مع كل جديد للأمريكي مارتن سكورسيزي، تتزاحم المواضيع التي يمكن من خلالها تناول الفيلم أو البدء في تناوله، لزخمها في إسقاطاتها بالحوارات والمشاهد، على واقع يعيش أنواعاً من الظلم في المجتمع والتاريخ، تأتي بقصص فردية ليست بالضرورة تمثيلات لما هو أوسع.
إنما، بفيلمه الجديد، «قتلة زهرة القمر» الذي افتتح مهرجان كان السينمائي الأخير، انتقل سكورسيزي إلى القصة الجماعية، من خلال أخرى فردية، منح الفيلم طابعاً تاريخياً كرّسه المخرجُ بمَشاهده الأخيرة التي حملت الفيلم الخيالي المبني على تاريخي واقعي، إلى ذلك التاريخ وحياة المتفرّج الواقعية، بخروج تقني من الفيلم الخيالي بحضور سكورسيزي بنفسه إلى الشاشة كشخصية واقعية تقرأ وقائع، نقلت، بصورٍ كذلك واقعية وأرشيفية، كان بدأ الفيلم بمثلها، تاريخاً كان الفيلم تقديماً حكائياً خيالياً لها، وأقرب إلى إخلاص في تمثيل الحكاية.
هذا الفيلم كذلك (Killers of the Flower Moon) يزخر بمواضيع جانبية تحيط بالقصة الأساسية وهي اكتشاف النفط في أراضي شعب «أوساج» في ولاية أوكلاهوما، ومحاولات رجال بيض أمريكيين مهاجرين رأسماليين، السيطرة على أموال هذه القبيلة الثرية، بالزواج من بناتها وقتل أفرادها ليرث هؤلاء الرجال المال والأرض النفطية. عمليات القتل الفردية تتالى لتكون مجزرة على دفعات، أقرب، في ظاهرها إلى جرائم منفصلة، ليحضر المحقّقون أخيراً، فقط من أجل قتيل بالخطأ، أمريكي أبيض.
ما يعنيني هنا، هو الربط في المشاهد الأخيرة، في هذا الفيلم الممتد لثلاث ساعات ونصف الساعة، بالإبادة التي تعرض لها شعب «أوساج» بشكل ممنهج ومتدرّج، بدوافع فاشية ورأسمالية هي جرائمية في مفاصلها كافة. وحقيقة أن لا إشارة إلى ذلك أكان في الصحافة آنذاك أو ما بعدها، وأن لا أحد علم بشيء عن المجزرة المتدرّجة، يستحضر الحكايةَ برمّتها إلى بلادنا وزماننا، وقد تواطأت في الإبادة، والمسألة تلخيص لعموم ما تعرّض له السكان الأصليون في أمريكا الشمالية، أجهزة الدولة، من المحقّقين إلى السياسيين، والرئيس الذي توجّه إليه سادة القوم في «أوساج» طلباً للنجدة في عمليات القتل الغامضة التي يتعرضون لها، ولم يحرك ساكناً، إلى الصحافة وهي الناطقة باسم المسيطرين آنذاك، ضمن ماكينة متكاملة من عملية الإبادة التي تعرض لها أصحاب الأرض الأصليين. كأنّ الحديث هنا، بعد مئة عام من أحداث الفيلم، تتكرر جنوبي فلسطين اليوم، في قطاع غزة المتعرض للإبادة بتواطؤ متكامل مع الأجهزة ذاتها، تحديداً الإعلامية في العالم الرأسمالي الأبيض، إنّما، هي اليوم أجهزة غربية عالمية لا أمريكية محلية فقط.
يشير سكورسيزي في مشاهد فيلمه الأخيرة، والمستوحى من كتاب توثيقي بالعنوان نفسه صدر عام 2017، إلى أن مأساة «أوساج» لم تُعرف لعقود، ولم يحاسَب مرتكبو المجازر، بل واصلوا حياةً أسّسوها على قتل السكان الأصليين للأرض ونهب أرضهم، وهو حال أي استعمار كلاسيكي أوروبي في بلدان الجنوب، إلا أن الإضافة في القصة الأمريكية كانت في الاستيطان، فلم يجرم المهاجرون البيض بالأهالي لنهب الثروات والعودة إلى «أوطانهم» في أوروبا مثلاً، بل بإضافة عنصر يجعل من الأحداث أقرب إلى الحالة الصهيونية وتأسيس دولة إسرائيل واستمرارية سياساتها الاستعمارية إلى اليوم، في استيطان الأرض من بعد القتل والنهب، ويزداد القرب بين الحالتين في شراكة الإعلاميين والسياسيين المتنفّذين في التعمية على الجرائم، كأنّها سياسة واحدة متكاملة عابرة للزمن، خبرَ المستعمر المستوطن نجاعتها قبل مئة عام ويختبر استمراريتها إلى اليوم في فلسطين وغزة تحديداً.
لم يقدّم سكورسيزي المأساة بتاريخيتها وواقعيتها وحسب، بس حملها بارتقاء فنّي وسردي ميّز المخرجَ على طول مسيرته الموسومة بتنوّع الجانرات التي تتخذها أفلامه، وبنوعية هذه الأفلام، إن كان بقصص فردية لشخصياته أو جماعية من خلال تلك الشخصيات. هنا، في فيلمه الملحمي هذا، لم يعطِ سكورسيزي مساحةً استثنائية لمأساة ارتكبها خليط الرأسمالية والعنصرية والجرائمية وحسب، بل قدّم المأساة بعالمية أتاح لها أن تكون قصّةً لكل حالة استعمار استيطاني، لمهاجرين أوروبيين احتلّوا أرضاً ونهبوا ثرواتها وقتلوا أهلها واستوطنوها، وعتّموا هم وشركاؤهم من صحافيين وسياسيين على المجازر، كأنّ شيئاً لم يكن. والحديث لايزال عن فيلم سكورسيزي، وإن صلح، تماماً بكل مفرداته، لمآسي الفلسطينيين اليوم في غزة.
كاتب فلسطيني سوري