■ في مقدمته لكتابه «قبل انهيار العالم» الصادر حديثًا عن منشورات الربيع، يرى المترجم أحمد ليثي أن كتابه هذا، الذي يضم ترجمة لعدد من الحوارات مع روائيين ومفكرين عالميين من مشارق الأرض ومغاربها، سيغير فكرة القارئ عن الكُتّاب الذين يظنهم البعض منفصلين عن مجتمعاتهم، وماكثين في برج عاجي، ولا يهتمون بشيء غير أفكارهم، التي غالبًا لا يهتم بها العامة.
في هذه الحوارات، التي عكف ليثي على ترجمتها، يبدو أن الشأن العام والشأن العالمي هما محط اهتمامهم وتفكيرهم، وقد نتج عن هذه الحوارات تأملات هؤلاء عن العالم الروائي، وكتابة الرواية، ونمط عيشهم من بواكير الصباح حتى آخر الليل، حتى أن بول أوستر صرح في حواره، يقول ليثي، عن نوع وماركة الكراس والقلم اللذين يستخدمهما في الكتابة. في هذه الحوارات التي من فوائدها أنها تمكّن القارئ من الاقتراب من حياة الكاتب وآرائه وأفكاره، وتنقل خبراته في الكتابة بصورة مكثفة ووجيزة، يُبدي هؤلاء الكتاب آراءهم في أهم القضايا تجري في بلدانهم، فمثلًا يشتبك كارلوس فوينتس مع النظام السياسي الذي أفقر الوطن ولم يحل مشكلة البطالة، ويصر إرنستو ساباتو على رؤيته في أن العالم سيكون في طريقه إلى الانهيار، إذا لم يقم بحل مشكلاته الروحية، رغم أنه درس الرياضيات والفيزياء، اللتين تجنحان إلى ما هو مادي. ساباتو يؤكد أيضًا، على حد قول المترجم، على أن عصرنا يتسم بتناقض ملحوظ بقوة وغير قابل للمساومة بين العلم والإنسان.
البرج العاجي
في «قبل انهيار العالم» يعتقد ليثي أن ادّعاء البرج العاجي لن يصمد حين نعرف أن رواية لسلمان رشدي أثارت ضجة كبيرة في العالم الإسلامي، وجعلت آية الله الخميني يُصدر فتوى بإهدار دمه. وما كان أورهان باموق، التركي النوبلي، كاتبًا خياليًّا حين قال إننا نحب الأدب، ليس لأنه يتيح لنا كمية هائلة من المعلومات والثقافة، بل لأننا نؤمن بقوة الأدب، وإذا لم نؤمن بقوته، فلنتجنب قراءة أو كتابة الكتب فورًا. يتفق أيضًا إدوارو جاليانو مع باموق حين يرى أنه على الكاتب أن يكشف المناطق المستورة، لأنه دائمًا ما يتم التعتيم على الحقيقة، وأعظم الحقائق التي يتم التعتيم عليها هي الحقيقة السياسية، وحقيقة كيف يمضي العالم من حولنا.
أما عالم الاجتماع النمساوي زيجمونت باومان فيقول في أحد حواراته، إن كل شيء بدا ممكنًا عندما بدأ الناس العربدة الاستهلاكية. فيما يؤكد يورجن هابرماس على أن الأزمة التي يعيشها العالم الآن يمكن تفسيرها بأنها أزمة اقتصادية وفشل سياسي، والمشكلة الكبرى أن من يمكنهم التصرف هم القيادات الحكومية فقط، وهؤلاء لا يتصرفون لبناء مجتمع مشترك، لأنهم يفكرون فقط في ناخبيهم، ولا يوجد مجتمع سياسي قادر على تحمّل تلك الاضطرابات على المدى الطويل.
وحين سُئل كارلوس فوينتس: ألا تمتلك الكلمة قوة ما حين يهينك أحد بلغة أخرى؟ كانت إجابته أنها لا تمتلك أي قوة، لكنه حين يُهان بالإسبانية فذلك يجعله يغلي، كما أنها لغة الحب بالنسبة له، لغة الفضول.
كاتب في المنفي
في حواره مع المخرج فيم فيندرز يقول بول أوستر، الذي يشعر مع كل رواية جديدة يكتبها بأنه كاتب مبتدئ، إنه يعمل فقط حينما تسيطر عليه فكرة لا يملك الفكاك منها، مضيفًا أن للكتاب علاقة بما يسميه طنين الرأس، إنه نوع محدد من الموسيقى يبدأ سماعه، إنها موسيقى اللغة أو موسيقى القصة، ويروح يعيش معها لفترة قبل أن يخط أي شيء على الورق. أوستر الذي لا يعتقد أن ترامب قد قرأ كتابًا واحدًا، لا ينفي عن نفسه أنه دائمًا ما يشعر بالكسل وانعدام الدافع. أيضًا يؤكد أن فعل الكتابة منهك جدًّا بدنيًّا ونفسيًّا، ويمسي متعبًا جدًّا في نهاية اليوم، كما لو كان يركض في ماراثون. أما كارلوس فوينتس فلا يعتبر نفسه كاتبًا في المنفى لأنه نشأ خارج بلده في الأساس، فيما تتلخص حياته في القراءة والكتابة، قاضيًا معظم وقته قبالة مفكرته، ممسكًا بقلمه، ومن وقت لآخر يحتاج لفاصل يسافر فيه، أو يلقي محاضرات في الجامعة خارجًا من عزلة الكتابة التي يحبها متطلعًا دائمًا للالتقاء بأناس جدد. بينما يرى إرنستو ساباتو أن العالم يعيش أزمة روحية، مؤكدًا على أن الرواية تستطيع التعبير عن أشياء أوسع من نطاق الفلسفة أو البحث، كالشكوك المظلمة تجاه الإله، والقدر، ومعنى الحياة والأمل. والرواية، يقول، تجيب عن كل تلك الأسئلة، ليس بالتعبير عن الأفكار ببساطة، بل من خلال الأسطورة والرمز كذلك، أي من خلال الاعتماد على الخصائص السرية للفكر. يرى ساباتو كذلك أنه من حسن الحظ أن الشعر والفن لم يدّعيا مطلقًا الفصل بين العقلاني وغير العقلاني، بين الإدراك والحكمة، بين الحلم والحقيقة. مؤكدًا على أن لدى الحلم والفن والأسطورة مصدرا مشتركا في اللاوعي، إذ يكشفون عن عالم لا يمكن أن يتم التعبير عنه بأي طريقة أخرى. معتقدًا أن الفن لا يحرز أي تقدم أكثر مما يفعل الحلم. أما إدواردو جاليانو أشرس أصوات الضمير المجتمعي في أمريكا اللاتينية، الذي لم يحب بورخيس يومًا، ويعتبر نيرودا أحد كتابه المفضلين، فيقول في حوار مع سكوت شيرمان، إنه دائمًا ما يكون لديه شك في التعميمات، ولا يود أن يناقش دور المثقف أو وظيفة الكاتب، مؤمنًا بأن هذا يعتمد على الموقع، ومن الظلم استخدام التعميم.معتقدًا أنه ليس على الكتاب أن يكونوا سياسيين، بل عليهم أن يكونوا أمناء في ما يفعلونه ويكتبونه، وليس عليهم أن يبيعوا أنفسهم، ولا أن يسمحوا لأنفسهم أن يُشتروا، عليهم أن يحترموا أنفسهم وأن يصونوا كرامتهم.
لغة الحب
وحين سُئل كارلوس فوينتس: ألا تمتلك الكلمة قوة ما حين يهينك أحد بلغة أخرى؟ كانت إجابته أنها لا تمتلك أي قوة، لكنه حين يُهان بالإسبانية فذلك يجعله يغلي، كما أنها لغة الحب بالنسبة له، لغة الفضول، وهي اللغة الوحــــيدة التي تمكنه من قــول كلمات الحب، ولهذا يرغب دائمًا في الزواج من امرأة مكسيكية لأنها ستفهمه.
أما كوينتين، المخرج وكاتب السيناريو الأمريكي، الذي يفضل الاعتزال في الستين، فيرى أن مهمة أي كاتب ليست الكتابة عن نفسه، لكن عليه أن ينظر إلى الجزء الآخر من الإنسانية ويحــاول اكتشافه، أن يكتشف طريقة الآخرين في الكلام، العبارات التي يستخدمونها، معتقدًا أن رأسه يجب أن تكون كالإسفنجة، يسمع ما يقوله كل شخص، ويلاحظ السلوك الفطري للناس. فيما يعتقد كازو إيشيجورو أن هناك جانبًا آخر للأدب، يوجد في الأوبرا والمسرح وبطريقة أشمل، إلى جانب اعتقاده بأن الذين ليس لديهم ولع كبير بالقراءة عادة ما يكونون خائفين مما يعتقد الناس بهم، حين يرون الكتاب الذي في يدهم.
أما سلمان رشدي فيرى أن الرواية تعتبر الإنسان أشياء كثيرة في شخص واحد، معتقدًا أن من يحبون الروايات ومن يقرأون الأدب ويحملونه معهم يملكون إحساس أن تكون إنسانًا، مؤكدًا أن هذا أغنى من الهويات السياسية الضيقة التي يتقاتل الناس عليها هذه الأيام. وقريبًا من هذا يقول أورهان باموق إننا نقرأ الروايات لأننا نؤمن بقوة الأدب، ولسنا ساخرين أو متشككين بشأنه، فالأدب يناسب القراء الذين يتعمدون حسن النية، ناصحًا بعدم أخذ عمل كاتب ما بلا تساؤل، أو أنه شيء مُسلَّم به، على الأقل في البداية.
٭ كاتب مصري