قبضة نتنياهو وخَوَر «المعارضة»: دائرة الاجتماع الإسرائيلي المغلقة

حجم الخط
0

الإسرائيلي يائير لبيد، زعيم حزب «هناك مستقبل» وزير خارجية دولة الاحتلال الأسبق، ورئيس وزرائها بين مطلع تموز (يوليو) وأواخر كانون الأوّل (ديسمبر) 2022، وحامل لقب «زعيم المعارضة» غير المتوّج؛ طالب مؤخراً برحيل ائتلاف بنيامين نتنياهو لأنه يدير «حكومة الدمار» وبإجراء انتخابات مبكرة. بيني غانتس، زعيم حزب «أزرق ـ أبيض» وزميل لبيد في المعارضة، مع فارق أنه عضو في مجلس الحرب الإسرائيلي الراهن، طالب بانتخابات مبكرة أيضاً ولكن في أيلول (سبتمبر) المقبل؛ الأمر الذي أثار حفيظة لبيد، فأعلن أنّ الشعب الإسرائيلي لن ينتظر 6 أشهر أخرى.
وكأنهما ينتظران، بأيّ معنى قابل للتصريف العقلي، أن نتنياهو وائتلاف الليكود والأحزاب الدينية المتشددة والفاشية، سوف يصغون إلى هذه المطالب، أو تلك التي ترفعها مظاهرات أهالي الرهائن الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية. أو كأنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي الأكثر ديمومة في الحكم على امتداد تاريخ الكيان الصهيوني، لن يرضخ وحده، فحسب؛ بل سيذعن معه أمثال إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي، أو بتسلئيل سموترش وزير المالية، أو عميحاي إلياهو وزير التراث الذي دعا إلى قصف قطاع غزّة بقنبلة نووية…
وتلك حال غير جديدة على دولة الاحتلال، وغير طارئة في مستوى حيثياتها وحذافيرها، وسبق لها أن تكررت بنُسَخ مختلفة في كثير وليس في قليل فقط؛ وكان نتنياهو، أيضاً، الطرف الأوّل في معظم معادلاتها المتعاقبة، التي شهدت من الأطراف المقابلة بعض أبرز رجالات «اليمين» أمثال أرييل شارون، و«اليسار» أمثال إيهود باراك، كي لا يأتي المرء على ذكر بيادق صراع عابرة في صفوف «الوسط». وذات يوم غير بعيد كان المعلّق الإسرائيلي جدعون ليفي، أحد أفراد قلّة إسرائيلية قليلة من أصحاب الضمير الحيّ، قد اعتبر أنّ صعود نتنياهو إلى الهرم الأعلى في السلطة سوف يكون علامة مشجعة، لأنه «سيحرّر إسرائيل من عبء الخديعة» ونجاحه في تشكيل حكومة يمينية سوف يتكفل بسقوط الحجاب و«يكشف وجه الأمّة الحقيقي أمام مواطنيها وسائر العالم، بما في ذلك العالم العربي. ونحن، ومعنا العالم، سوف نرى إلى أيّ اتجاه نسير، ومَن نحن حقاً. وبذلك فإنّ الحفلة التنكرية، التي تجري منذ سنوات عديدة، سوف تبلغ نهايتها»؛ كما كتب، في صحيفة «هآرتس».
ومضى ليفي أبعد، فأشار إلى سقوط الستارة وانفضاح الزيف الأكبر، أي «أكذوبة» المفاوضات وعملية السلام، حين كانت دولة الاحتلال تقول شيئاً، وتفعل نقائضه على الأرض؛ وهو نهج سيتواصل ويشتدّ إذا فازت زعيمة حزب «كاديما» تسيبي ليفني، أو فاز زعيم حزب «العمل» إيهود باراك، على حساب زعيم حزب «ليكود». نتنياهو سوف يعرض شيئاً مختلفاً، كتب ليفي، لأنه «أوّلاً، ممثّل مخلص لنظرة إسرائيلية أصلية، تنطوي على انعدام مطلق للثقة في العرب وفرصة التوصل إلى سلام معهم، ممتزجة بنزوع إلى الحطّ من قيمتهم وتجريدهم من إنسانيتهم». لكنه، ثانياً، سوف «يثير سخط العالم تجاهنا، بما في ذلك الإدارة الأمريكية الجديدة. ومن المحزن أنّ هذا قد يكون الفرصة الوحيدة لذلك النوع من التغيير الدراماتيكي المطلوب».

في قلب صناديق الاقتراع، فقد كانت «النظرة الإسرائيلية الأصلية» ذاتها، لا تتبدّل إلا في مقدار اتكائها على مزيد من مزيج الرهاب والهمجية

غير مستبعد أن يكون ليفي قد اعتقد، يومذاك، أنّ حكومة يشكلها نتنياهو قد تتألف، أساساً، من ائتلاف أحزاب «ليكود» و«شاس» و«إسرائيل بيتنا»؛ وذاك احتمال دفعه إلى انتظار معارضة هزيلة من الخاسرين، ومساندة مستقرة من ذلك الشارع الشعبي الذي يعتنق تلك «النظرة الإسرائيلية الأصلية» ذاتها التي يبشّر بها نتنياهو. وإذا كانت قيادة «شاس» لم تحلم بعودة مظفرة، على غرار المقاعد الـ 17 التي أحرزها الحزب في انتخابات 1999؛ فإنّ زعيم «إسرائيل بيتنا» أفيغادور ليبرمان، تصرّف وكأنه سوف يتكفّل بتحقيق المفاجأة، وانتزاع رقم في المقاعد يداني ما سيحصل عليه حزب «العمل» أو يزيد عنه ربما.
فإذا شاء المرء قراءة مشهد دولة الاحتلال الراهن من حيث الأحزاب والقوى والكتل، فلن يكون التفكيك أو حتى التحليل التركيبي هو المنهج اللازم لاستخلاص دروس شتى مبسطة بدورها، أو لا يعيبها تبسيط غير مخلّ أيضاً؛ أبرزها درس مركزي يقول إنّ القبضة المحكمة على صندوق الاقتراع تعود لصاحبها نتنياهو، بما تضمّ من أصابع يمين متدين وفاشي وعنصري؛ والقبضة الرخوة، حيث الخور والفشل والعجز عن تقديم سياسات موازية ذات مصداقية، تعود لأصحابها في أحزاب باهتة الخطّ ورجراجة المواقف مثل تلوينات «أزرق ـ أبيض» عند غانتس ولابيد وموشيه يعلون، أو أحزاب آيلة إلى اندثار منتظم مثل «العمل» و«ميرتس» و«كولانو».
لافت، بقدر ما هو طريف وحمّال مغزى بين الماضي القريب والراهن والمستقبل، أنّ استطلاعات رأي الإسرائيليين تشير إلى حيرة حول هوية رئيس الحكومة في «اليوم التالي» لحرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة؛ بين غانتس (52٪) ونتنياهو (27٪) رئيس الموساد السابق يوسي كوهين (13٪) ووزير الدفاع يوآف غالانت (12٪). في قراءة أخرى لهذه المعطيات الإحصائية، ثمة ما يستوجب استدعاء المعطى الأهمّ الذي لم يتبدل، فعلياً، منذ استقراره بعد 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023: 80٪ من الإسرائيليين يؤيدون رحيل نتنياهو وائتلافه الحاكم، مقابل 80٪ (والأرجح أنّ الرقم الفعلي أعلى) يساندون استمرار الحرب.
وأمّا القراءة الثالثة، المشروعة بدورها، فهي تلك التي تفيد بأنّ تظاهرات الاحتجاج ضدّ حكومة نتنياهو، سواء بصدد مشاريع وضع المحكمة العليا على رفوف التهميش أو التعطيل بالأمس، أو مطلب عقد صفقة مع «حماس» لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين اليوم؛ لا تمسّ، في الجوهر تحديداً وليس في الشكل فقط، حقيقة أنّ هذا المجتمع الإسرائيلي، الذي يزداد عنصرية ويمينية وتشدداً دينياً، ويسير بخطى حثيثة مضطردة صوب منظومات الأبارتيد الأسوأ، هو الذي انتخب هذا الائتلاف الحاكم؛ وهو ذاته المجتمع الذي سبق أن جدّد انتخاب نتنياهو والأحزاب الدائرة في فلكه، أياً كانت الفضائح المالية والأخلاقية والسياسية التي لوّثت زعماء هذا التحالف.
وتلك دائرة مغلقة تحكم خيارات مجتمع إسرائيلي أدمن على حلقات انتخابية متعاقبة أشبه بالباب الدوّار، هي في وجهة أولى بعض قواعد اللعبة «الديمقراطية» في تبادل السلطة؛ لكنها، في وجهة ثانية، تعكس الكثير من ذلك المزاج الخاصّ المركزي الذي يتحكّم بالناخب الإسرائيلي وبصندوق الاقتراع تحديداً: الخوف من السلام، الذي يبلغ درجة الرهاب، والانكفاء إلى الشرنقة الأمنية كلما لاحت تباشير تسوية ملموسة تتضمّن، أوّل ما تتضمّن بالطبع، تفكيك هذه أو تلك من الكتل الاستيطانية، أو هذا أو ذاك من الانسحابات أو إعادة الانتشار العسكرية.
التاريخ، من جانبه، لا يؤسس دروسه انطلاقاً من تلك اللعبة أو ذاك المزاج، بل من حقائق صلبة تمسّ معظم مآلات ما تبقى من «عملية سلام» كي لا يتحدّث المرء عمّا تبقى من سياسة سلام بالمعنى العريض المفتوح للمفردتين معاً. ومنذ سنة 1996 كان هذا الباب الدوار قد أسفر عن صعود نتنياهو، ثمّ اندحاره على يد الجنرال المتقاعد إيهود باراك، الذي هزمه جنرال متقاعد آخر هو أرييل شارون، أعقبه رئيس بلدية القدس المحتلة الأسبق إيهود أولمرت؛ كي يدور الباب مجدداً فيعيد نتنياهو؛ ولم تكن ولايتا نفتالي بينيت ولبيد سوى فاصل، تراجيكوميدي لمَن يشاء، يمهّد لمجيء نتنياهو الثالث و… المستدام.
وأمّا في العمق، وفي قلب صناديق الاقتراع، فقد كانت «النظرة الإسرائيلية الأصلية» ذاتها، لا تتبدّل إلا في مقدار اتكائها على مزيد من مزيج الرهاب والهمجية!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية