هاتف جنابي (1952) شاعر ومترجم عراقي. اختبر دروب المنفى والاغتراب، وأحيانا الشعور بالاقتلاع، منذ خروجه من بلده العراق في سبعينيات القرن العشرين؛ ولهذا نفهم شرط كتابته الشعرية ككتابة منفى وهجرات. ينتمي إلى جيل السبعينيات الذي هو امتداد طبيعي لجيلي الرواد والستينيات، لكنّه لا يشعر بالانتماء إلى أيّ جيل. كتب مختلف أنواع الشعر، وخبر أنّ القيمة الشعرية عابرة للأشكال. صدرت له باللغتين العربية والبولندية مجاميع شعرية عديدة، بل إنّ جملته الشعرية تأثرت بأفقها السلافي، بما تنطوي عليه من رعشة وتردد واقتصاد في القول. ولولا ترجماته عنها لم نعرف شيئاً عن هذا الشعر العظيم، وفي مطلعه شعر فيسوافا شيمبورسكا (1923- 2012). ينظر إلى واقع الثقافة العربية اليوم بحسرة، لكنّه لا يخفي تفاؤله الحذر.
* خرجت من العراق في سبعينيات القرن العشرين، واختبرتَ دروب المنفى والاغتراب، وأحيانا الشعور بالاقتلاع؛ إلامَ يُمكن أن نعتبر ذلك شرط كتابتك الشعرية وأفقها؟
– لا يُشكّل المنفى والاغتراب الشرط اليتيم لكتابتي الشعرية وممارستي الأدبية- الثقافية أو الأكاديمية، ويكفي قراءة أي مجموعة شعرية لي لترى حقيقة ما أقول. في الواقع لم أكن مستعدّا لكذا رحلة لا نهاية لها. لقد أملتْ عليّ الأحداثُ تجارب معقدة، لم يستعدّ لها في أوّلياتها ذلك الحالم المُقاد إلى معركة مفتوحة، مع عدو متعدد الأذرع والأسلحة. لازمني «عَوز مادّي» وإرث يرفضه الآخر المختلف، لكن ذلك في مجمله صهرني كالفولاذ في ما بعد. مع ذلك، اعتراني شعور قوي بـ»اقتلاع» حقيقي، خاصة بعد مرور سنوات الإعجاب والانبهار الأولى بالبلد الجديد وثقافته وطقسه المغايرين تماما لما اعتدتُ عليه، حتى انطبقتْ عليّ بحذافيرها مقولة الشاعر تشيسواف ميووش: المنفى يدمر، وإذا لم يحطمك فستكون بفضله أقوى!
لم أكنْ أستوعب تمدّد إقامتي في الخارج ولهذا كنتُ أعيش مرحلة نسيانٍ ومحوٍ رغم عواقبها غير المحسوبة حتى النهاية، إلا أنها خفّفت من وطأة المنفى. تحوّلتْ حياتي بمرور الأيام إلى مزيج من العذاب والفرح والشعور بالخيبة والهجران. ثمة الحيرة أحيانا متمثلة في البعد وفقدان الغطاء من الوطن الأم حتى تجاسر عليّ الغرباء، ولولا صلابتي وإصراري على إثبات الذات لوطأتني «بميسمٍ» سنابك خيل الآخر المختلف، بعد أن نالت منّي سهام الأقربين. هكذا فرض المنفى والاغتراب والاقتلاع الشروط في بادئ الأمر، وكأنّه خَذُوفٌ مرتد إلى مطلقه، كلما حاول دفعه بعيدا عاد إليه. عشتُ تحت عبء تلك الظروف القاهرة لكنني لم أستسلم لها فتجاوزتها. على أنّ فعل المنفى لم يتشكل خارج وطني وحسب، بل سبق أن عشته داخله قبل الولوج في تفاصيله وتجلياته في الخارج. المنفى داخل الوطن مُمضّ، وهو بمثابة شبكة من قلق وهجران ونكران وخوف واغتراب داخلي. ألم أقلْ في قصيدتي «اغتراب الشاعر وشقاء القصيدة» (وارسو 1980):
«هذه القصيدة تستميتُ وتستحيلُ
حطامَ روحٍ أو تراويحَ انعتاق
يرجّها المنفى فتهمي مثل عصفور تناهشهُ الصقيع!
وحين أسألها لماذا يا عدوّةَ راحتي هذا النجيع؟
تعدو وتلطمني على صدري
فيدمى من صرير الوجد قلبانا ونبكي
هذي القصيدةُ محرقة
مرثيةُ الآتي وأغنيةُ اليمامة والخراب
تنازعٌ في الروح أو قارورةٌ مندلقة
صلعاءَ عادتْ من منافيها إلى المنفى».
كان الوطن الأم عبارة عن منفى وجودي، أما منفى الخارج فهو متعدد الأذرع والأبعاد، ويمكنه أن يتحول في أيّ لحظة إلى كابوس. بالمناسبة كنتُ من بين أول الأكاديميين العرب خارج المنطقة العربية في دراسة المنفى، وممن فرقوا بينه وبين المهجر، وكرّستُ له مجموعة من الدراسات. ومن هذا المنطلق سافرت إلى أمريكا للتعمق في هذا المجال. ومن هنا يمكنني القول إنه قد تلبّسني المنفى فعلاً لكن إلى حين. لاحِظْ، عندما يتلبّس الهوسُ أو الجنون أو الحبُّ كائنا من كان، تراه غارقا في شرطه وأسره ولا منجاة منه إلا بالتعبير عنه، وحتى هكذا «تنفيس» قد لا يكون كافيا وشافيا إلا بنهاية حقيقية تليق به: فإما معايشته حتى الموت، أو الخلاص منه. لم يَرِد المنفى كثيرا وحرفيا في شعري، لأنه حاضر في كل مكان تقريبا حتى تجزّأ وذاب في كتاباتي وحياتي.
* تنتمي إلى جيل السبعينيات الشعري، ما الذي أضافه – في نظرك – هذا الجيل إلى ما قبله من جيلي الرواد والستينيات؟ وماذا بقي منه في المعترك الثقافي اليوم؟
– سؤال مهم للغاية! في اعتقادي، لا حدود للإبداع الفني، وبالتالي فالإبداع الشعري غير معني بعملية «التعليب» و»التأطير» و»التسويق». الإبداع جهد فردي محض، والجيل وصفٌ يُشبه عبارة «البيع بالجملة». مصطلح «الجيل» من صنع النقد الأكاديمي، بغية تسهيل عملية الفرز والمتابعة والتوصل إلى مقاربات واستنتاجات. شخصيّاً لا أشعر بالانتماء إلى أي جيل، لأنني أعمل على الانتماء إلى مشروعي الإبداعي. على أي حال سأسايرك طالما أنك وضعتني في خانة «شعراء السبعينيات» من أجل تيسير الأمر على القارئ ليس إلا. من بين فضائل الشعراء الرواد (بدر شاكر السياب ومعاصريه) أنهم كسروا جمود القصيدة العربية عبر نقلها من الاتباع والأشكال الشعرية المتوارثة إلى فضاء أرحب يعرف بـ»قصيدة التفعيلة» ثم «القصيدة الحرة»، ولا ننسى تجديدهم في مجال لغة التعبير الشعري؛ الشرط الذي سمح في ما بعد بالمرونة في التعامل مع تجربة «قصيدة النثر». وعليه فهم كانوا بمثابة كتيبة متطوعة استكشافية – تعرّضية استطاعت أن تكسر الخطوط الأمامية للخصم. ما فعله الرواد، خاصة السائرين على نهج التحديث، جعلهم يُغطّون على من جاء بعدهم مباشرة فاختفى من اختفى، وكان على الناجين منهم أن يعملوا (مع لمسة الاحتماء بقوى سياسية ذات باع في الترويج الإعلامي) بأناة وتراكمية إنتاجية وفي حقول مضافة أخرى كالترجمة وكتابة القصة والرواية والنقد، كسعدي يوسف، على سبيل المثال لا الحصر، حتى حان وقتهم ليثبتوا جدوى وجودهم الشعري، ولولا الرحيل المبكر للسياب ونكوص نازك الملائكة وانهماك صلاح عبد الصبور في التأليف المسرحي الشعري، وغلبة المباشرة والتقريرية والسياسة في شعر البياتي ويبوسة القول الشعري وغلبة الفكر في شعر بلند الحيدري وخليل حاوي وتعثر شعراء آخرين، لأصبح من الصعب على سعدي وزملائه البروز سريعا بالحجم المعروف. لديّ قائمة غير قصيرة من الأسماء التي خفتت أو تبخّرتْ، أعني أولئك الذين عاشوا شعريا بين جيل الرواد وما يسمّون «شعراء الستينات». قام أتباع هذا الجيل بتوسيع (وأحيانا استنساخ) عملية النقل من تجارب الشعراء الغربيين، خاصة الشعر الأمريكي، فأصدروا البيانات الشعرية، وترجموا من تجارب مجايليهم من شعراء الغرب، وروّجوا لأنفسهم نظرا لعملهم المباشر في وسائل الإعلام. من جانب آخر، جعلوا الجملة الشعرية العربية أكثر سردية وانسفاحا مقارنة بما كانت عليه في شعر الرواد، وأدخلوا بعض عناصر النثر وبعض أساليبه ووظفوا أدوات السرد والوصف، فسادت النثرية والتقريرية في أسلوبهم، وبرزت اللغة التحريضية في خطابهم الشعري. عموما، انقسموا إلى ثلاثة أصناف رئيسة هي: شعراء متمردون متأثرون كثيرا بالشعر الغربي الذي وجدوا فيه ضالتهم وتميزهم! وشعراء وقفوا في منتصف الطريق مترددين في جسارتهم الشعرية، وآخرون حافظوا على الخطاب الشعري المحافظ الحذر المائل إلى تجربة الرواد الشعرية، فلا هم نجحوا في تجاوز سابقيهم، ولا هم أضافوا شيئا يُذكر في كسر التقليدية التي حاربها الرواد.
مصطلح «الجيل» من صنع النقد الأكاديمي، بغية تسهيل عملية الفرز والمتابعة والتوصل إلى مقاربات واستنتاجات. شخصيّاً لا أشعر بالانتماء إلى أي جيل، لأنني أعمل على الانتماء إلى مشروعي الإبداعي.
وإذا أخذنا مبدأ الأصالة الشعرية حُكْماً لأمكننا القول، إنّ فضل «جيل الستينيات» يحضر، قبل كل شيء، في مجال زحزحة المسلمات المحافظة وشبه المحافظة في تجارب الرواد، ودعمهم لشكلي القصيدة الحرة و»قصيدة النثر»، والانفتاح غير النقدي على تجارب الشعر الغربي. يمكنني القول من دون الشعور بغبن أحد: إن شعر الرواد كان أكثر أصالة من «جيل الستينيات». أما ما يسمى بـ»جيل السبعينيات» فقد وجد نفسه في وضع صعب ومعقد للغاية على الأقل من منظور هيمنة الجيلين السابقين على المشهد الشعري عراقيا وعربيا. ولهذا برزت بالضرورة مهام أو هموم شعرية – أدبية – ثقافية، من بينها العمل على استعادة هيبة الأصالة الشعرية التي تزعزعت من خلال «جيل الستينيات» هذا أولا، وبذل جهود استثنائية في إيجاد موطئ قدم لتجاربهم الشعرية المنبثقة من قلب الأزمات والحروب وبروز الأنظمة الديكتاتورية في بعض البلدان العربية التي دفعت قسما لا بأس فيه منهم إلى خارج الحدود. لقد استطاعوا في ظل الواقع الجديد التعبير عن الانفتاح على تجارب الآخرين والتفاعل معهم باعتبارهم أندادا ليس إلا، وبهذا خلقوا ولأول مرة معادلة من التوازن بين الشعر المكتوب بالعربية، وتجارب الشعر الأجنبي، غير قائمة على فكرة «التابع والمتبوع» السابقة حتى أنّ قسماً منهم تمكن من الكتابة بلغتين. برزت عندهم لغة وحساسية شعرية متميزة عن تجارب من سبقهم. ساهموا في التعريف بالشعر العربي وترجمته وإيصاله إلى فضاءات غير معروفة سابقا، كما نقلوا الكثير من الأعمال الأدبية الأجنبية إلى اللغة العربية. ولا أجد نفسي مبالغا إذا قلت: باستثناء حالات نادرة لدى هذا الشاعر أو ذاك، لا توجد مرجعية واضحة المعالم لهذا «الجيل» الذي اكتوى بمحاولات تشويه القصيدة العربية من جهة، وبواقع تتناطح فيه الرؤى والأفكار والمعتقدات بشكل مأساوي في ظل زخم الأحداث الكبرى على الصعيدين العربي والعالمي.
لا توجد شيزوفرينيا، ولا شعور بالدونية، ولا انغلاق ولا ادعاءات لدى هؤلاء الشعراء السائرين في حقول من ألغام الداخل والخارج. وحينما انفتحوا على العالم رأوا العالم على حقيقته، فتواصلوا معه عبر الاحتكاك المباشر بتجارب الآخرين من دون وساطات، وفي الوقت نفسه حاولوا أن يغربلوا تجارب ما قبلهم وتجاربهم. فمن واصل الكتابة منهم تراه حاضراً، ومن تراجع منهم فهو لم يفعل شيئا مغايرا لمن سبقه. خلاصة القول، إن كل مرحلة تفرز بعض الأسماء القادرة على تجاوز فكرة المجايلة، وتدخل في نطاق ما يصطلح عليه بالقانون الأدبي لتظل حاضرة في المشهد الأدبي، وربما حتى الثقافي لفترات أطول.
* من خلال عملك في الترجمة، وفي جَسْر العلاقة بين الثقافتين العربية والبولندية، كيف تنظر إلى «بيت الحكمة» في وقتنا الحاضر؛ هل هو في مستوى التحديات التي يفرضها العصر، أم دون ذلك تحت إكراهات الداخل واستبداد المركزية الأوروبية؟
– لو قارنّا نتاج «بيت الحكمة» في كل بلد عربي منفردا مع أيّ بلد أوروبي أو كوريا الجنوبية واليابان، للاحظنا البون الشاسع بين منطقتنا، وتلك البلدان في عدد العناوين المنقولة من اللغات الأجنبية إلى لغات تلك البلدان. والمصيبة تتضاعف في ما لو استقصينا عدد ما ينقل إلى اللغة العربية أساسا ومقارنتها بالألمانية مثلا أو الصينية، وحينها نبدو مضحكين حقا. ولكن هذا الوضع المثبط لا يمنعنا من الإشارة إلى تحسن واقع الحال في العشرية المنصرمة، كمّا وكيفا. طبعا، أنا أتحدث عن الترجمة في المجالات كافة، لأنّ أي نهضة لا يمكن لها أن تقوم في العصر الحديث من دون تفعيل هذا المجال على الصعيدين الرسمي والخاص أو المختلط. وحسنا فعلت بنعتك الترجمة كونها تجسيرا بين الثقافات والأمم. علينا أن نفهم حقيقة كون الترجمة حرفة وليست محض هواية شعرية أو فنية. إنها تحتاج إلى احتراف ومؤسسات تدعمها باعتبارها عملا شبيها بالإبداع. يرى الباحث البولندي كشيشتوف فوردوفسكي أن هناك ثلاث مؤسسات تفصل بين المترجم والقارئ: دار النشر، جهة توزيع الكتاب والمكتبة. ويشير وسواه إلى أن هذه الحالة تغيرت نحو الأحسن في سنة 201؛ بعد دخول شبكة (أمبيك) لبيع الكتاب، والمطبوعات الموسيقية، والأفلام، والألعاب والبرامج الكمبيوترية، والكتب المسجلة إلكترونيا، وأقراص الموسيقى وقطع الحاسوب، وحتى بيع التذاكر للفعاليات الثقافية وسواها. هذا يعني أن المواطن المعني يمكنه العثور على الكتاب الفلاني والمجلة الفلانية والأشياء الأخرى المشار إليها أعلاه في أحد فروع هذه الشبكة المنتشرة في عموم البلد. وعليه، فمثل شبكات كهذه تقوم بترويج الكتاب ورقيا وإلكترونيا، وتقيم الندوات وتنشر البوسترات الدعائية. الخلاصة هي أنّ لـ»بيت الحكمة» دورا كبيرا في تفعيل الحركة الثقافية، المعرفية، الفكرية والتجارية في بلدان أوروبا وبعض البلدان الآسيوية كاليابان والصين وكوريا الجنوبية وحتى الهند. وما صناعة الكتاب المحترفة في الدول الفاعلة وما يرافقها من معارض الكتاب المحلية والدولية، سوى دليل دامغ على ذلك.
لم يحظ الأدب المكتوب بالعربية بالاهتمام المستحق من قبل الآخرين، في أوروبا وأمريكا مثلا. لا يخفى على المتابعين الشوط الذي قطعه الإبداع باللغة العربية في الخمسين سنة الأخيرة.
بالانتقال إلى الشق الأخير من السؤال نلاحظ وجود هوة كبيرة على صعيدي الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى وبالعكس. لم يحظ الأدب المكتوب بالعربية بالاهتمام المستحق من قبل الآخرين، في أوروبا وأمريكا مثلا. لا يخفى على المتابعين الشوط الذي قطعه الإبداع باللغة العربية في الخمسين سنة الأخيرة. لا بدّ من الاعتراف بأن العالم الغربي تتحكم بتوجهاته الثقافية استعلائية ملحوظة، نراها واضحة في تعامله مع الإبداع العربي لأسباب بعضها تاريخي، من قبيل النظرة التقليدية للعرب والمسلمين، والآخر معاصر تدعمه الأحداث السلبية الجارية في البلدان العربية، المتمثلة بعدم الاستقرار والتناحر والافتقاد إلى مشروع ثقافي وحضاري واضح المعالم. الغريب في الأمر أنّ العالم العربي وما يفرزه من تفكك وتناحر وموجات هجرة شرسة أصبحت مادة طازجة للباحثين والكتاب والإعلاميين في أوروبا والعالم. معظم وسائل الإعلام منهمكة في تسليط الأضواء على مشاكل الهجرة واللجوء ومخاطر الإرهاب، مدعومة بدراسات أكاديمية تتابع، تدرس، تحلل وتستنتج. ونرى زمرة من الأكاديميين من البلدان العربية يساهمون في مثل هذه الدراسات التي لا تسع «حوصلة» الرقيب العربي لها. أما الجانب العربي فمنشغل في الدفاع عن نفسه! شخصيا تراني في هذه المناسبة وتلك أكرر مقولة المتصوف النفّري: «إذا لم يعمل الخاص على أنه خاص هلك». والعمل المقصود هنا يتمثل في وضع الخطط والمشاريع، وتوفير سبل تنفيذها ونجاحها، والخاص ليس بالضرورة أن يكون فردا، بل يمكن أن يكون جهة. ما زال ينتظرنا عمل كثير متشعب ومتنوع. على البلدان العربية أن تضاعف جهودها في إعلاء شأن «بيت الحكمة» في اتجاهين: الترجمة من وإلى العربية، وعدم النظر إلى بلد المترجم كمعيار للدعم طالما أن اللغة العربية واحدة.
* عملتَ محاضرا في جامعة وارسو وجامعة إنديانا في بلومنغتن الأمريكية، وتعرفتَ عن قرب على الوسطين الثقافي والأكاديمي. أسألك عن موقع الأدب العربي في الأكاديميا الغربية، وعن أشكال النظر إليه من طرف ممثّليها؟
– لا يخفى على أحد اليوم ما قام ويقوم به الباحثون والنقاد ممن لهم أصول وجذور عربية وغير عربية، تعتبر البلدان العربية موطنا أصليا لهم. دعني أرسم جدولا توضيحيا للموضوع. هناك اهتمام أكاديمي تقليدي يرتفع منسوبه أو ينخفض حسب الأحداث، تقوم به الجامعات الغربية، خاصة أقسام الدراسات الاستشراقية، مضافا إليها ما تقدمه حقول التخصص الأخرى. وثمة رافد ملموس ثانٍ يتمثل في جهود المنحدرين من البلدان العربية من العاملين في الجامعات الغربية في شتى التخصصات. يضاف إلى هذين الرافدين رافد ضعيف ثالث يمثله المترجمون والكتاب مزدوجو اللغة.
عموما، يتراءى لنا أن حجم ما ترجم من الأدب المكتوب بالعربية ما زال محدودا ودون الطموح، ولا يعبر عن هذا الطيف الممتدّ من المحيط إلى الخليج العربي. من الملاحظ أن أغلب ما دُرس أو كتب عن أو تُرجم من الأدب العربي في الجامعات الغربية ذو مرجعية تاريخية، تقليدية، وفولكلورية، نظرا للتركيز على ما يخص نتاج عصور ما قبل الحداثة العربية، ورغم فائدة هذا التوجه أكاديميا، إلا أنه يغيّب النتاج الإبداعي الأحدث في تاريخ المنطقة العربية وكأنهم يوحون، عن قصد أو دون قصد، إلى افتقاد هذا النتاج التراكمي المعاصر إلى الأصالة والعمق. إنها لقطيعة في الدراسات والاهتمام والترجمات بين الماضي ونتاج الحاضر ذات مردودات سلبية على فهم الثقافة العربية ومستجداتها، أدبيا وفنيا وفكريا وكما ينبغي. لو نظرنا إلى ترجمة الأدب المكتوب بالعربية إلى اللغات الغربية لألفينا أنها تقتصر على عدد محدود من الشعراء والروايات، وبعضها جراء جهود شخصية وعلاقات، وكأنها شهادة على غياب البرامج الواضحة المعالم مقارنة بازدياد وهيمنة ترجمة ودراسة أدب كل دولة أوروبية من قبل الدولة الأخرى. خُـذْ على سبيل المثال لا الحصر مقدار ما يترجم وينشر من أدب أمريكا اللاتينية ونظيره العربي. تقودنا النتيجة إلى خسارتنا. في اعتقادي، رغم الاهتمام الملحوظ بالأدب العربي عموما في العقود الثلاثة الأخيرة إلا أن النظرة التقليدية والإقصائية في أوساط المثقفين الغربيين وأدبائهم ووسائل إعلامهم وجامعاتهم، ما زالت هي السائدة للأسف، ولا يمكن لهذا الوضع أن يتغير إيجابا إلا بدعم وجهود مدروسة ومرسومة من قبل البلدان العربية وجامعاتها ومثقفيها في داخل البلدان العربية وخارجها. باختصار ينبغي التخلص من «ثقافة الكباب».
* كيف تنظر إلى واقع الثقافة العربية اليوم؟
– لا تتوفر لدينا معطيات عن حجم المؤلفات ونشاطات المؤسسات الثقافية والعلمية والفنية، ولا عن مقدار ونوعية ما تطبعه دور النشر في البلدان العربية؛ ولهذا فإن أيّ تقييم لواقع الثقافة العربية سيكون عبارة عن اجتهاد شخصي يستند إلى المتابعة سابقا وراهنا. بودّنا لفت الانتباه إلى أن مراكز ثقافية – معرفية عربية قد تم تغييبها عن الوجود بسبب تفكيك المجتمعات والبلدان التي كانت تحتضنها، ولا يخفى على أحد انحسار دور كل من سوريا، لبنان، العراق، ليبيا، تونس، اليمن (كل حسب حجمه ونسبة مساهمته) أو ضعف الحركة الثقافة – الفكرية العربية في الجزائر والسودان مثلا. مقابل هذا الانحسار نلمس حركة ثقافية – أكاديمية متنامية في بلدان الخليج العربي بفضل الدعم الرسمي (نتمنى تواصله) واستقطاب قسم من المبدعين والأكاديميين العرب. ثمة نزيف هائل للإبداع العربي والعقول وللثروات العربية، وموجات متلاطمة من المهاجرين. واقع الحال العربي متمثلا في غياب برامج التنمية المتواصلة، وتقهقر دور الجامعات، وعدم الاستقرار المجتمعي والسياسي وتفاقم النزاعات المحلية المتخلفة، وتسطيح المعرفة ثم تراجع دور النتاج النقدي – الفكري – المعرفي العربي مقارنة بنتاج النصف الثاني من القرن العشرين على أقل تقدير، لا يدفعنا إلى استخلاص نتائج إيجابية لصالح الثقافة العربية، وما أخزنه من تفاؤل داخلي حذر ناجم فقط عن إيماني بما تكنزه الأجيال الجديدة من طاقات وطموحات يقدح نارها شعورُهم بالخيبة من أسلافهم.