وحدها ملامحك كانت تطل من نافذة المطبخ، حيث تظهر شجرة النارنج في حديقة المنزل، بعينيك اللتين يصعب تحديد لونهما، كأنك تراقبني أعد الفطور لأمي العاجزة وشقيقتي ذات المتلازمة (الداونية) الطيبة، في كلّ صباح أعيش تلك اللحظة الموجعة، حيث تدعوني لترك كل شيء والرحيل، إلى حيث نجد وطننا الحقيقي، الوطن الذي يحفظ وجوهنا وأسماءنا ويعانقنا كل ليلةٍ مثل أبٍ رحيم، قلت لي تعالي معي، سنولد من جديد وتولد معنا جميع الأحلام المؤجلة، وتكتمل أنصاف قصائدنا المبتورة، هل تصدق أنا لا أذكر ماذا قلت لك، أذكر فقط أن عينيّ تورمتا بسبب البكاء، فقد عدت للمنزل بقلبٍ أجرد، وأعرف أنك ضعت مني، ربما للأبد، وستكون ابن المدن الغريبة الهادرة الباردة، كان ذلك هو اليوم الوحيد الذي لم أستطع فيه معانقة شقيقتي عند العودة، آلمني ذلك فقد دفعتها برفق وأشحت بوجهي عنها، كانت تراقبني مبهوتة بفمها المفتوح قليلا وعينيها البريئتين، للحظة صغيرة واحدة كرهت أني عالقةٌ معها في هذه البقعة القاتمة من العالم، من دونك، من دون كفيك اللتين تشبهان عصفورين من عصافير نخلنا في الجنوب أو رغيفين ساخنين من أرغفة أمي، والآن هذه الصباحات تتوالى، مملة ضاجة بصياح الباعة المتجولين، وهدير سيارة الغاز، وعمال النظافة ومصلحي الطباخات، كلّ شيء كما تركته تماما، أنا وأمي وشقيقتي وحفنة من الحزن المتراكم وأشجار الحديقة الكالحة، والكتب المهجورة.
لم يتغير شيء البتة، عدا أنني أفكر الآن في اللحاق بك، لا يمكن أن أسحق رغبات هذه الروح للأبد، كل يوم أعد حقيبتي، هل تدري، وأتفقد جواز سفري، ثم ألقي نظرة على أمي وشقيقتي وهما نائمتان، إنهما باستمرار في حاجة إلى من يغطيهما، إذا صرت إلى جانبك لا أعلم من سيفعل ذلك، لكن لا يهم، علينا أحيانا أن نتحلى بالقوة الكافية، ربما حتى ببعض القسوة، سيعتني بهما الأقارب، ربما أخي وزوجته ذات الملامح العابسة، أو ربما دور المسنين والعجزة، دائما هنالك حلول لهذه الأمور، أما قلبي المفعم بالحزن والحنين لك، فلا حلّ له سوى قرار واحد، كلّ ما عليك فعله أن تنتظرني، إنهما نائمتان، مثل طفلتين، حتى عندما أصدرت صوتا، وأنا أرتدي ملابسي لم تستيقظا، وعندما سحبت حقيبتي ذات العجلات الصغيرة، ظلتا ساكنتين ببراءة، فكرت أنها المرة الأخيرة التي أغطيهما، وأقبلهما، كانت رائحتهما طيبة، وتنفسهما متلاحقا سريعا، خطر لي أن أضع قربهما قدح ماء، ولا بأس أن أحضر دواء أمي، وأقرّب هاتفها ونظارتها وبعض المناديل، وفي طريق الخروج عدلت وضع كرسيها المتحرك وشالها القطني الأبيض، نعم اليوم الأول يجب أن يكون سهلا عليهما، هيأت لهما الفطور، وأدرت مقبض الباب بيد لم أفهم سبب ارتعاشها، كنت أريد الرحيل، بكل جوعي للحياة الجديدة ولك وللوطن الذي لم نحظ به، لكن قدمي كانتا جامدتين، كأنهما تخشبتا، وأنا أسمع صوتها تناديني، ربما هي عطشى، أو متوعكة، يا إلهي، كان الطقس في الخارج مبهرا على نحو غير مألوف، وصوتها ضعيفا خائرا، وكانت دموعي لا تتوقف عن الهطول..
قاصة عراقية