لم أتخيّل أن سيحصد الموت ضحيته التالية بهذه الخفة وبهذا الجنون؛ رغم ما كتبت، بأسف، قبل أسبوع متوقعًا بألا تكون “الفتاة يارا أيوب، ابنة قرية الجش الجليلية الوادعة، آخر الضحايا؛ فمن وما قتلها وقتل وسيقتل غيرها ما انفك يعيش ويتوالد بين ظهرانينا”. لكننا مجتمع مصاب، بدون ريب، بفقدان البصيرة ويمضي نحو هاويته مثل أسراب الفراش الطائش.
وقعت القرعة، هذا الأسبوع، على عكا، مدينة الملح “والسلطان إبراهيم”، فقدّمت “إيمانها” قربانًا لأرباب الخديعة والزبد؛ وذكّرتنا، مع أن البرق لم يمهلنا فرصة للنسيان، بأننا عرب كنا وسنبقى حرّاس ذلك “الشرف المخاطي” نتوالد على شيفراته ” كالراءات” في الأبجدية.
تنشر، عندنا، أخبار سقوط الضحايا بدون إثارة، وتوزّع أعدادها كإحصائية روتينية مثل باقي الهوامش؛ فاليوم نعرف أن عددها قد وصل نحوا من ست وخمسين ضحية، وأنّ من بينها ثلاث عشرة امرأة. شوارعنا صارت ممالك للعرابيد وتحوّلت بيوتنا إلى حيّزات هشة ومستباحة، والناس يلعقون فيها عجزهم مثل القطط، ويدفن بعضهم موتاهم بصمت ويعودون إلى “كهوفهم” بقلوب تدميها الحسرة والجزع؛ فمن لا يجد ملجأً آمنًا وطريقًا للنجاة يعش عبدًا وفي ذل دفين. أشعر بإحباط كبير، كأننا نعيش داخل آلة زمن معطلة نكرر فيها مخلّفاتنا ونصنّع اليأس و”زرد السلاسل”. العنف عندنا لم يجد من يصدّه فتمادى حتى صارت معاقلنا “مقاصل رؤوسنا” وحواضن للخوف و”لزغب الحواصل”. نهاراتنا نار وليلنا كليل الناموس، قارس وقارص، والناس تهذي فيه وتلهج وكأنهم يستعيدون أمجاد “برج بابل”. الدولة تستعدينا، قالوا لنا، لكنهم قالوا كذلك: لنا في “أثدائها” حصص، أسوة بأبنائها اليهود؛ فما العمل؟ ومن سيخترق الحصار؟ من سيوقف الدمار؟ فهذه المسيرات لم تجلب لنا أي نتيجة؛ لذا فمن المفروض أن نبحث عن طرق بديلة لمحاربة الجرائم والعنف، كما اعتقد أن الجناة لا يشاهدون هذه الفعاليات عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل، بل هم مشغولون بقتل البشر”، بهذه الكلمات البسيطة الصادقة عبّرت إحدى قريبات إيمان، ضحية عكا الأخيرة، عن مشاعرها وقد أوجزت بقولها كل الحكاية وعرّت بها أضلاعَ أحجيتنا الكبرى، فمن سيقود “الخراف” إلى تلك الطرق البديلة؟
عنوان هذه المرحلة محفور على أسوار المقابر؛ فإذا كانت الحكومة عدوتنا، وإذا صارت الشرطة شريكة في الجرائم ،وإذا أصبحت قياداتنا “رهن القبائل” وإذا نام الشعب في حضن الحمائل، فحتمًا ما كان هو ما سوف يكون.. واغرقي أيتها المآقي وجفي يا حناجر. أعرف أن موقفي هذا مستفز وجارح؛ لكنه، مثل الدم، حقيقي وواضح ؛ فلا يكفي التفاؤل وحده كضمانة لتغيير بؤس حالنا ولبناء مستقبل آمن، وقد تشكّل إرادة من يتولون مهمات النضال والتصدي لتلك الانهيارات، شرطًا مؤسسًا للعمل؛ لكنها لن تكفي لإبراء واقعنا المعقد المنكوب، فنحن بحاجة إلى أكثر من جبر الخواطر. كثير من المعارضين لظواهر العنف في مجتمعاتنا العربية حاولوا، من خلال مواقعهم القيادية والتمثيلية، أن يقاوموها وان يتصدوا لها بجدية وأن يقضوا عليها، لكنهم فشلوا؛ فالجميع يعرف أنه لو كان العنف “رجلًا لقتلناه”، لكنه كالسرطان ينتعش إذا فشلناً في تشخيصه ويردينا إذا اخطأنا في علاجه. فلماذا أخفقوا؟ فشلنا لأننا أضعنا برّنا ولأنكم تاجرتم ببحرنا، وضعفنا عندما تخاصمتم على رسمنا وعلى اسمنا.
فنحن لن ننتصر على الفاشية إذا لم نواجه قضايانا الحقيقية الأساسية وفي مقدمتها أزمة هويتنا المتصدعة ولن ننجح في مواجهة العنف الا اذا اتفقنا على مصادره وأجمعنا على وسائل مجابهته، فالنضال الجماهيري هو عبارة عن حالة تتشكل تلقائيًا اذا هُيّئت لها الفضاءات الملائمة.
قد يشكك البعض بوجود علاقة بين مسألة الهوية وبين قتل النساء أو تفشي العنف أو ضعف الأحزاب والحركات السياسية التقليدية التي تصدرت العمل السياسي بيننا حتى مطلع القرن الحالي، لكنني مؤمن بأن التهرب من مواجهة هذه الأزمة وما تفرع عنها من إشكاليات، سيبقى هو السبب لمعاناتنا من جميع العلات التي ذكرتها. فمن نحن؟ هو سؤال الأسئلة، وماذا نريد؟ هو السؤال التالي، وكيف سننتصر؟ يأتي بعده، ومن يقرر في ماذا؟ سيكون خاتمة العقد. لن ننجح في ترتيب علاقتنا مع الدولة ومؤسساتها ولن نحافظ على سلامة وأمن مجتمعنا اذا لم نجب على جميع تلك الأسئلة؛ فهويتك تحدد علاقتك مع الدولة ومفاصلها؛ وهويتك هي التي تملأ قوالب مواطنتك وتعبد أرصفتها؛ وهويتك تفرض عليك من هم حلفاؤك ومن أعداؤك؛ وهويتك ترشدك لوسائل نضالك ولأهدافه. فمن يعرّف نفسه عروبيًا قوميًا سيقف على رماح تلك العروبة، فهل هي عروبة “الأسد”؟ أم عروبة “تميم”؟ أم عروبة “السيسي”؟ وما موقف هؤلاء من دولة إسرائيل؟ ومن يعرف نفسه إسلاميًا قضيته مع الدولة اليهودية محسومة، هذا علاوة على حيرته في إيجاد عمقه السياسي الإسلامي، أهو في حضن “أردوغان”؟ أم بين ذراعي “السيد”؟ أم مرابط في أرض الحجاز؟ ثم كيف سيتفق الإسلامي مع الشيوعي المؤمن بأن “بوتين” هو حصنه الفريد، وبأن للمرأة ما للرجل ولها ما له في جميع الميادين العامة وفي حقها بقطف الحرية الحمراء مثله. فكم مرة أوقعتنا تعقيدات حياتنا الجديدة في مناكفات وصدامات مازالت جروحها تنزف في مواقعنا! وكم تقاتل جنود المعسكرات بسبب مؤتمر، أو زيارة أو مشاركة أو احتفال أو مظاهرة. فهل يشارك المحامون العرب، مثلًا، في احتفال ستحضره وزيرة العدل بمناسبة تنصيبها لعدد من القضاة العرب الجدد؟ أو هل يستقبل رئيس مجلس محلي الوزير المستوطن الذي جاء إلى القرية كي يدشن عددًا من المشاريع الكبيرة في البلدة؟ وهل نوافق على إقامة محطة شرطة في قريتنا؟ وإذا كانت الحكومة عدوتنا اللدودة وأمريكا هي الطاعون، فكيف تسكت القيادات السياسية والدينية عن تنظيم مؤتمر يختص في مجال الهايتك ويعد الأول من نوعه، بادر إليه كل من الوزارة للمساواة المجتمعية الذي ترأسه الوزيرة جيلا جمليئيل والسفارة الأمريكية، التي مثلها السفير ديفيد فريدمان، يوم الثلاثاء المنصرم، في فندق كراون بلازا في الناصرة، التي حضرت من خلال رئيسها المنتخب حديثاً، وشارك فيه العشرات من المبادرين العرب والمستثمرين في المجال من اليهود الأمريكان.
فهل تتذكرون من تكن هذه الجيلا ومن هو شريكها فريدمان؟
لن ننتصر على الفاشية إذا لم نواجه قضايانا الحقيقية الأساسية وفي مقدمتها أزمة هويتنا المتصدعة
وإذا حسمنا موقفنا بأن شرطة إسرائيل هي شريكة كاملة في الجريمة ضدنا، ويجب على المواطنين العرب مقاطعتها، فكيف سنتوقع مشاركتها في مشاريع مقاومة الجريمة وملاحقة المجرمين؟ وكيف ندعو فرقتها الموسيقية للمشاركة في إحياء المسيرة الميلادية الـ36 في الناصرة أسوة بباقي المشاركين؟ لن تتوقف هذه المفارقات والمعضلات والخربطات، لكنها ستحسم في النهاية، كما يجري في أيامنا، بواسطة قيادات بديلة شرعية بدأت تملأ الفراغ وتستفيد من عدم مواجهة أزمتنا السياسية الاجتماعية الأولى، فمن نحن؟ وماذا نريد؟
يحسم الشعب بشكل غير مباشر في هذين السؤالين، ولكن القضية تتعلق فيمن يؤثر على هذه الجماهير، هل هي الأحزاب فماذا تقول؟ أم هي الحركات الدينية السياسية؟ أم هيئات المجتمع المدني؟ من الطبيعي ألا يتساوى مفهوم المواطنة بين الإنسان العربي القومي والشيوعي، ومن الطبيعي أن يختلف معنى العنف ضد النساء وضد المثليين وضد “الكفرة” بين المتدين والعلماني أو غيرهما؟ فهل مصادر الوقاية منه تتماثل في الفكرين النقيضين؟ هوياتنا ليست مسلات مصرية جامدة صماء، لأنها دائمة التشكل فمن يؤثر عليها؟ الإجابة على ذلك مكتوبة على أسوار المقابر، وفي صناديق الانتخابات وفي الفتاوى وعلى أدراج المؤتمرات، وفي المشاريع الاقتصادية التي تولّد شرائح اجتماعية جديدة تخيط بدلات هوياتها عند خياطين مختلفين عصريين.
كاتب فلسطيني