قراءة المتاهة

رغم تعدد المداخل الموظفة من قبل القراءة في مقاربتها لنصوص الكون، فإننا سنقترح ما سنسمه بـ»المدخل المتاهي» لعوالمها الشائكة، المحكومة سلفا بقوانين الالتباس، التي تجد صداها في «مخرج» هو بمثابة خلاص مؤجل، تحرص المتاهة على إبقائه بعيدا عن أعين الضائعين في مسالكها.
وتتمثل خصوصية هذا المدخل، في اعتبار القراءة سؤالا أصليا ومفصليا، تتفرع عنه مجموع الخطابات/العلامات، التي تضج بها فضاءات/متاهات العالم، وليس العكس. بمعنى، أن القراءة هنا تأخذ شكل مولد دلالي لمقومات الأنواع الأدبية والفكرية والفنية كافة، فضلا عن كونها أداة تفسيرية وتأويلية لمجموع ما تزخر به الطبيعة من لغات إشارية، تقع خارج مجال اللسان. واعتبارنا للقراءة «أصلا» يتأسس على أرضية ما تطرحه من أسئلة «ما قبل نصية» تتمحور حول كنه العلامات المؤثثة لمتاهات الوجود، قبل أن تتمظهر في صيغة أنواع إبداعية، أو خطابات فكرية، وفلسفية. ففي البدء، كان السؤال الفلسفي الذي تتفجر عنه ينابيع القول، والحاضر سلفا في تضاعيف القراءة، التي تتخذ من الخطابات المحايثة موضوعا لها. ودون هذا «السؤال» الحتمي الذي تطمح القراءة لفك شيفرته، لن يكون ممكنا الحديث عن خطابات /نصوص فكرية أو إبداعية. مع العلم أن الحديث عن هذه الخطابات/النصوص، هو في واقع الأمر، حديث عن المسارات المتاهية، التي تجترحها الذات، خلال مكابداتها الوجودية، في أفق فوزها المحتمل، بطيف ممكن من أطياف المعنى.
هكذا، سوف تبدو متاهة «كنوسوس» الميثولوجية كتمثيل رمزي لعوالم القهر اللامتناهية التي تحيط بالكائن. وسيكون من الطبيعي أن يتقمص «تيسيوس» جسد الكائن ذاته، الذي تقع عليه مسؤولية تخليص البشرية من وحشية «المينوتور» كخطوة أساسية تنتهي بالاهتداء إلى مخرج المتاهة.
الشيء نفسه بالنسبة لخيط أريان، الذي لن يكون في نهاية المطاف، سوى التعبير الرمزي عن تكامل قيم المحبة والمجاهدة، في دحرهما لمسوخ الشر، وبلوغ بر الأمان.
وكما هو واضح، فالمتاهة هنا تتمثل في كونها فضاء اختباريا لمجموع ما يمتلكه الكائن من طاقات فكرية وروحية، كفيلة بتخليصه من ربقة الظلم، فضلا عن كونها الفضاء التحفيزي لمختلف المشاعر والأحاسيس، التي تتشكل بها ومنها هويته الإنسانية. وبالتالي، فإن رهان النجاة من عدوانية المتاهة، يمر عبر تفجيره اليومي لكل هذه الطاقات. ما يعني أن المتاهة هي في نهاية الأمر، جماع سلسلة متوالية ومتحولة من المتاهات المدمرة، بالنظر لما تمتلكه من قدرة ذاتية على تغيير وتعقيد مساراتها، بموازاة حدسها باحتمال كشف الكائن عما تضمره من مكائد.

إنها تراجيديا العلامة المتورطة في حرب دلالية دائمة، لا يفتر وطيسها، بما تتصف به من تناسخات مركبة، قادرة على ممارسة الأدوار الإبدالية، إلى جانب قدرتها على ممارسة لعبة التطابق الدلالي، القائم بين الشيء ومرجعياته.

فهل والحالة هذه، ينبغي مقاربة مسالك المتاهة على ضوء الشبكة المعقدة واللامتناهية التي تتميز بها مسالك القراءة، أم عكس ذلك، ينبغي الانطلاق من القراءة، باتجاه مجهول الفضاءات المدججة بشراستها وغموضها؟ عموما، إننا سوف نجزم بأن الاهتمام النظري المنصب على تمفصلات الخطاب ودلالاته المناوئة للممارسات المتسلطة والجائرة، يمر عبر التركيز على مساءلة نمط معين من أنواع الخطابات، بمعزل عن غيره. كما هو الشأن بالنسبة للأنواع الأدبية، التي يستقل كل منها بمقارباته الخاصة، رغم عمق الاختلافات البنيوية القائمة بينها، أسوة بالتفريعات المتعددة، التي تتميز بها الفنون السمعية البصرية – على سبيل المثال لا الحصر – التي تمكنت بفضل القراءة السيميائية المتطورة، من تجاوز إطارها الجمالي البحت، كي تشمل كل العلامات المؤثثة لحركية الحياة الإنسانية، سواء في شقها الذاتي، أو الجماعي، البشري أو الطبيعي. علما بأن هذا الانفتاح المتعدد الجهات، الذي تجدد به القراءة إوالياتها، يساهم بشكل فعال في تعدد ثيماتها، ومرجعياتها المؤهلة لمحاصرة «مينوتور» السؤال، حيث تصبح بموازاة ذلك، فضاء إشكاليا /متاهيا، يستدعي من المهتم مقاربته في ذاته، على ضوء ما يتميز به من تنوع وتعدد، يتجاوز من حيث الأهمية، الحدود المرسومة عادة لمواضيعه وقضاياه.

بمعنى، أننا في حالة رفعنا لهذه الحدود المسيجة لمتون الخصوصيات القرائية، سوف نجد أنفسنا أمام متن مشترك شامل، محكوم طبعا باختلافاته الداخلية، المساهمة في تكامل مكوناته، وتلاحم أجزائه، الباحثة عن بوابة الخلاص. متن، معني بمساءلة أسرار الكون، بقدر ما هو معني بمساءلة أسرار الكائن، حيث سيتأكد لنا أن الفوارق التي تطالعنا بين النوع الأدبي، الفني والفكري، ليست في الواقع سوى فوارق إجرائية، تسمح للقراءة بتنويع مسارات اشتغالها، في أفق اهتدائها إلى مكمن الوحش الذي هو مربط الدلالة. كما ستتأكد لنا في الوقت ذاته، الطبيعة الملتبسة للعلامات المحيلة ظاهريا وباطنيا، على كل ما يغري الكائن بتسريع خطواته، تجاه بوابة الخلاص، أو بوابة القتل.

إن الأمر يتعلق بتقنية اشتغال القراءة على المنجز المنكتب، لغة كان أم رمزا. بما هو واقع ومتخيل في آن، وبما هو فضاء مكتظ بالمسوخ المتوحشة، التي تضيق بها الأمكنة والأزمنة. كما أن الأمر يتعلق أيضا، بقدر/ضرورة استهداف الدلالة المتخفية في جنح العلامات المتحركة، والغامضة في آن، على امتدادات انعطافات مسالك المتاهة، التي تشرع في التشكل، حالما يساور الذات، خاصة المبدعة منها، قلق التشكيك في وهم تطابق الشيء مع مرجعيته، باعتباره الطريق المفضي إلى بؤرة الضوء. ذلك أن احتمال تحقق مطلب التطابق، سيظل محاصرا بضبابيته الناتجة عن استحالة الإجابة عن السؤال المطروح: أين؟ وكيف تم ذلك، أوسيتم؟
وهنا تحديدا، تبدأ مغامرة مواجهة غيلان المتاهة، من خلال تفكيك حقائقها المستنبطة من ذاكرة التجربة، ومن مقولة التواشج «الحتمي!» القائم بين العلامات، وأشيائها. علما أن التنافر النظري لمنهجيات الاستدلال، هو ما يؤدي إلى توسيع شبكة مسالكها المضللة، حيث يوجد ثمة دائما، ما يربك ضحاياها، ما دامت المقولات التي يمكن أن يستمد منها التائه ثقته، مهددة هي أيضا بفقدان صلاحيتها. خاصة أن البرهنة التي تحدث بفعل صدفة ما، أن تثبت نجاعتها هنا، لا تلبث أن تسفر عن قصورها هناك، باعتبار أن مفهوم العلامة، يتسم بقوة انفلاته وجموحه، خاصة حينما يتعلق الأمر بضرورة استنباط الدلالة، التي هي جوهر الوجود الإنساني. هذا الجوهر المهدد دائما بفقدان مصداقيته، بفعل التأويل اليقيني للعلامات، خاصة حينما تلح على ممارسة حضورها، عبر تناسلها المتباين الأشكال.

إنها تراجيديا العلامة المتورطة في حرب دلالية دائمة، لا يفتر وطيسها، بما تتصف به من تناسخات مركبة، قادرة على ممارسة الأدوار الإبدالية، إلى جانب قدرتها على ممارسة لعبة التطابق الدلالي، القائم بين الشيء ومرجعياته. وهو ما حفز بعض المناهج السيميائية على الترويج لمقولة «المؤول النهائي» الرامية – عبثا – إلى إغلاق لعبة التأويل، بما هي لعبة منفتحة على الاستحالة، كما على الإمكان، خاصة حينما يتم توسيع مجالات اشتغالها، كي تشمل البؤر الحارقة، المتوزعة على جسد العالم، التي تكتوي الشعوب المستضعفة بنيرانها.
وهنا تحديدا، تظهر ملحاحية العمق الفلسفي، في كل مبادرة تسعى إلى تطويق أبعاد العلامة. ما يدعونا للقول، إن القراءات المتاهية، تندرج ضمن أفق البحث الكوني عن خلاص ما، حيث تتراكم بصيغة تفاعلية أو تنافرية، مشاريع البناء الحضاري، جنبا إلى جنب مع مشاريع نسفه، وحيث تتعايش قناعات الجدوى ونقيضها، كي تتسع المتاهة/القراءة أكثر، بموازاة تضخم هاجس ضبط مداخلها ومخارجها. ناهيك من تجذر رغبة « الآخر «في تفجيرها، أملا في الإبقاء الحتمي على متعة التغريب في عمق ما يتناسل فيها من مسالك، ممرات، وشعاب، بوصفها قانونا حتميا، لا مناص للذات من مأساوية الاصطدام به.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية