تونس ـ «القدس العربي»:في مدينة الثقافة في قلب العاصمة التونسية فُرش السجاد الأحمر احتفاء بضيوف مهرجان قرطاج السينمائي، هذا المهرجان العريق الذي يعد من أهم المهرجانات السينمائية العربية والأفريقية على الاطلاق، تمكّن هذا العام من مجابهة كورونا ومن فرض أسبوع ثقافي من السينما والفن والتي غمرت قاعات السينما السينمائية في العاصمة وفي كل الجهات وأعادت لها بهجة الحياة في خضم خريف التأزم السياسي الذي أرهق التونسيين، فوجدوا في هذا الحدث الاستثنائي شرفة للتلاقي مع الحلم وألوان الحياة تحت شعار «نحيا لنحلم».
طوال أسبوع توافدت الوفود العربية والأفريقية والأجنبية المشاركة في الدورة الدورة 32. واعتمد المهرجان هذا العام على البهرجة وجمالية الصورة التي أمنّتها فضاءات مدينة الثقافة الفخمة ونقلتها عدسات الكاميرا من كل مكان.
ولم يستحسن البعض هذا البهرج ورآه من سمة المهرجانات التجارية، فيما قرطاج، برأيهم، والذي يحمل اسم واحدة من أهم الحضارات في العالم، هو مهرجان تأسّس منذ البداية من أجل السينما الهادفة التي تعالج قضايا إنسانية هامة. وبالتالي يرى أصحاب هذا الطرح أن الاهتمام وجب أن ينصب على المضمون لا على الشكل وذلك من خلال إثراء برنامج المهرجان بأشياء عديدة كما الزيادة في عدد الندوات التي تهتم بمشاكل السينما التونسية والعربية والأفريقية، والانفتاح أكثر على تجارب سينمائية لا يعرفها الجمهور التونسي وغيرها.
وكعادته كل عام كان المهرجان وفيا لمبدعي السينما، فشهد تكريم عدد من الممثلين والمخرجين والتقنيين والناقدين منهم الممثلة المصرية نيللي كريم والمخرج التونسي نصر الدين السهيلي والناقد السينمائي التونسي خميس الخياطي والمنتج اللبناني صادق أنور الصبّاح والممثلة التونسية شاكرة رماح. كما ظل المهرجان وفيا لمبدعيه التونسيين فكان تكريم الراحلة مفيدة التليلي مخرجة فيلم «صمت القصور» الذي حصد عديد الجوائز في تونس وخارجها ومنها التانيت الذهبي في مهرجان قرطاج. ولم يكن هناك أفضل من الفنانة هند صبري والتي كانت بطلة الفيلم المشار إليها من تكريم المبدعة التونسية.
ولأنه مهرجان حياة وفن وجمال، فقد اكتسح كل الأماكن المغلقة. وكدأبه منذ سنوات اقتحم المهرجان أسوار السجون المغلقة وعرضت الأفلام للمساجين وفكت عزلتهم على العالم الخارجي فتواصلوا مع مجتمع ما زال ينبذهم ويتعامل معهم بكثير الريبة وذلك من خلال السينما. كما تم عرض شريط «كباتن زعتري» لفائدة أطفال مراكز الإصلاح بحضور رئيس الهيئة العامة للسجون والإصلاح ورئيس مكتب تونس للمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب وبحضور مخرج الفيلم علي العربي وأبطاله. كما زارت السينما الثكنات العسكرية للترويح عن عناصر الجيش التونسي الذين لم يغمض لهم جفن طيلة عشرية كاملة لم يهدأ فيها البلد ولم تتوقف التهديدات الداخلية والخارجية التي تطاله.
وبلغ العدد الاجمالي للبلدان المشاركة 45 دولة منها 28 دولة أفريقية و17 بلدا عربيا. وبلغ مجمل الأفلام المشاركة 750 عملا في مختلف المسابقات. وشاركت تونس بـ 18 فيلما طويلا و36 فيلما قصيرا. ومن بين الأفلام المشاركة «فرططو ذهب» من تونس و«خديجة « من مصر، و«سينما حلال» و«حلم» من الجزائر و«علي صوتك» من المغرب.
وقد رأى البعض في هذا العدد المعتبر للأفلام التونسية تطورا في الصناعة السينمائية خاصة مع بروز جيل جديد من المخرجين المبدعين التونسيين مثل كوثر بن هنية وعبد الحميد بوشناق نجل الفنان التونسي الكبير لطفي بوشناق وغيرهم أخذ المشعل عن الجيل القديم الذي ضم أسماء هامة مثل النوري بوزيد والناصر خمير وفريد بوغدير وغيرهم.
وشجع مهرجان قرطاج بروز سينما جديدة في ليبيا من خلال جعل الجارة الجنوبية الشرقية ضيفة شرف المهرجان ومن خلال تشجيع المبادرات لشباب ليبي يتلمس خطواته الأولى في عالم السينما ويتحدى عراقيل الأوضاع السياسية والقيود الاجتماعية. كما اهتمت الأيام بالسينما البلجيكية باعتبار أهميتها في أوروبا والعالم، فخصصت قسما في المهرجان يسمى «نظرة على السينما البلجيكية» عرضت فيه أفلام لاقى أغلبها استحسان جمهور قرطاج الذي وصفه البعض بأنه ليس جمهور غرائز وسينما تجارية بل هو جمهور مفكر يطرح الأسئلة الفلسفية والوجودية ويميز بين الأعمال الفنية الهادفة وتلك الهابطة.
ولم ينس المنظمون تونس الأعماق أو الجهات الداخلية في إطار اللامركزية، فتمت دعوة المهتمين بعالم السينما من الشباب قصد بعث مهرجانات ونوادي سينما تشجع على النشاط السينمائي في هذه الأماكن. ففي العشرية الأخيرة غابت الأنشطة الثقافية أو كادت عن الجهات الداخلية في تونس ومن الجيد أن إدارة المهرجان لم تكتف بتنظيمه فحسب بل بحثت عن إشعاعه ومساهمته في نشر الثقافة والوعي.
ومن بين الأفلام التي جلبت الانتباه فيلم «لينغي.. الروابط المقدسة « للمخرج التشادي محمد صالح هارون، أو عندما تغامر الكاميرا في أرض المسكوت عنه والذي يعالج مشكلة الإجهاض في المجتمعات المحافظة. واعتبر اختيار هذا الفيلم لسهرة الإفتتاح تكريما للسينما الأفريقية ولهارون نفسه باعتباره المخرج الأكثر تمثيلا لسينما القارة في السنوات الأخيرة في مختلف المهرجانات السينمائية الدولية.
ويتحدث الفيلم عن أمينة الفتاة التشادية التي تقطن حيا فقيرا في العاصمة نجامينا وتجد نفسها حاملا وما زالت تلميذة لم تغادر بعد مقاعد الدراسة. فتنطلق معاناتها النفسية بمعية والدتها ماريا التي تساعدها على مواجهة المجتمع القاسي في أحكامه، في دراما حقيقية اقتبسها هارون من الواقع المعيش في تلك الربوع الأفريقية المنسية.
ولهارون جوائز من مهرجانات سينمائية عديدة منها جائزة لجنة التحكيم بمهرجان البندقية السينمائي سنة 2006 عن فيلمه «دارات» وجائزة لجنة التحكيم بمهرجان كان السينمائي سنة 2010 عن فيلمه «الرجل الذي يصرخ».
وبالتالي لم يكن من باب الصدفة أن يقع الاختيار على هذا المخرج ليؤثث سهرة الإفتتاح بفيلمه الجديد الذي نال الاستحسان أينما حل.
واستمر للعام الثاني على التوالي ما يسمى بسينما السيارة، أي إقامة العروض في فضاء ضخم في الهواء الطلق ويشاهد عشاق السينما أفلامهم داخل سياراتهم. وقد تم اللجوء إلى هذا النوع من العروض في الدورة الماضية للتقليل قدر الإمكان من الاحتكاك داخل قاعات السينما المغلقة توقيا من فيروس كورونا، لكن التجربة لاقت الاستحسان فتم اعتمادها هذا العام دون الاستغناء عن العروض داخل القاعات التي تشهد احتراما للبروتوكول الصحي.
وكعادته أيضا فقد كان الجمهور التونسي من مختلف الشرائح العمرية حاضرا بكثافة مقبلا على مشاهدة الأفلام التي لا يراها خلال السنة. فغصت به قاعات سينما مدينة الثقافة وقاعات وسط العاصمة في محيط شارع الحبيب بورقيبة وكذا بعض الضواحي مثل المرسى والمنار وكذلك مدينة قرطاج نفسها.
وشهد المهرجان كعادته مسابقات عديدة للأفلام الطويلة والقصيرة والوثائقية من أجل الحصول على التانيت الذهبي والفضي والبرونزي وعلى جوائز أخرى. وتانيت هي آلهة الخصب لدى القرطاجيين أو التونسيين القدامى ويؤكد البعض على أنها لم تكن آلهة بل امرأة متعبدة عرفت بالصلاح قائمة كل الوقت على معبد الإله بعل الذي يؤكد البعض على أنه كان الإله الأوحد للقرطاجيين.
كما تم استحداث جائزة جديدة باسم الناشطة الحقوقية التونسية الراحلة لينا بن مهني، تكريما لنضالها في المجال الحقوقي وهي التي وافتها المنية شابة في مقتبل العمر. كما استحدثت جائزة المنتج اللبناني صادق أنور الصبّاح للفيلم الذي يفوز بالتانيت الذهبي في تشجيع للسينما العربية والأفريقية التي تفتقد إلى ممولين كبار يذهبون بها إلى العالمية أسوة بالسينما الهندية.
وقام المركز الوطني للسينما والصورة بإطلاق مسابقة للإنتاج الخاص بهذه الدورة، فقام بدعم أربعة أفلام تونسية مقتبسة من الأدب التونسي الذي لم ينل حظه كما يجب في سينما بلاده خلافا لما هو الأمر في بلدان أخرى كرم منتجوها ومخرجوها أدباءهم كما يجب من خلال إخراج أفلام مقتبسة من أعمالهم. ويأمل البعض أن تتواصل هذه البادرة وأن تكون خطوة في سبيل الاهتمام أكثر بالرواية التونسية وكتابها الذين يحصدون جوائز في الداخل والخارج.