لست ادري لماذا يطلق على الشخص المتيم بحب القراءة دودة كتب؟! صحيح ان الحرير الثمين تنسجه دودة القز، لكنني ارى ان وصف نحلة الكتب افضل وأجمل، فالنحلة حياتها بين الازهار والورود، غذاؤها الرحيق وعطاؤهـــــا عسل شهي فيه شـــفاء، وكــــذلك المعرفة الحقة طيـــــبة نافعــــة تشفي من الجهل. الغريب ان وصف دودة الكتب هو الاشهر حتى في اللغات الرئيسية الاخرى، ففي الانكليزية (Bookworm) وفي الفرنسية (rat de biblioth’que) لنفس الدلالة على محبي القراءة الشغوفين…على اي حال وسواء اعتبرنا القارئ النهم دودة، او نحلة – كما افضل- فهو كائن جدير بالتشجيع والاحتفاء، فضلا عن الحماية من الانقراض. لي صديق – اعتز وافتخر به – من هذا النوع تعرفت عليه منذ سنوات طويلة عندما تكرر التقائي به في مكتبة شهيرة كانت في مدينتنا، وكانت فيما مضى عامرة بالكتب من كافة الانواع.. وبلغات عربية واجنبية، وكانت ملتقى نفر من محبي الكتب، جمعني به حب القراءة وتقارب اذواقنا في ما نفضل من كتب، فضلا عن ادبه وهدوء طبعه وسعة صدره عند اختلاف الرأي، كان صديقي هذا الذي تخرج في كلية الهندسة اكبر مني سنا، مع ان مظهره لا يدل على ذلك، وكان من عائلة ميسورة الحال، ورغم ذلك فهو معرض عن الزواج مع انتفاء الحاجة المادية، كان يتهرب من اعطاء مبرر لذلك العزوف عن الزواج وصرنا مع الوقت نتجنب اثارة هذا الموضوع منعا لاحراجه، لكنه كان يسر عندما امازحه بقولي: لعلك مشروع عقاد جديد. عندما زرته في شقته فوجئت بان الكتب كانت هي الساكن الحقيقي لبيته…. هي في كل مكان على المناضد والمقاعد والسرير، حتى تجد لك مكانا تجلس فيه عليك ان تعيد ترتيب اكوام واكوام من الكتب! هذا الصديق لا يميل لكثرة الثرثرة، لكن ان طرقت موضوعا يثير اهتمامه الثقافي ـ وما اكثر ذلك- فانه يفيض ويسهب في الكلام المرتب والمفصل، واسلوبه ينم عن عمق نظر وسعة رؤية وليس مجرد سرد لمعلومات من دون ربط، فالعبرة بما يعمله فكرك فيما تقرأ لا بكثرة مخزونك من المعلومات، كما يقولون.على عكس ما يتبادر لاذهان البعض عن عشاق القراءة من انهم غالبا انطوائيون انعزاليون، فان لهذا الصديق عددا لا بأس به من الاصدقاء والمعارف، من مشارب فكرية شتى، ولعله يقصد ذلك التنوع، فهو لا يحب الانغلاق. ذات مرة كنت اقضي اياما من اشهر الصيف في مصيف على ساحل البحر المتوسط ودعوته ليقضي معي بعض الوقت فلبى الدعوة، وبعد ان تجولنا في المدينة وتناولنا الغداء واستراح قليلا اذا به يفيق، ويسألني أليس عندك شيء يقرأ؟ قلت الصحف… قال بل كتب! حقيقة لقد فاجئني بل ادهشني سؤاله، ورغم انني من محبي الكتب والقراءة، الا انني لم اكن وقتها مصطحبا كتبا معي، اقر بأنني شعرت بالخجل وقتها، لكنه اغرب وارقى خجل شعرت به في حياتي! قلت له عندك حق.. كيف فاتني ذلك؟ لم يطل صديقي المكث، حيث انه افتقد مكتبته او بعض ما يعزيه عنها، وهو فعلا، لا تكلفا لا يستطيع المكث طويلا بلا كتب، يا له من طراز نادر من البشر! قدر لي ان اسافر مرات لدول اوروبية واعجبني عندهم مشهد القراء – من مختلف الاعمار- يحملون كتبا في ايديهم او حقائبهم ويستغلون اي فرصة مناسبة للمطالعة في القطارات والمطارات، واي وقت للانتظار، مع ان بعض المخضرمين من الكتاب وخبراء التــــربية عندهم دقـــوا نواقيــــس الخطر محــــذرين من تناقص الاقبال على القراءة! ماذا لو رأوا حال القراءة عندنا؟ كتاب ‘الادمان التلفزيوني’ القـــــيم لمؤلفته الامريكية نموذج لذلك التحذير، والكتاب كان تركيــــزه فقــط على تأثير التلفزيون على ملكة القراءة، اذ لم تكن الانترنت منتشرة وقت تأليفه، يتناغم هذا مع شهادات لبعض كبار مثقفينا – ممن قضوا فترات من شبابهم في بعثات دراسية طويلة نسبيا في الخمسينيات والستينيات يؤكدون ملاحظتهم لتراجع في سلوكيات الشباب وتدني اهتماماتهم الثقافية حاليا، مقارنة بما شهدوه في سالف الزمن، على الرغم من ذلك، فالملاحظة المجردة تثبت ان قراءهم لا زالوا اكثر عددا من قرائنا، ولكني اتفق معهم في وجود ارتباط ملموس بين حب القراءة وانضباط السلوك وتوازن الشخصية، لا زالت القراءة اذا مؤشرا حضاريا مهما جدا. القراءة قد تكون ضرورة دراسية او وظيفية مفروضة، لكن لماذا يصل حب البعض للقراءة درجة الولع دونما سبب يجبره على ذلك؟ اراه امرا جديرا بالتأمل، وهو فعلا لفت نظر العديدين من مشاهير الكتاب في مختلف الدول ومن شتى الثقافات، هل حب القراءة غريزة موروثة، ام مهارة مكتسبة بالمران والممارسة؟ واذا كان الشغف بالقراءة مصحوبا بلذة تحببها لاصحابها فما طبيعة تلك اللذة التي تحبب القراءة لهؤلاء الناس، بينما تجد جماهيرغفيرة منصرفة عنها تماما، استثقالا لها بل وسخرية من فاعليها؟ اسئلة حاول الكثيرون وضع اجابات لها، كل حسب رؤيته وتجربته الذاتية، مثلا العقاد المفكر والكاتب الموسوعي المعروف، وأحد رهبان القراءة، يرى ان القراءة وسيلته لزيادة رقعة حياته من حيث العمق، حيث يتعذر مدها في الحيز الزمني والاجل المحتوم المقدر، الذي لا حيلة فيه، وهو يرى ان القراءة هي سبيله لتعدد الحيوات، لان حياة واحدة لا تكفيه، لذلك هو يضم الى حياته خلاصات خبرات وتجارب من يقرأ لهم، كلام معقول جدا. اما فلوبير الروائي الفرنسي الشهير فيقول في رسالة الى الانسة شانتيبه ‘اقرأي كي تحيي ‘… هكذ ا ومن دون مواربة، القراءة عنده ضرورة حياتية انسانية، واذا كان البشر عامة مشتركين في احتياجهم للطعام والماء والهواء، لاستمرار حياتهم الجسدية، فان ما يعبر فلوبير عنه بمقولته المقتضبة البليغة، هو الحياة المعنوية المميزة للانسان، حياة العقل والوجدان.. اما اطرف شهادة للقراءة، وسر طرافتها هو صدورها من واحدة من نجوم وسط اشتهر اهله بالانغماس الشديد في الملذات الحسية وحب الاضواء.. انها الممثلة الايطالية الشهيرة صوفيا لورين، فقد قرأت لها انطباعا عن القراءة لا زلت اذكره رغم تقادم السنين، مفاده: ‘المتعة العقلية المتحصلة من القراءة هي الاعمق اثرا والاطول مدى من كل المتع الاخرى التي عرفتها’، اراها شهادة لها وزنها المعتبر، لانها اتت من شخصية لم ينقصها وقتها ما تعارف عليه الناس من نعم دنيوية.. مال وشباب وجمال، فضلا عن الشهرة والنفوذ. ما سبق قد يوحي بأن القراءة تنحصر اهميتها فقط في قيمتها المعرفية والوجدانية الشاعرية وحسب، كلا، فلقد ابى العلم الا ان يكشف للقراءة عن مزايا جديدة… ففي بحث علمي طريف قرأته للدكتور احمد مستجير يرحمه الله بعنوان: ‘شيخوخة المخ’، اقتبس منه تلك الجمل المهمة القوية الدلالة ‘الاحتفاظ بالمهارات الذهنية يكون افضل ما يكون بين المتعلمين والطبقة الوسطى ذوي الصحة الجيدة…عليك ان تستخدم مخك والا ضاع، يتغير المخ تغيرا ايجابيا مع التجارب الحياتية، وهذا التغير الايجابي ضروري اذا كان لك ان تشيخ بنجاح! لا يجب ان تفقد اهتمامك بالعالم لا يجوز ان تهمل رغبتك في التعلم، الاثارة العقلية مهمة، عليك ان تظل تسأل الاسئلة وتتطلع للتعلم طوال عمرك… التعليم يطيل العمر’. الصينيون لديهم حكمة قديمة تقول ‘القراءة للعقل كالرياضة للجسم’ لقد بدأت الحضارة عندما تمكن الانسان من تسجيل احواله، وما كان لنا ان نعرف شيئا عن الغابرين الا بقراءة ما كتبوا وما كتب عنهم. للاسف ازمة القراءة في عالمنا العــــربي واضحة لا تحتاج لمزيد بــــيان، وهي بلا شك جزء من ازمتنا الحضارية الشاملة… فما تفضحه الاحصائيات الرسمية وغير الرسمية عن انتاج الكتب واستهلاكها في عالمنا العربي شيء محــــزن حقا. ومكتـــباتنا تنعى بوار بضاعتها وجفوة روادها حتى صارت كأنها مقابر جماعية للكتب.