ينتسب محمد بودويك، عمليا، إلى شعراء الثمانينيات ممن واصلوا سيرورة تحديث الخطاب الشعري المغربي، ولاسيما حين استعاضوا عن هتافات الخطاب الأيديولوجي بالبحث في كتابة جديدة وجدت متنفسها في قصيدة النثر، وإن كان قد نشر نصوصه الأولى التي سيضمها ديوانه «جراح دلمون» (1997) في منتصف السبعينيات.
إلى الآن، راكم هذا الشاعر بحساسية أناه الغنائي الذي يمتحن إيقاع الذات ويعبر طاقات اللغة المتخففة من بهرج البلاغة. والأنا الغنائي ـ كما يذهب إليه الشاعر- هو ذات متلفظة في القصيدة، في الأساس.
هكذا، من عمل إلى آخر، تستحق تجربة الشاعر محمد بودويك، بالنظر إلى جدتها وغناها المعرفي، أكثر من وقفة لتأملها وبحثها؛ فهي من التجارب النوعية التي تترك لدى قارئها شعورًا رائعًا بجدوى الشعر في زمن لاشعري.
■ كيف جاء محمد بودويك إلى الشعر، وعقد عليه زمام كينونته؟
□ أما الإجابة الفورية المباشرة فصعبة مما لاشك فيه. لكنني جئت إلى الشعر من بوابة القصة القصيرة، ومن بوابة الأغنية المغربية والعربية في وجهها الشعري الفصيح بالدرجة الأولى. فقد كتبت القصة في أول بسملتي الأدبية، وألفبائيتي «الإبداعية». وأذكر كان ضمها دفتر أخضر من فئة 12 ورقة، يحرس غلافه الكارتوني المقوى، أسد بهي الطلعة. ثم سرعان ما جفوت القصة كتابة مع أنني ظللت ألتهم القص والرواية مُذاك إلى يومنا هذا. ولعل إدماني على الإنصات إلى الأغاني المغربية، أن يكون وراء تأثري بالشعر، وفي خلفية ما وطدت العزم عليه في ما بعد، وذلك بالإقبال على قراءته في المتون المتاحة في تلك فترة.
■ فهل تكون قوة النوع الأدبي المقروء، هي الموجه لاختياره طريقا للتعبير، ووسيلة للبوح، وموتيفاً لتشريح الذات، ومركبا للعبور؟
□ ولكن، لماذا لم أستمر مواظبا وفيا للقص والحكي، وفي بلدتي جرادة، ما يغري بالحكي، ويقدم كنزا ثمينا من حوادث يومية وفواجع، ومسرات، وخرافات، وشعبيات؟
لست أدري، وإن كنت أدري أن شاعرا بعينه قد يكون وراء عقوقي، وحملي على تغيير أفقي وطريقي، ومجرى خياري، فوق سماعي الدؤوب للأغاني العاطفية الحارقة؟ فهل يكون أبو القاسم الشابي المعذب الحالم؟ أو علي محمود طه المبدع المُعَنى؟ أو نازك الملائكة عاشقة الليل، وقرارة الموجة؟ أو شعراء الأرض المحتلة (توفيق زياد- معين بسيسو- سميح القاسم- محمود درويش، وفدوى طوقان)؟ لست أدري (كأنها مصادفات بتعبير الشاعر الراحل محمد الميموني، مستلفا عنوان سيرته الباذخة؟ كأنها يد لا مرئية، يد ميتافيزيقية ما قادني إلى التورط الجميل في كتابة الشعر. وها فعلت، وكتبت ما أدعيه «شعرا». وتسوق لنا الأقدار ـ في الطريق- أشخاصا كأنما خلقوا ليؤثروا فينا، ويجبروا عثراتنا، ويوجهونا الوجهة «الصحيحة» في أفق بناء الذات، وحيازة الصوت الشخصي وسط الأصوات الكثيرة والمختلفة الشاهقة البديعة، والأصوات المتحشرجة الواطئة. ولم يكن هذا الشخص غير الشاعر أحمد المجاطي الذي كان أستاذا لنا في جامعة فاس، والذي أحيــي بعمق ذكراه هنا. فقد وجهني إلى قراءة الشعر، ثم إلى الكتابة. إلى قراءة سعدي يوسف، وأدونيس، ومحمود درويش، وصلاح عبد الصبور، وعبد الوهاب البياتي، ومحمد عفيفي مطر. ولم يكتف بالتوجيه والنصح، بل زودني بأعمال بعضهم الشعرية مطبوعة في «دار العودة»، وما أدراك ما دار العودة في تلك الأيام.
ومن ثمة، أصبحت لكلامي هيئة شعرية وفقا لتعبير الشاعر الفرنسي بول فاليري، لأن هناك، بطبيعة الحال، هيئة شعرية للكلام، وهذه الهيئة تمرأت في أول قصائدي المفارقة لكتاباتي السابقة التي زكى أكثرها ـ عبر الأثير الإذاعي ـ الشاعر إدريس الجائي.
انتقل المعنى في الشعر الثمانيني إلى ما يتجاوز الدلالة، ويوقع في الحيرة والسؤال والإدهاش، وهي العناصر الضرورية لكل شعر وفي كل شعر، نشدانا للجمالي، وصونا لصوت الذات المكلومة، ونداء الأنا المطموس، ما أضفى غموضا لذيذا على هذا الشعر.
■ صار من الدارج أن جيل الثمانينيات الذي تمثل أحد شعرائه الأساسيين، حقق طفرة أساسية في سياق تحديث الشعر المغربي. في نظرك ما هي أهم المكاسب والآثار التي تنسب له، والتي مازالت تفعل فعلها المؤسس؟ وما هي مرجعيات الكتابة التي استلهم منها سبل إبداعه الجديد؟
□ انتقل المعنى في الشعر الثمانيني إلى ما يتجاوز الدلالة، ويوقع في الحيرة والسؤال والإدهاش، وهي العناصر الضرورية لكل شعر وفي كل شعر، نشدانا للجمالي، وصونا لصوت الذات المكلومة، ونداء الأنا المطموس، ما أضفى غموضا لذيذا على هذا الشعر، وكساه جمالا ضمن كتابة أخرى، كتابة مختلفة ومغايرة. ولم يكن ذلك ليتحصل ويتأتى ـ وهذه سنة الحياة والتطور- لولا قدوم رياح حداثية إلى المغرب، هبت من الشام ومصر والعراق، تحمل في منقارها الأحمر واللازوردي، ماء تنعش به اليباس، وهواء لرئة الإبداع لتتنفس هنيئا مريئا. أما هذه الرياح اللواقح، فهي وفرة الشعر الجديد التجريبي على أكثر من صعيد، ووفرة البيانات والكتابات التنظيرية في الحداثة الإبداعية، وعن الحداثة بوجه عام. فإذن، إلى جانب المهادات التي ساهم فيها وبها الشعراء السبعينيون المغاربة والمشارقة والشوام، قامت البيانات، التي دعت إلى التجديد في كل مناحي الحياة، بدورها في تفتيق الدهشة أكثر، وتفتيح العين على ما يلوح في الأفق القريب، والآفاق الإنسانية الكونية الأخرى، وشحذ اللغة شحذا صار معها الصوغ منحوتا، والشعر منعوتا، والجمالي منفوثا، والمعنى القريب الواضح، ملعونا وممقوتا، أي أن الثمانينيين الحاذقين ـ وليس كل الثمانينيين- سعوا إلى كتابة أخرى، كتابة «انقلابية» في بعض النماذج بالذات، بعثرت المعنى، وجنحت الدلالة، وأحدثت إبدالا ملموسا في لاوعي النص، من حيث إبعاده أو استبعاده للنماذج العليا، واحتضانه للهموم الحياتية، والقضايا الصغرى، والمبتذل اليومي. ما يعني أن الوظيفة الشعرية، أصبحت هاجسا رئيسا لدى الشعراء، تقتضي تكثيف اللغة، وشكلنة الصفحة، والتهليل للبياض وللسواد، وأسطرة الذات المتلفظة، خلف ما به تنصهر الذات بالإيقاع الخفي العام، والإيقاع الشخصي كدال يتحكم في بناء النص وهندسته، والذهاب به إلى أقصى البوح، والصمت في آن.
إنها حساسية شعرية جديدة ـ كما هي الحال- في ما يتصل بالحساسية التسعينية، والألفية. لكنها حساسية ناست بين الرسوخية والتذبذب، وبين التجريبية الموعى بها، والمتاهية التي تتخبط فيها، لا نقول هذا انتصارا للقصيدة السبعينية، وتفضيلا لها. فليس هناك من تفاضل إلا ما حققته أسماء بعينها شعريا، إن في السبعينيات أو في الثمانينيات، أو ما بعدهما. ويمكن القول ـ استنادا إلى ذلك ـ بأن التجربة الشعرية المغربية بالتكثير، هي تجربة أسماء لا تجربة جيل غامض، جيل هلامي. وهو ما يفيد بأن الشعرية الثمانينية كما الشعرية التسعينية، وهكذا، هي تجارب اسمية يتفاوت فيها الشعراء، ويعلو فيها سهم على سهم. ولهذا السبب، نتحدث ـ عادة – عن سبعينيين بالاسم، وستينيين كذلك، وثمانينيين أيضا، أي عن تجارب شخصية، وأصوات خاصة، ونصوص مخصوصة. وهي التجارب الشعرية التي تتخطى التجييل والتحقيب، مستمرة بشعرها، نابضة بجمالها، مؤتلقة بمأتاها، متوهجة بدمها وتوقيعها الشخصي.
لا أتصور شعرا لاغنائيا، أو من دون بعد غنائي، إلا إذا كان شعرا دراميا بالتمام والكمال، أو شعرا ملحميا يقوم على الحكي والقص والرواية والأخبار.
■ أصدرت باكورتك الشعرية «جراح دلمون» سنة 1997، لماذا تأخرت عن الخروج بها إلى الناس، مع العلم أنك بدأت منذ أواخر السبعينيات؟ هل هو تهيب التجربة من توقيعها الشخصي؟ أم ثمة ظروف موضوعية ساقتك إلى ذلك؟
□ قلت في مكان آخر، وأنا في صدد الكلام عن تأخري في الخروج بديوان شعري إلى السوق، مع أن أكثر من عقد مرّ على بداياتي في «انتشاري» بدون أن يرى النقاد والقراء، شعري يضمه كتاب، الأمر يعود إلى «قلق التأثر» وفقا لعبارة الناقد الأمريكي هارولد بلوم، ما يفيد بأنني، في لحظة وعي وانسجام مع النفس، ومراجعة الذات والمكتوب الإبداعي، قررت ألا أكتب، وإن فعلت فعلى فترات متباعدات، وهو ما حدث.
فما دهاني؟ لا أكتم أنه التهيب… التهيب هكذا. فأنت، قلت لنفسي الأمارة بالشعر السريع، والكتابة المتسرعة بغية الظهور ليس إلا، قُدام هامات في الشعر، وأقدام راسخة في مجال الكتابة والإبداع، أين قدمك منها أيها الضئيل؟ ثمة أصدقاء كثر يعرفون هذا القرار المفاجئ الذي أفادني كثيرا في ما أقدر؛ ودليلي الأول على ذلك صمتي وانكماشي وتهيبي، إذ أنني لم أنشر مجموعتي الشعرية الأولى «جراح دلمون» إلا عام 1997، كما تفضلت. وإذن، كان يجب العثور على شيء، العثور على صوتي وإضافتي؟ لكن كيف البلوغ إلى ذلك؟ اختصرت الجواب بالاطلاع النهم، والقراءة المتواصلة ليل نهار، قراءة الشعراء المتميزين، والمفكرين المرموقين، والساسة الذائعين، والعلماء المتنورين. كانت العزلة الذهبية المرغوبة والمفروضة، طريقا إلى إنضاج التجربة، وعناق رحابة المتخيل الشعري العام عربيا وإنسانيا. وعند عودتي إلى الساحة، بعد خروجي من عزلتي «الذهبية»، نشرت ديواني «جراح دلمون» تحـــت إلحاح أصدقائي، ولو من باب التوثــيق لتجربة أو ذكـــرى شعرية نبتت في حقول النار والدمار، والهـــزائم المتلاحقة التي عرفها مغربنا وطننا سبعينيا وثمانينيا. ثم سرعـــان ما تتــالت وتوالت كتاباتي الشعرية والنقدية، مقترحة نصا شعريا يزعم صاحبه أنه شرع يترجمه ويقوله، ويعبر عن أناه الغنائي، وأناه النحوي، وأناه الأجرومي. يعبر عن خصيصات لغته، وخصوصية شعره الذي جهد واجتهد وكدّ من أجل أن يحمل توقيعه الشخصي، وبصمته الخليقة به.
■ من خلال مجموع أعمالك الشعرية التي انتظمت في الصدور بعد ذلك التاريخ، مثل: «يتبعني صفير القصب» 2003، و»قرابين» 2007، و»امرأة لا تحصى» 2008، وحتى مجموعتك الجديدة «في أبهاء الضوء والعتمة»، انحزت إلى صوتك الفردي ضمن قصيدة النثر التي كنت من المتحمسين للكتابة بها. هل مازالت قصيدة النثر لسان حال الغائبين في التاريخ؟ وإلى أي مدى باتت القصيدة تحتفظ بذلك الوهج الذي كان لها في البدايات الطليعية؟
□ ولسان المشائين، السارين والمدلجين الذي خلعوا عنهم جبة الدرويش، ووضعوا جانبا عصا الراعي، وشرعوا في الرقص والكرنفالية مبعدين عنهم الحشمة والوقار الكاذب والمزعوم، ودائسين بالأحذية الرياضية أعشاب المجاز الضارة، وسراخس الأليغوريا المتعفنة والعطنة. ارتدوا، بكلمة جامعة، «شورت» العوم، و»جينز» الحداثة. وما أعنيه هنا، إن قصيدة النثر وهي تجترح ما تجترحه من آفاق شعرية يتيه الوصف في الإحاطة بها، ويقصر الطرف دون ملاحقتها وهي تطير، من شجرة إلى شجرة، من مربع شمس إلى مربع آخر، ومن منجز تصويري وتخييلي إلى منجز مفارق ومدهش قوامه تارة: الومض السريع، والقبسة المشتعلة، وطورا: التوقيعة الشعرية المدهشة، أو الكثافة اللغوية المدورة، أو البناء النصي المتمدد والممدود لكن المتحكم فيه. إن قصيدة النثر التي أسميها، في جملة ما كتبت من وجهات نظر نقدية في خصوصها، بالشعر الحر، على الأقل ـ في ما نعاينه كاليغارفيا من توزيع للأسطر الشعرية على البياض، وهندسة الجمل وفق استراتيجية جمالية معينة ـ لا تزال سيدة مهيمنة من حيث كمها وتعداد كاتبيها والمنتصرين لها بما هي مقترح جمالي آخر اقتضاه داعي التطور والتحول، واهتزاز المثل والقيم. ولا تزال تحتفظ بالوهج الذي كان لها في البدايات الطليعية، لكن على يد أفذاذ يباشرونها، ويتعاطون لندائها، وينخرطون ملبين طلباتها اللغوية، وإدهاشها الجمالي، وفورتها الفنية. ليس بالشكل الذي تعهدها به أنسي الحاج أو فؤاد رفقة أو محمد الماغوط مثلا، لكن بشكل مخالف حتى وهو يُسامِتُ جينَتَها التأسيسية، ويلبي احتياجها وحاجتها النظرية. وإلا، فإنه من اليسير القول بضمورها ويباسها وهزالها على يد جيش من الأدعياء، باشروها وهم خُلْوٌ من كل استعداد وزاد معرفي وثقافي وجمالي. وفي البال، تَحَفظُ الشاعر محمود درويش عليها، أي على نصوص منحطة ارتدت اسمها. كما اعتبرها الشاعر عز الدين المناصرة، قصيدة شعرية خنثى، وسمى من يكتبها بالكاتب لا بالشاعر، علما أن المناصرة كتب أعمالا شعرية بها، وفي رأسها (الكنعانيادا). ولولا ثلة مضيئة من كاتبيها ـ شعرائها، مبثوثة كالحجر الكريم، هنا، وهناك على امتداد العالم العربي، لكانت قاصمة للشعر العربي ذي التاريخ المجيد والأثيل، أي أن الذين قالوا بصعوبة كتابتها لم ينطقوا عن هوى، بل قالوا ذلك وأياديهم على قلوبهم من أن يتقدم الشكل الشعري إياه إلى المتلقي، وهو نِضْوٌ من جمال اللغة وسلامتها، وَخُلْوٌ من إيقاع جملها وكلماتها وحروفها، وأصوات تلك الحروف.. إلخ.
لا أقول بالتتميم والتكميل، لأنني أومن بأن كل نص شعري يُبْدئ ويجترح مداه، ويخلق مجراه أثناء الكتابة وإبان المبادهة والمراودة.
■ نلمس احتفاءك الدائب والحيوي بالغنائية بوصفها فعالية الذات في خطابها، في الوقت الذي نجد فيه البعض يعلن «موت الغنائية واحتراقها». في نظرك، كيف تظل الغنائية في الشعر محفلا إبداعيا لرؤيتنا المعاصرة لعالم متهدم باستمرار، بدون أن تتخلى عن بعدها العاطفي والوجداني الخاص؟
□ لا أتصور شعرا لاغنائيا، أو من دون بعد غنائي، إلا إذا كان شعرا دراميا بالتمام والكمال، أو شعرا ملحميا يقوم على الحكي والقص والرواية والأخبار. وإن كنت أعلم أن كثيرا من الشعر الدرامي المركب ذي الأصوات المتعددة، يحتفل، بقدر يقل أو يكثر، بالغنائية لأنها تضفي على مفاصله، ومِشَداتِه، الليونة والعذوبة، والتلقي المنشرح. والشيء نفسه ينسحب ـ في ظني- على جملة معتبرة من الملاحم الإنسانية، حيث تتخللها العذوبة، والانتشاء الفياض، أو المناحة الذاتية المنبثقة من أنوات الأبطال في الحروب، عند الهزائم أو عند الانتصارات. إن الغنائية ـ كما ذهبت صديقي- هي «فعالية الذات في خطابها»، وهي الذاهبة ـ الآيبة في منعرجات النص الشعري، مضفية عليه ما فيه قوامه اللغوي المخصوص، وما فيه مفارقته كخطاب يرشح جمالا وتَصْدِية وتأثيرا، عن باقي الخطابات الأدبية الأخرى. وليست بحال ـ في ما تذهب إليه بعض المناولات النقدية- متحدرة من مرض الرومانسية، ورخاوة الذات الإنسانية، وهشاشة وضع الكائن الإنساني. والأنا الغنائي ـ بالمعنى الذي أذهب إليه، ويتفق حوله، النقاد الذي تناولوا الغنائية في الشعر، هو كائن لغوي، هو ذات متلفظة في القصيدة، بالأساس. ومن ثم، يكون مفارقا للواقع، متعاليا على قوانينه، وإن نبع وانبثق من الذات الكاتبة، والأنا الأجرومي في الخطاب الشعري، إذ أنه يحتكم في وجوده إلى اللغة، وإلى رحابة المتخيل. فالأنا في الشعر، بما هو/ هي مقوم غنائي، وضمير نحوي وأجرومي متكلم، لا يحيل بالضرورة على الشاعر، وعلى تجربته الخاصة، وإنما هو «لعبة فنية» لخلق ما يسميه ريفاتير بـ(الوهم المرجعي).
مفهوم الغنائية طاله التجني، وعدم الفهم حين حُشِرَ في الذاتية العاطفية والانفعالية، وتمجيد الذات الرومانسية المريضة. وقد تصدت التوجهات الكتابية النقدية الجديدة، والمقاربات العلمية الرصينة، إلى سوء الفهم هذا، فأعادت الاعتبار للغنائية بما هي أس القصيدة، ومدماك الشعر، إن لم تكن هي الشعر عينه. وما يكون الشعر إن لم يكن تعبيرا ساميا رفيعا بديعا عن الذات المتلفظة، وهي تقول كلومها وجروحها، خيباتها وأفراحها في تَمَاس، بل وَتَمَاهٍ ـ أحيانا- مع الأنا الجمعي، وهي ترى بعيون «يوحنا»، كيف تفترس الخطايا السبع جسد وروح العالم في مثله العليا، وقيمة الإنسانية الخالدة. إن الشعر هو المغامرة الأكثر ذاتية بما أنه الحقل المميز لقضايا الذات كما يقول هنري ميشونيك. ولست أشك لحظة في أن ما صنع شعرية محمود درويش الفارهة، هي الغنائية كبعد رئيسٍ من أبعاد تجربته المتفردة والمختلفة. ولنا في كلامه، ما يعضد رأينا: «أنا منحاز للغناء في الشعر. إن المناخ الإنساني الحزين يقتضي دائما الشفافية في التعبير، وأحيانا لا أجد هذه الشفافية إلا في الغناء».
■ في سياق اهتمامك الجمالي والأكاديمي بالشعر المغربي المعاصر، كيف تنظر إلى واقع الشعر اليوم؟ وهل استطاعت القصيدة المغربية المعاصرة أن تتمم مشروع التحديث والمغايرة في آن؟
□ لا أقول بالتتميم والتكميل، لأنني أومن بأن كل نص شعري يُبْدئ ويجترح مداه، ويخلق مجراه أثناء الكتابة وإبان المبادهة والمراودة. ليس هناك ما قبل، وما بعد، أي ليس هناك نموذج إسمنتي قار مستلهم ومستوحى. ومن ثمة، فقراءة القصيدة المغربية المعاصرة التي تَنْكَتِب الآن، تتطلب مقتربا خاصا، ومناولة من طراز نوعي. لكنني أختصر كلامي بالإشارة إلى أن مقوم الإدهاش هو سمة هذه التجربة الشعرية، بدون أن ألتفت إلى كتابات أخرى ليست من الشعر في شيء. أقول بعدم التتميم، والسير على صراط مستقيم، لأن التجربة الشعرية التي نتكلم عنها، هي تجربة متمردة وعاقة لا تكترث بالوصايا، وبالوعظ والتوجيه، مما يفضي إلى القول بأن قانونها ومعيارها ـ إن كان لها ذلك ـ يستكن في كيفيات تشغيلها العين والمخيال، وترويض اللغة، واستنزال مفارقات الدلالة، وتباعد المعنى. إنها حساسية شعرية «لا تتحدد بالمهمة الشعرية للشعر، بل تُعْنَى باكتشاف العالم ومواجهته، ورفضه». فالتحديث والمغايرة يتحددان بما أتيت عليه للتو، أي بمغامرة هذه القصيدة التي تَتَنَطفُ في المفارقة المدهشة، وإفراغ الخطاب الشعري من تاريخية بلاغته وعموده، فهي إذن ارتماءٌ في لُجَج اليومي، ومعترك الواقع، ومراهنة على ما لا يراهن عليه: مراهنة على الانقذاف في المجهول، ومراودة التخوم أو تخطيها، بدون قراءة واستشراف العواقب والعقابيل، وفي هذا ما يَصِمُها بالجدة والمغامرة اللغوية التحديثية، والانكتاب الذي لا يَني يتفتت وينمحي ليترك أثره الذي لا يسمى. أحترم المختلف والمغامر والمغاير في الشعر. هذا دأبي ودَيْدَني. لكنني لا أهادن من يفتقر إلى ألفبائية الشعر، ويدعي ـ مع ذلك- متنطعا، التجاوز والتخطي، وقتل الأب.