قرطبا بلدة لبنانية حباها الله بالكثير من الجمال وهي موئل للحضارات التي تعاقبت على الشرق الأدنى كما يظهر تاريخها منذ القدم وطبيعتها الجغرافية التي تغلب عليها الانحدارات الجبلية. هذا ما تشهد عليه النقوش الكتابية الإغريقية والرومانية على صخور عثر عليها في أرجائها وجوارها، إضافة إلى النواويس وأعمدة الهياكل التي تدّل على أن المنطقة زاخرة بالتاريخ.
وقرطبا الرائدة في مجال الاصطياف والسياحة وضع فيها الخالق أجمل لوحاته الطبيعية، وارتبط اسمها بصناعة المهرجانات السياحية منذ 50 عاماً، فكانت المتقدّمة بين الأوائل والسبّاقة في إعادة إحياء ألعاب القرية اللبنانية والعادات والتقاليد التراثية والاحتفالات والكرنفالات. وقد استقطبت هذه المهرجانات، التي لها نكهة خاصة، كبار نجوم الفن في لبنان والعالم العربي فضلاً عن مواكب السيارات المزيّنة وسباق الحمير الذي ينتظره الجمهور بفارغ الصبر. وقد احتفلت قرطبا مؤخراً باليوبيل الذهبي لهذه المهرجانات التي تحافظ على كلّ ما يمّت إلى التراث والعادات والتقاليد من دون أن تنسى بأن تكون في مقدّمة البلدات الحديثة والمتطورة والنموذجية فاستحقّت عن جدارة لقب “أم التراث” وهي عنوان إحياء ألعاب القرية اللبنانية ونادي النوادي والكرنفالات والمهرجانات الفنية بكل أنواعها.
تعاون بين مدينتين
وفي هذا الإطار تقدّمت بلدية قرطبا في شخص رئيسها ورئيس اتحاد بلديات جبيل فادي مارتينوس بطلب للانضمام إلى عضوية شبكة المدن الأورومتوسطيّة ممّا سيؤدي إلى التعاون والتنسيق والتدريب وعقد الاتفاقات ووضع الخطط والدراسات لتطوير القطاع السياحي في قضاء جبيل، وايجاد السبل الكفيلة بتفعيل العمل والمعالجات البيئيّة وتحديث معمل معالجة النفايات الموجود حاليّا في بلدة حبالين. وقد أثنى الأمين العام لشبكة المدن الأورومتوسطيّة برنار ماسابو على الجهود التي بذلتها بلدية قرطبا ولجنة مهرجانات قرطبا السياحيّة والتراثيّة لتنظيم كرنفال قرطبا وتمّ بحث إمكانية الشراكة في هذا السياق مع كرنفال مدينة نيس الفرنسيّة، ووجّه الدعوة إلى رئيس الاتحاد مارتينوس لحضور كرنفال نيس الذي سيقام في فبراير/شباط 2019 ليكون بداية تعاون بين المدينتين.
جغرافيّاً تقع قرطبا التي تتكئ على كتف وادي جنّة الأثري التاريخي في قضاء جبيل على ارتفاع يتراوح بين 1100 و1250 م عن سطح البحر، وتحدّها من جهة بلدتا عبّود والمغيري، وبينهما مقرّ تاريخيّ للبطريركية المارونيّة، اتّخذته في القرن السادس عشر، ومن جهة أخرى ترتفع فوقها قمم اللقلوق الشاهقة، ومراكز السياحة الصيفيّة والشتويّة ويقصدها في الصيف روّاد التسلّق والرياضات الجبليّة لاكتشاف الجمال الطبيعي كما يقصدها في الشتاء روّاد التزلّج. وتعتبر قرطبا من أكبر بلدات المنطقة الجردية في القضاء حيث تبلغ مساحة أرضها 892 هكتاراً، وهي خصبة غزيرة بالمياه. وتتّصل قرطبا بقضاء كسروان عبر طريق عيون السيمان -لاسا – افقا – المغيري. وتبعد عن بيروت مسافة 54 كلم ويمكن الوصول إليها عبر نهر إبراهيم المشنقة أو طورزيا – المشنقة، أو طورزيا أهمج اللقلوق.
هجرات داخلية
تاريخياَ استطاعت قرطبا أن تجذب بطبيعتها الجغرافية في عهود “الهجرات الداخلية” عدداً كبيراً من العائلات، وشكّلت منطقة نفوذ أساسية لآل حماده خلال فترة إقطاعهم بلاد جبيل في القرن الثامن عشر، وحوت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مركزاً لمديرية جبيل في عهد المتصرّفية، لتشكّل بعدها في أيّام الانتداب الفرنسي وبعده في زمن الاستقلال المركز الإداري والخدماتي لجرد جبيل الجنوبي، حيث استحدث فيها مراكز لغالبية مصالح الدولة.
وقبل ذلك استوطن الصليبيون هذه المنطقة ومنهم البرنس قيقانو الصليبي الذي تحدرّت منه عائلة البيروتي القرطباوية، وفق ما أكدّ المؤّرخ الأب أوغسطين سالم السخن القرطباوي صاحب كتاب “كشف النقاب عن قرطبا والأنساب” والذي عثر على قطعة معدنية مضروبة على أسم فيليب ملك فرنسا، كما عثر على لوحة معدنية تمثّل رأس ثور له قرنان تعلو كل قرن كأس لشرب الخمر. وحسب الأب اليسوعي لويس شيخو أّن هذا الرأس يمثل الآلة باخوس إله الخمرة.
وفي منتصف القرن السادس عشر نزح آل السخن من حصّيا الباردة إلى منطقة أكثر اعتدالاً وتحوي ينابيع مياه “البلدة الحاليّة”. وكان آل شليطا قد استوطنوا المحلة المعروفة بالمرجة الخضراء. ومع الزمن جاءت العائلات الأخرى واستوطنت المنطقة وأخذت حجمها الحالي.
أصل التسمية
تعدّدت الآراء حول أصل الاسم، فالبعض ردّه إلى اليونانية والبعض الآخر إلى السريانية، وهو يعني الهواء الشافي والمناخ المعتدل أو المفيد أو الهواء العليل الصّحي. كما اعتبر البعض أنّ الاسم مشتّق من “القرطب” وهو نبات ينمو في الجبال الجرداء، وقسم من المؤرخين نسب الاسم لقرطبة في بلاد الأندلس.
اشتهرت قرطبا منذ منتصف الخمسينيات ولا تزال بزراعة التفاح بشكل خاص وهي غنيّة بأشجار الحور والسنديان، وهواؤها النقيّ لذة لأهل القرية كما للسيّاح للتمتع بسحر الأجواء المناخية الرائعة للبلدة التي تمتاز بها فمناخها جّاف ومعتدل ويلائم المصابين بفقر الدم.
ومَن يزور قرطبا يستمتع بزيارة معالمها الأثرية وعماراتها الجميلة والأبراج الستة التي تحيط بها، وهي على التوالي برج نمرود أو قرنة آفرون وفيه بقايا فينيقية ورومانية وصليبية، برج حمصيّا وبجواره بقايا نواويس ومعاصر وأبنية ونقوش ونقود فينيقية ورومانية وصليبية وعربية، وبرج سرغل الذي لم يبق منه سوى أساساته، وبرج يانوح، وبرج بارميرا.
كما تحيط بقرطبا من جهاتها الأربع مناطق أثرية تتنوّع بين الهياكل الفينيقية والكتابات الرومانية المحفورة في الصخر فضلاً عن البقايا الرومانية واليونانية والصليبية المتناثرة. وأكثر ما يشدّ انتباه الزائر هو الكتابات الرومانية المنقوشة على صخور خطّ فيها مراراً اسم القيصر أدريانوس الروماني الذي زار مدينة جبيل ومعابد الزهرة في أفقا فضلاً عن كتابات رومانية أخرى منقوشة على صخر في محلة رأس عقبة جنّة، ووادي بطرابيش وفي الدفران حيث يوجد رأس إنسان محفور في صخر كبير وفق ما ورد في كتاب “بعثة فينيقية” لارنست رينان.
وأما في منطقة حمصيّا فتطالعك بقايا هيكل لم يبق منه سوى الأساس وحجارته ضخمة جداً وقد جدّد بناءه الشيخ عزيز السخني عام 1556على اسم مار الياس شفيع جدوده.
ومن الآثار معصرة للعنب في صخرة مسطحّة نقش عليها حافر حصان جرن كبير للعصر وناووس كبير في داخله مدافن عدّة، وبقايا هيكل روماني قام على أنقاض هيكل فينيقي. أمّا في محلة “بيت حمادة” في قرطبا فقد عثر حديثاَ على صخرة نقش عليها رسم رجل وامرأة نقلت إلى المتحف الوطنيّ.
أما أبرز عائلات قرطبا فهي السخن، شليطا، كرم، عطالله، قيقانو (البيروتي) إبراهيم الخوري، صقر، سعيد ومنهم النائبة الراحلة نهاد سعيد والنائب السابق الدكتور فارس سعيد منسقّ الأمانة العامة لقوى 14 أذار.