عندما نُصغي إلى أهمّ التجارب التي يحفل بها الشعر النسائي المغربي، منذ بدايات الألفية الجديدة، يظهر أن هذا الشعر قد قطع مع عهود الكفاف والتحرج، وأخذ يُثري أفق الكتابة على الصعيدين الأسلوبي والتخييلي ،على نحو يكشف، تدريجيّا عن استحقاقيّته داخل المشهد الشعري المعاصر، بسبب ما يقوده من مشاريع جمالية تطلق من عقالها طاقات الأنا الشعرية، وما يترتّب على مُتخيَّلها من فهم خاص للذات والأشياء والعالم، بوصفه بحثا عن معنى مفتقد أو انشداد إلى المطلق، أو بوصفه مجال تحرر واشتهاء.
تعتبر الشاعرة صباح الدبي إحدى شاعرات الألفية الأكثر حضورا واختلافا، صدرت لها ثلاثة دواوين، هي: «حين يهب الماء» (2007) و»سدرة الضوء» (2013) و»رحيل قرمزي» (2016) عبرها تشعر بأنها تنحت أسلوبها الشعري ذا المنزع الغنائي، الذي يمزج بين تعبيرية الشكل الشعري وذاتية المرجع لغة وإيقاعا، ويعكس تطور تجربة يتقاطع في ما هو مرئي ومحسوس، بما هو مطلق وصوفي، فيما هي تنهض من ركام الماضي والذكريات وتسرح برؤيتها الخاصة والمفارقة إلى الأشياء والطبيعة والكون، من أجل عالم بديل أكثر أمانا. كما صدر لها كتابها النقدي: «المتخيل الشعري: المفهوم والمرجعية والرؤى» (2023) بموازاة مع اهتمامها النقدي بمتون الشعر النسائي، لاسيما على مستوى تشكلات الذات الشاعرة وهندستها التخيليية في علاقتها بأسئلة الكينونة والجسد والكتابة والفضاء.
□ أسألك ابتداء: ما الذي قادك إلى الشعر؟ متى سمعت بهذه الكلمة السحر لأول مرة، وفي أي عمر وجدت نفسك تكتبين؟
■ تماما، هو هذا السِّحر الذي يسوقُك إلى فردوس القول، وإلى اللغة الفاتنة التي تنساب بين يديك وأنت تُصيخ السَّمع إلى صوت الذات وحكاياتها المُلونَّة بالغموض الجميل، والحَراك الخفيِّ، الذي ينتظر لحظة خروجه إلى عالم الصوت الذي تخلقه اللغة. قادني إلى سحر الشعر إحساسي برغبة حثيثة في الكشف عمَّا يجري في عوالم الداخل، وفي رسم صورة مأمولة لعالم الحلم الذي نتجاوز من خلاله انكساراتنا وأحزاننا، إنه العالم الملاذ الذي نشعر فيه بوجودنا الآخر عبر اللغة وما تمنحه من طاقة للكشف والخلق. أما سماعِي بهذه الكلمة السحر بعيدة الصدى في وجداني، فيعود إلى بداية قراءتي للنصوص الشعرية في المرحلة الإعدادية. ما زلت أذكر الأثر الكبير الذي كانت تتركه تلك الكلمات المنسابة بإيقاعها الرقراق في نفسي، بحيث كنت أنبهر بتلك اللوحات المرسومة بريشة اللغة، وأسمح لنفسي بتجريب هذا الرسم ولو بأدواتي البسيطة، لاسيما أن تلك المُحاولات على بساطتها كانت تمنحني فرحا خاصا، وكان ثناء أساتذتي حينها يُضاعِف هذا الفرح، فأستمر في المُحاولة وأنتشي حين يُصفِّق لي زملائي في الفصل. أما الوعي بمفهوم الكتابة وامتلاك أدواتها، فقد جاء بعد تدرج دراستي في فصول الجامعة، وما زال منذورا للبحث المُتواصل عن النصوص التي لم تُقل بعد.
□ تعرّفَ عليك القارئ شاعرة ذات وعي بأدوات الكتابة ابتداء من ديوانك «حين يهب الماء» (2008). بمن تأثّرتِ حتى استقللتِ بأسلوبك الشعري الذي يمزج بين تعبيرية الشكل الشعري وذاتية المرجع لغة وإيقاعا؟
■ لا شكَّ في أن الكتابة تولد من الإحساس المُرهف بالأشياء والأسماء وبما يتخلَّق في دواخلنا جراء تفاعل ذواتنا مع ما يحيط بها، لكنها فضلا عن ذلك اشتغال ووعي خاص يتأتَّى من تراكم رصيدنا القرائي ومخزوننا الثقافي والمرجعي. هذه المنابع الفيَّاضة هي التي تشكِّل مادة أساسية لتشكيل تجاربنا وتمنحها القدرة على البحث عن الصوت المُتفرِّد بما هو بصمة الذات المُبدعة. إننا ننهل من هذه المنابع ما نحقِّق به امتلاءنا، ثم نسعَى لقول ذواتنا قولا خاصّا يليق بنا، ويظل هذا الارتباط بالمرجعيات متواصلا مع بحثنا عن صوتنا الشعري الخاص، كأنها حالة ينشط فيها اللقاء مع الصوت والصوت الآخر، إلى أن يولد صوت الذات من هذه العلاقة المُثمِرة، لذلك كان انفتاحي على مُختلف التجارب الشعرية التي طبعت المشهد الشعري العربي قديما وحديثا، وأقبلت على النصوص التي كان لها الأثر البالغ في تحديث الشعر العربي في المشرق والمغرب، والنصوص التي أبدعها المُتصوِّفة وكان لها كبير الأثر في نفسي؛ مثل نصوص جلال الدين الرومي وابن الفارض وابن عربي والحلاج والشُّشْتَري وغيرهم، دون أن أنسى التجارب الشعرية الغربية التي قدَّمت رؤى مُغايِرة للعالم.
□ في شعرك ذي المنزع الغنائي، ثمة تجربة متبلورة يتقاطع ما هو مرئي ومحسوس بما هو مطلق، تنهض من ركام الماضي والذكريات، ولا تتخلَّى عن رؤيتها المفارقة إلى الأشياء وإلى العالم، إلى أي حدّ تفيدك هذه التجربة باعتبارك أنثى في تشييد عالم بديل تحلمين به؟
■ هذا المنحى الكتابي تفرضه أحوال التجربة، وأشكال التفاعل بين الذات ومُحيطها، وما يعتمل في الداخل من مشاعر مُتناقضة تفرضها علاقتنا بالعالم وبأنفسنا وبالآخرين، وتُوقدها أشكال تلقِّينا لهمومنا وانكساراتنا وأفراحنا وأحزاننا، كل ذلك يتشكَّل في سمتِه الكتابي الجديد الذي تخلقه اللغة وهي تعبر دواخلنا، وتنقل صوت الداخل وإيقاعاته التي تتماهى مع إيقاع النص. فكل هذا التشظِّي والانكسار والفرح والوجع واليومي ينصهر في أتون التجربة ويمنحني طاقة جديد لبناء العالم الحلم أو العالم الملاذ الذي يُرمم الصدع ويجبُر الكسر، ويهدهد الروح، وأحيانا يتلبَّس هذا العالم المحلوم به الصدع والانكسار نفسه وتتبدَّى من خلاله قتامة ما نحياه في واقعنا المرير، وبذلك يصبح هذا العالم البديل/الحلم ملاذا وخلاصا حينا، وحينا آخر يكشف عن الوجه المرير لما يحيط بنا من إحباطات ويصيبنا من تصدُّعات. وعلى العموم تمنحني هذه التجربة بوصفي أنثى لها آمالها وأحلامها، ولها أفراحها وانكساراتها وأوجاعها، طاقة للمقاومة عبر القول الشعري، من خلال التوق لتشييد عالم حلمي بديل تمنحه اللغة في أبهى تجلياتها، ويسكبه الإيقاع وهو ينبجس من الداخل. يحدث كل ذلك وأكثر لإسماع صوت الأنثى القابع في داخلي والنابع من عمق إحساسها بوجودها في هذا العالم.
□ لماذا لم تهتمّي إلى اليوم بكتابة قصيدة النثر؛ هل هو موقف نقدي منها، أم تشعرين بأنّ مزاجك الكتابي لا يوافق مناخاتها؟
■ قصيدة النثر شكل كتابي شعري له خصوصيته، وله أدواته، وإذا كان يُظهر سهولة في الاشتغال عليه، فإنه يُبطن عُمقا خفيّا ينبغي أن لا يتجاهله المُتعاطي معه؛ فالتكثيف والترميز والاختزال والبدائل الشعرية التي يراهن عليها، لا تتأتَّى إلا بالممارسة الذكية، وبامتلاك القدرة على تكثيف اللحظة الشعرية، لاسيما أننا نرى أنّ استسهال هذه التجربة يُفرِّخ نصوصا هجينة تستعصي أحيانا على التجنيس. الأمر بالنسبة إليّ لا يتعلق بموقف نقدي، فأنا أومن بأن الشعرية روح وجوهر كامن في جسد اللغة بغضِّ النظر عن الأشكال، وبذلك قد تنتفي الشعرية في نصوص تعتمد على المُقوِّمات المعروفة للقصيدة العربية، تماما كما قد تتجلَّى في أشكال أخرى تتجاوز هذه القواعد، إنه الماء الذي يجري في روح النص. ويمكن أن أقول إنني قد أجرِّب الاشتغال عليها وفق ما يتطلَّبه ذلك من وعي بطبيعتها المغايِرة وطاقتها المُكثَّفة.
□ في سياق اهتمامك بالشعر النسائي المعاصر، كيف تنظرين إلى واقع هذا الشعر؟ وهل هناك تجارب نسائية استطاعت أن تُجذّر «متخيّلات» جديدة في جسد القصيدة العربية؟
■ الكتابة الشعرية النسائية استطاعت أن تؤصل لوجودها، وأن تراكم مُنجزها المختلف، وقد أبانت الأصوات الشعرية عن تعدُّد لافت من حيث موضوعات الكتابة وطرائق الاشتغال وتنوع الشكل الشعري. هذا التعدُّد النابع من واحدية الانتماء يكشف عن ثراء هذه التجربة، وعن انفتاحها على مناخات كتابية لامتناهية تنقل صوت الأنثى الشاعرة وتكشف رؤيتها لذاتها وللآخر والعالم، وبذلك استطاع الصوت الشعري النسائي أن يطرق منافذ جديدة في علاقة الذات الإنسانية بكل ما يُحيط بها، وأن يتناولها من خلال رؤى متفرِّدة تتناسب مع طبيعة إحساس الذات الأنثوية بفعل الخلق الشعري، وبالقلق الذي يعتري الذات إزاء مصائرها وأحلامها وأوهامها وأوجاعها. ويمكن القول إن هذه التجارب استطاعت أن تجذِّر مُتخيَّلات جديدة، وأن تعلن من خلال واحديتها عن تعدُّد لافت تبينَتْ من خلاله مُتخيَّلات الذات والكتابة والكينونة والجسد، واستطاعت الأنساق التخييلية أن تكشف عن رؤى متعدِّدة ومتباينة لا تخضع للنمطية والمعيارية، لكن تتجدد وتتخلَّق في كل فعل كتابي وتبعا لكل حالة.
□ اشتغلتِ على هذه الأنساق التخييلية في أطروحتك الجامعية حول المتخيل في الشعر العربي المعاصر، ألا كشفتِ لنا عن خصوصياتها وطرق انبنائها كما تتجلى في بعض متون هذا الشعر؟
■ بالفعل، وقفت على تعدُّد لافت وسم هذه الأنساق من داخل واحديتها، إذ تنوعت طرائق الانبناء، وكشفت عن لا جدوى المنحى النمطي الذي جعلته بعض المقاربات النقدية توصيفا عاما ينطبق على هذا المُنجز الشعري. فعلى مستوى البعد المرجعي، انخرطت النصوص في عمليات تحويلية يتم من خلالها تفعيل أنوية النصوص المرجعية لتتجه نحو شخصنة نصِّية تخلُقُها راهنية اللحظة الكتابية، والطبيعة الحيوية لتشكُّلات عناقيد الصور. وبذلك، لا تنحصر قوانين التعاطِي مع البُعد المرجعي في الامتصاص والحوار، وإنما تتجه في مسار تفجيري تتناسَل فيه الأنوية التي تنسُجُ منها الذَّوات مُتخيَّلها الخاص، ونسقها النصِّي المُتفرِّد. أما أسئلة الكينونة والجسد والكتابة، فقد ارتبطت بالسؤال الوجودي الجوهري الذي يثيره الموت، حيث كشف مُتخيَّل الكينونة عند الشاعرات عن تعدُّد أشكال مواجهة هذا المصير القدري تبعا لطبيعة إحساسهن بسطوته وجبروته، في حين تجاوز الجسد حدوده الفيزيقية، ونشأت هوياته الرمزية المتفرِّدة بوصفها مُعطى وجوديا بديلا، واتجه مُتخيَّل الكتابة للكشف عن تشعُّب الخطاب الميتاشعري، وعن تعدُّد تجلياته النصية عند الشاعرات، وتوزُّعه بين أبعادٍ ثلاثة رئيسة مُعدَّة للتَّحوُّل تبعا لما تقتضيه لحظة الكتابة.
وحين تتبعت مُتخيَّل الذات، وقفت عند تفاوُت وعي الشاعرات بتمثُّل المُعطى الأوتوبيوغرافي في البناء النَّصي الشعري، وفي نسج حكاية الأنا المُتخيَّلة، وانخرط هذا المُعطَى وهو ينتقل من مَقُول الحياة، إلى المَقُول الشعري، في سيرورة خلقٍ جديدة تقتضيها دينامية التخييل، إذ تخلَّقت الأنساق التخييلية من حكاية الأنا المُتخيَّلة، بعيدا عن معايير الاستعادة والتطابق، في حين انبنى مُتخيَّل الذات الجماعية من أنوية الهم الجماعي المشترك، حيث ارتبط قول الأنا الجماعية عند الشَّاعرات بمأتمية السقوط والتصدُّع والتشظي والاغتراب في بناء درامي سردي مشترك. كما وقفت عند علاقة الذات بالآخرين الأغيار، وخلصت إلى انخراط أنساق الغيرية في مسارٍ دينامِي مُتحوِّل تعدَّدت من خلاله علاقات الذات بالآخر، تبعا لمواقفها المختلفة، ولدرجات هشاشتها وانشطارها الجواني، وتحولت هذه الأنساق عبر انبنائها المُتخيَّل، إلى وجود آخر مُتخيَّل للذات، وإلى تجلٍّ واضح لهمومها ولهواجسِها وهي تبحث عن أناها في هذا العالم.
وعلى مستوى الفضاء، كشفت الأنساق التخييلية عن انخراطه في حالة انوجادٍ جديدة تمنحها شبكات الصور بعد عمليات محو رمزِي شامل لبُعده المرجعي والإحالِي، وتعدَّدت الأفضية وانبثقت من رَحِم الذَّات، وبذلك سمح هذا التَّذويت الخاص بانبثاق أفضية نوعية متخيَّلة منذورة للتخلُّق المستمر. أما الأنساق المكانية المُتخيَّلة، فقد تجلَّت بوصفها جوهرا لوجود الذَّات ولكينونتها، وانتقالها من الثّبات إلى التحوُّل، ومن الأحادية إلى التعدُّد، ومن الحدود الفيزيقية الهندسية إلى التجلِّي الجوهري، وارتبط الإيقاع بالحركة الجوانية للذات الشاعرة، واشتغلت آلياته على تفجير ذاتية إيقاعية نوعية تتعدَّدُ أنساقُها المُتخيَّلة، تماما كما تتعدَّد مكونات المكان الشعري وهندسته البصرية تبعا للحركة الجوانية للذات الشاعرة.
□ هل لك طقوس وحالات مخصوصة في كتابة القصيدة؟ وهل تعودين إليها من أجل تنقيحها وإعادة كتابتها؟
■ لا أعقد موعدا خاصّا مع الكتابة، لكنِّي أصيخ السمع لصوتها الكامن الذي تشتعل شرارته الأولى فأتلقفها بشغف حيثما كنت. ألملم نورها الأول في اللحظة التي ينبثق فيها وأحيا زمنها، وأتولاَّها بالعناية بعد ذلك لتستوي متى شاءت في سمتها الأنيق الذي يبهج الروح، كأننا نولد لحظة فراغنا من كتابتها ولادة جديدة، ثم ما نلبث أن ننسى لننتظر ولادات أخرى مُتجدّدة تمنحها القصيدة في لمعاتها المتوالية. نعم، أعود إليها وأعيد قراءتها وأسمع صوت ذاتي من خلالها، ويسعدني أن أتمم أناقتها وبهاءها بالحذف والتنقيح، لتكون عالية في حضورها المُدهش.
□ كيف تنظرين إلى ما يجري الآن في غزة من أحداث مأساوية بمرأى العالم؟
■ ما يجري في غزَّة يُدمِي الروح، وتكاد القلوب تتفطَّر من بشاعة ما نتابعه على الشاشات. يا هول ما يلقاه الأبرياء على الأرض، إنهم على موعد يومي مع الموت الجماعي الفظيع، كأنما هو خبزهم حين يجوعون، وماؤهم حين يظمأون، ونورهم حين يتخبطون في ظلمات الدروب والأنقاض. إنه الهول الذي يُخرس اللغة ويجعلها عاجزة عن القول، فلا تستطيع البلاغة ولا يقوى الخيال الواسع على توصيف هذه المشاهد القيامية، إنها أكبر من كل ما تستطيعه اللغة، والقول الفصل للموت المتناثر على الأرض.