماه و»حي التضامن» وكل مدينة وبلدة سورية، وفي اليمن، وفي أقبية المخابرات في مصر وسوريا وغيرهما؟
علينا أن نحذر الأغاني الوطنية إذن، العنتريات الوطنية، كل مارش حربي، كل دبكة، حان الوقت لنتأكد أن الوطن، والأغاني الحلوة الباقية لن تكون أبداً هناك.

علم بلادي مرفوع

مجدداً، يثير الجدل غياب علم النظام السوري عن المشهد، في مقابلة رأس النظام السوري بشار الأسد مع المرشد الإيراني خامنئي، ليس جديداً أن المرشد يتصرف كما لو أنه يستدعي حاكماً محلياً، محافظاً لولاية، لمدينة على الأطراف، وقد لا يكون العلم وحده هو الدليل، فهناك من يعتبر أن المرشد غير ملزم بالبروتوكولات، تذكروا مثلاً مشاهد تاريخية لمقابلات بشار مع القادة الروس، بدءاً من بوتين، هناك مشاهد تخزي العين حقاً.

كيف سينظر الضحايا إلى علم بلادهم مرفرفاً فقط فوق السجون ومخافر الشرطة والمدارس الإلزامية الكالحة وعلى كتف القناص، وفوق حفرة «التضامن»!

لكن كيف يفسّر أنصار النظام، حُماة العَلَم، الذين تصيبهم المنخوليا الوطنية بمجرد أن تمسّ صورة العلم والرئيس، باعتبارهما من رموز «الدولة» والسيادة الوطنية لا من رموز النظام! كيف ينظرون إلى مقابلات رئيسهم مع بوتين؟
إن رموز السيادة تغيب في بروتوكولات «الأصدقاء» فما بالك الأعداء!
وتلومون الضحايا على قلّة احتفائهم بها!
كيف سينظر الضحايا إلى علم بلادهم مرفرفاً فقط فوق السجون ومخافر الشرطة والمدارس الإلزامية الكالحة وعلى كتف القناص، وفوق حفرة «حي التضامن» فيما يغيب في الأمكنة التي عليه أن يحضر فيها.

كاتب فلسطيني سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    معظم المعتقلين بسوريا أبرياء !
    المشكلة هو بعدم وجود محاكمات !! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول وليم:

    كتبت فاوجزت وعبرت بكل كلمة شكرا لك ايها الكاتب الفذ راشد

إشترك في قائمتنا البريدية