كم يقدر عدد الأشخاص الذين قتلوا في الأشهر الثلاثة الأخيرة في سوريا؟ وكم عدد من هربوا منها؟ وكم عدد الذين هجّروا من بيوتهم؟ حسب معطيات المنظمة السورية لحقوق الإنسان، على الأقل 450 مواطناً قتلوا منذ شهر نيسان الماضي، وأكثر من 450 ألف شخص هجّروا من بيوتهم أو هربوا إلى تركيا.
هذه الأرقام لا تشمل الـ 75 قتيلاً في الأسبوع الماضي أو الذين قتلوا أثناء كتابة هذه السطور. لأنه رغم التوقيع على اتفاق وقف إطلاق نار (آخر) الذي تم التوصل إليه في الأسبوع الماضي في كازاخستان، إلا أن إطلاق النار لم يتوقف. قوات النظام واصلت قصف مواقع في إدلب تجمع فيها أكثر من 50 ألف مسلح. رجال المليشيات الذين نقلوا إليها مكان سكنهم في أعقاب اتفاقات وقف إطلاق نار سابق، وكذا في المحافظة التي يعيش فيها 3 ملايين نسمة.
إدلب هي الهدف القادم، تلك المحافظة الكبرى التي تزعج الأسد من أجل استكمال سيطرته على الدولة. ما زالت جيوب المقاومة تعمل في محافظات كثيرة في الدولة، وداعش لم يوقف تماماً عملياته. الإعلان عن إنهاء الحرب ضدها خلقت شعوراً مضللاً بأن التنظيم جرت تصفيته. صحيح أن سيطرة داعش الجغرافية صفيت، ولكن مقاتليها -سوريين وأجانب، يظهرون ويعملون في محافظات كثيرة. وضع داعش الآن “قنبلة موقوتة” سياسية تهدد العلاقات بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة. الرئيس ترامب هدد، الأسبوع الماضي، بأن الدول الأوروبية إذا لم توافق على أن تتسلم نشطاء داعش المعتقلين في المعسكرات في سوريا، ومنهم حوالي 800 في أيدي القوات الكردية، فإنه سيطلق سراح المعتقلين وينقلهم إلى أوروبا. من المهم معرفة كيف سيجري تنفيذ هذا الأمر بالضبط.
إدلب هي حبة البطاطا الساخنة التي تثير التوتر أيضاً بين أنقرة وواشنطن، وبين تركيا وسوريا وروسيا. فقد أعلنت تركيا بأن “صبرها على الولايات المتحدة آخذ في النفاد”. وبهذه الكلمات نفسها استخدمت سوريا من أجل التعبير عن نفاد صبرها على السلوك التركي. قبل سنة وقع اتفاق بين تركيا وروسيا، وبحسبه تكون تركيا هي المسؤولة عن نزع سلاح المليشيات في إدلب كشرط لعدم احتلال المدينة من قبل القوات السورية. حتى الآن لم تف تركيا بوعدها رغم ضغط روسيا الثقيل. في المقابل، هي تهدد بشن حملة احتلال واسعة في سوريا من أجل السيطرة على المناطق الحدودية بينها وبين سوريا في شرقي نهر الفرات من أجل “تطهير” المنطقة من التواجد العسكري للمليشيات الكردية التي تعتبرها تهديداً على أمنها القومي.
وهذا هو الأمر الذي تخشاه الولايات المتحدة التي تدافع عن الأكراد، حلفائها الذين حاربوا معها بنجاح ضد داعش. النقاشات التي أجراها مؤخراً جيمس جيفري، ممثل الولايات المتحدة للشأن السوري، مع تركيا، لم تثمر عن اتفاقات. تركيا تطالب بإنشاء منطقة آمنة على طول 40 كم وعمق 20 كم، بحيث تتولى المسؤولية الحصرية عليها. الولايات المتحدة توافق على منطقة أضيق بكثير، بعمق 5 – 14 كم، تكون المسؤولية عن إدارتها مشتركة (أمريكية – تركية). هذه الفجوات تخلق لواشنطن معضلة صعبة مثل شراء صواريخ “اس400” الروسية من قبل تركيا. هل ستفرض على تركيا بالقوة وقف طموحها الجغرافي في سوريا، أم ستتراجع وتكتفي بتفاهمات مرنة تمكنها من سحب قواتها من سوريا، كما قرر ترامب في نهاية السنة الماضية؟
نتائج منافسة ليّ الأذرع التي تديرها تركيا مع الولايات المتحدة، تنتظر –بنفاد- صبر روسيا التي تطمح إلى إنهاء قضية إدلب بسرعة من أجل الانتقال إلى مرحلة الحل السياسي، وتقف أمام معضلة معقدة. إذا قررت تركيا الغزو، فإن روسيا ستضطر إلى الوقوف إلى جانب سوريا والمطالبة بانسحابها. ليس بسبب وجود تعهد روسي للأكراد، بل من أجل مساعدة الأسد على طرد كل القوات الأجنبية (باستثناء الروس بالطبع). مطلب كهذا يمكن أن يخدم أيضاً مصلحة إسرائيل والولايات المتحدة اللتين تطمحان إلى طرد إيران من الأراضي السورية.
ولكن دعم روسيا لمطالبة الأسد بسحب قواتها من شأنه بالتحديد الآن –لا سيما بعد أن اجتازت تركيا الخطوط وتصادمت مع الولايات المتحدة واشترت أنظمة صواريخ “اس400”- أن يعتبر كخطوة كاسرة للثقة توضح لتركيا عمق الخطأ الاستراتيجي الذي قامت به عندما فضلت اتفاقاً مع روسيا على الطلب الأمريكي. ويمكن لتركيا أن تعتقد بأنها معفية الآن من الضغط الروسي ويمكنها شن عملية “اورانيم” كبرى خاصة بها في كل المنطقة الكردية في سوريا. ولكنها لا تملك ضمانة أن تسمح لها روسيا طوال الوقت بالسيطرة على المحافظات السورية؛ ذلك أن روسيا في وقت تسعى فيه إلى أن يشارك الأكراد في العملية السياسية كجزء من الحل الشامل.
إلى حين إنهاء روسيا وتركيا والولايات المتحدة فحص حدود التوتر في الحزام المرن الذي يربطها بمنطقة إدلب والقطاع الكردي، فإن المدنيين السوريين سيستمر قتلهم وإصابتهم واقتلاعهم من بيوتهم بدون مساعدة وبدون حماية. وستواصل منظمات الإغاثة تجميع الأموال من أجل مساعدة المهجرين واللاجئين. وستصدر منظمات حقوق الإنسان التقارير المعتادة عن عدد المصابين وسيتجادلون حول عددهم الدقيق. وستطلب الأمم المتحدة من جميع الأطراف ضبط النفس.
بقلم: تسفي برئيل
هآرتس 5/8/2019