تتصدر الطبقة الوسطى في المجتمع العربي في إسرائيل في العقد الأخير ميلاً واضحاً يسعى لدمج العرب في الدولة في مجالات الاقتصاد والمجتمع والثقافة، وكذا في المجال السياسي. وذلك في ظل التصدي لإقصاء متواصل، جماهيري، سياسي وثقافي، من جانب أجزاء واسعة من المجتمع اليهودي ومن جانب الدولة.
وتلقى هذا الموقف من الجمهور اليهودي ومن الدولة الشرعية القانونية في “قانون القومية” وفي تعديل 116 لقانون التخطيط والبناء (“قانون كامينتس” الذي شدد العقاب على البناء غير القانوني)، وكذا في التحريضات التي يطلقها السياسيون. أما الجمهور العربي، فيواظب على التطلع إلى إحلال تحسين جذري في مكانته ووضعه، بما في ذلك من خلال المشاركة السياسية النشطة في سياقات اتخاذ القرار، كي يحقق المساواة الكاملة في الحقوق المدنية وتوزيع المقدرات أكثر توازناً. وشجع تشكيل القائمة المشتركة (2015) في أعقاب رفع نسبة الحسم، وكذا إنجازاتها في الانتخابات الأخيرة، هذا الميل الجماهيري. بالمقابل، يواصل الجمهور الإسرائيلي إدارة الظهر. في استطلاع معهد “بحوث الأمن القومي” (تشرين الثاني 2020) تبين أن نحو 60 في المئة من الجمهور اليهودي يتفق على أنه لا ينبغي تشكيل حكومة مع الأحزاب العربية.
منذ ما قبل الانتخابات للكنيست الـ 22 (أيلول 2019) صرح رئيس القائمة المشتركة أيمن عودة، بأن المجتمع العربي ناضج لأن يكون لاعباً مؤثراً في السياسة الإسرائيلية. وطلب رؤساء القائمة ثقة الجمهور في ظل التعهد بالتركيز على المواضيع الداخلية (الصحة، التعليم، السكن، التشغيل، القضاء على العنف والجريمة) – ضمنياً على حساب الانشغال بمواضيع ذات طابع وطني. وصوت الجمهور العربي بجموعه للقائمة المشتركة فمنحها 13 مقعداً في الكنيست الـ 22 و 15 مقعداً في الكنيست الـ 23 – ذروة غير مسبوقة. وجاء التصويت الجارف للعرب للقائمة المشتركة على حساب تصويتهم للأحزاب اليهودية، التي انخفضت نسبة التأييد لها في الانتخابات للكنيست المنصرفة إلى الحد الأدنى (12 في المئة في الكنيست الـ 23 مقابل 28 في المئة في الكنيست الـ 21 و 18 في المئة في الكنيست الـ 22.
وهذه التطورات السياسية ولا سيما الانتخابات المتكررة، في ضوء التعادل المتواصل بين الكتلتين المتخاصمتين، جسدت الإمكانية الحرجة للصوت العربي ورفعت إلى الخطاب الجماهيري مسألة شرعيته وإمكانية دمج العرب في ائتلاف حكومي. وقبيل الانتخابات للكنيست الـ 24 وبعد سنوات طويلة من المقاطعة، نضج في أوساط الأحزاب الصهيونية من اليمين واليسار اعتراف بأنه يجب النظر إلى الصوت العربي كعنصر شرعي في بناء ائتلاف حكومي.
ويجري في الجمهور العربي أيضاً “حوار يقظ” في هذا الموضوع، في ظل خيبة الأمل من رفض كتلة “أزرق أبيض” الاعتماد على القائمة المشتركة لإقامة ائتلاف برئاستها، ولا سيما بعد أن أوصت القائمة بكاملها ببيني غانتس لرئاسة الوزراء. نشب خلاف حاد بين عناصر القائمة المشتركة في مسألة كيفية الرفع إلى الحد الأقصى بقوتها السياسية في صالح تحقيق المصالح الحيوية للمجتمع العربي. منصور عباس، رئيس القائمة العربية الموحدة (الحركة الإسلامية الجناح الجنوبي)، يقود الآن نهجاً سياسياً براغماتياً، في السعي إلى تعاون سياسي مع كل قيادة، بما فيها من اليمين، مع إبقاء الجانب الوطني – الفلسطيني في الظل. ودعا عباس القائمة المشتركة ألا تكون مكبلة بنهجها الأيديولوجي – الوطني، الذي لا يسمح لها بمرونة سياسية. في هذا الضوء، نرى خطوات عباس الأخيرة، التي تستهدف التعاون مع الليكود، في ظل التركيز على مجالات عملية، بينها التصدي للعنف والجريمة وكذا تمديد الخطة الخماسية لتنمية المجتمع العربي. يبدو أن نهج عباس يستند إلى رؤيته للأمزجة البراغماتية في الجمهور العربي وكونه أيضاً رجل الحركة الإسلامية، التي تفضل الجانب الديني والاجتماعي على ذاك الوطني. على هذه الخلفية نرى تشكيل الحزب العربي الجديد “معاً”، الذي يقف على رأسه الناشط الاجتماعي محمد دراوشة، ولا يرى تناقضاً بين كون إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية وبين إعطاء مساواة كاملة في الحقوق لمواطنيها بروح وثيقة الاستقلال. ويعتزم الحزب الجديد التعاون السياسي مع أحزاب الوسط الصهيونية كي يندمج في سياقات اتخاذ القرارات في الدولة.
ينظر رؤساء القائمة المشتركة: أيمن عودة من الجبهة، وامطانس شحادة من التجمع، وأحمد الطيبي من العربية للتغيير، إلى هذه الميول بقلق شديد. وشجبوا خطوات عباس المستقلة بدعوى أنها ستمس بوحدة القائمة وبقوتها السياسية في الانتخابات القادمة. وبالنسبة لهم، على القائمة المشتركة أن تواصل مطالبة الدولة بمساواة الحقوق والعدالة الاجتماعية للمواطنين العرب دون التنازل عن المواقف الأيديولوجية الوطنية في الموضوع الفلسطيني. وذلك إلى جانب تعزيز القائمة المشتركة من خلال زيادة التمثيل اليهودي فيها بالتوازي مع تشكيل “معسكر ديمقراطي، كقوة سياسية خارج البرلمان تضم يهوداً وعرباً يتفقون على أربعة مبادئ: إنهاء الاحتلال، وتعزيز الديمقراطية، والمساواة والحماية لمكانة الأقلية العربية، والعدالة الاجتماعية.
يبرز نهج الجبهة، والتجمع، والعربية، الفجوة القائمة بينهم وبين النهج البراغماتي السائد في الجمهور العربي، الذي يتوقع من ممثليه في الكنيست أن يعملوا لتحقيق نفوذ سياسي حقيقي والاندماج في سياقات اتخاذ القرار في الدولة بينما أغلبية واضحة في الجمهور العربي (69.8 في المئة حسب جدول العلاقات العربية اليهودية للعام 2019، للبروفيسور سامي سموحة) مستعدة اليوم للاعتراف بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية، فإن الأحزاب العربية ترفض هذا النهج. وانكشفت هذه الفجوة أيضاً حول اتفاقات التطبيع بين إسرائيل ودول الخليج. فبينما نحو ثلثي الجمهور العربي يؤيدون هذه الاتفاقات (حسب استطلاعات معهد ستاتنت في كانون الأول الماضي، 28 في المئة من الجمهور العربي، يؤيد جداً، و 35 في المئة يؤيدون، مقابل نحو الثلث يعارضون)، صوت أعضاء القائمة المشتركة في الكنيست ضدها، بحكم موقفهم من النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. وانكشف دليل آخر على هذه الفجوة مؤخراً، بتأثير الجوانب الاقتصادية لأزمة كورونا، مع نشر النبأ حول الارتفاع الذي طرأ هذه السنة على تجنيد الشبان العرب، بما في ذلك المسلمون، للجيش الإسرائيلي وللخدمة الوطنية – المدنية. وذلك رغم المعارضة المبدئية المتواصلة من جانب الزعامة السياسية العربية.
ويقضي جدول الديمقراطية للعام 2020 في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية بأن 44 في المئة فقط من المشاركين العرب في الاستطلاع يشعرون بأنهم جزء من دولة إسرائيل (مقارنة بـ 84.5 في المئة من اليهود). وفي استطلاع حديث في 5 كانون الثاني 2021 للمعهد، تبين أن 39 في المئة فقط من الجمهور العربي يشارك في الانتخابات القادمة للكنيست. استطلاع أخير لمعهد ستاتنت في بداية كانون الثاني 2021 يتوقع انخفاضاً كبيراً في معدل التصويت في الوسط العربي إلى 52 في المئة. وحسب هذا الاستطلاع، في حالة تنافس القائمة المشتركة بشكل موحد، سيدعمها 69 في المئة من المقترعين العرب الذين يشكلون نحو 10 مقاعد في الكنيست. أما الباقي 31 في المئة، فسيصوتون للأحزاب الصهيونية، منها مقعدان لليكود (!) الذي نال في الانتخابات السابقة تأييداً عربياً يوازي على الأقل ثلث مقعد في الكنيست. أما إذا انشقت القائمة المشتركة (الجبهة مع التجمع والإسلامية مع العربية)، فستحظى القائمتان العربيتان بأقل من 11 مقعداً، وستعطى 3.4 مقاعد للقوائم الصهيونية، منها 1.5 مقعدا لليكود. يمكن التقدير بأن معدل الاقتراع المتدني في الجمهور العربي مرغوب فيه لليكود وباقي الأحزاب اليهودية من ناحية انتخابية.
على هذه الخلفية يمكن أن نفهم محاولات الأحزاب اليهودية مغازلة الصوت العربي، ولا سيما خطوات نتنياهو الأخيرة، الذي يعتبر في الجمهور العربي الزعيم الأكثر ملاءمة لتولي رئاسة الوزراء، بفارق كبير جداً عن لبيد وغانتس. ومن هنا يأتي الحديث في الليكود عن ضمان مقاعد واقعية لمندوبين عرب، وكذا وعد بتعيين وزير عربي مسلم، إضافة إلى التعهد بالاستثمار في مجالات يهتم بها الجمهور العربي، مثل: التعليم، الاقتصاد، والأمن الداخلي.
وأوضح الليكود مؤخراً بأنه لن يقيم حكومة بتأييد الإسلامية أو القائمة المشتركة. وعليه، فعلى خلفية الاستطلاعات آنفة الذكر أيضاً، تبقى مفتوحة مسألة كم ستؤثر هذه الوعود على نتائج الانتخابات التالية في الجمهور العربي الواعي والحساس للأمزجة الإقصائية في الجمهور اليهودي وفي صفوف الأحزاب الصهيونية.
ختاماً، واضح أن ثمة تواصلاً في أوساط الجمهور العربي لميول الاتساع الفكري والعملي نحو الأسرلة والمشاركة في المجال السياسي. ومع ذلك، فإن هذا الجمهور يقظ لألاعيب الأحزاب الصهيونية السياسية تجاهه وحساس للمس بمكانته العامة وإقصائه المتواصل، بما في ذلك المسائل الوطنية والمجالات العملية التي تقف على رأس همومه. وحيال هذا النهج السائد، لا تزال الأحزاب العربية تستصعب تبني صيغة متفق عليها تسمح لها بالتعاون السياسي مع الأحزاب الصهيونية، الأمر الذي قد يمس بقوتها البرلمانية والسياسية وبإمكانية التعهد للجمهور العربي بأن في وسعها تحقيق مصالحه الحيوية.
يبدو أن التطورات السياسية التي عرضت أعلاه تخلق بعداً جديداً من الشرعية للصوت العربي من جانب الأحزاب الصهيونية من اليمين واليسار، وربما فرصة لشراكة سياسية يهودية عربية. ستكون الانتخابات القادمة اختباراً لاستعداد الأحزاب الصهيونية بالفعل لأن تسير باتجاه الجمهور العربي في مواضيعه المدنية.
بقلم: أفرايم لفي، مئير الران، خضر سواعد، يوسف مقالدة
نظرة عليا 21/1/2021