بين كل فيديوهات الأسى التي تظهر لي على وسائل التواصل وعلى موقع اليوتيوب، تتقافز في هذه الفترة فيديوهات الفنانة شيرين بمأساتها الشخصية وبمواجعها التي تبثها حزناً وشجناً في أغنياتها. في سلسلة من الفيديوهات، برزت أمامي مجموعة من أغنياتها لما أطلق عليها «ليلة الدموع»، حيث غنت شيرين أوجع وأحزن أغنياتها حد إبكاء المايسترو والجمهور. كان لافتاً التفاعل النسائي مع شيرين، حيث كانت كاميرا التصوير تتنقل بين أوجه حاضرات الحفل وهن يغنين باندماج شديد وبتعابير ملحّة وبدموع سائبة مع شيرين، حتى غطى صوت الجمهور أحياناً على صوتها، وألحت تعبيراته النسائية البحتة على كل ما عداها، صانعين، هذا الصوت وتلك التعبيرات، ليلة نسائية خالصة من الحزن والألم والشجن.
فكرت كثيراً فيما يجمع كل الحاضرات في هذا الحفل، كل منها من بيت وبيئة ومحيط، ولربما بلد مختلف تماماً عن الأخرى، إلا أن تجربة أوجاع الحب والغدر والخيانة والهجر والبعد جمعتهن، فغنين جميعاً بصوت واحد معبرات عن تلك التجربة النسائية الخالصة التي لا يمكن للرجل أن يشترك فيها أو يفهمها، ذلك أنه أبداً لن يخوض تلك التجربة الاجتماعية، النفسية، «السياسية» للمرأة، ولن يفهم اضطرارها، وأحياناً إجبارها، على تحمل خيانة شريكها والتغاضي عنها وأحياناً التعايش معها؛ لن يفهم فكرة إنسان وُلد وهو معنون أقل، ليتكالب عليه المجتمع ليمعن في إقناعه بضعفه وقلة استحقاقه وحاجته المستمرة للوصاية والمراقبة؛ لن يفهم الرجل أبداً هذه الزاوية التي تأتي منها المرأة للحياة وتنظر من خلالها إليها، وهي في حاجة لأن تدفع وتدافع عن نفسها باستمرار، وكأن وجودها بحد ذاته خطيئة تحتاج لأن تكفر عنها.
كانت كل حاضرات «ليلة الدموع» متحدات في اللحظة، في التجربة، في الوجع. كنت أتنقل بين الفيديوهات ليس تحديداً للاستماع للأغنيات الجميلة، ولكن لمراقبة تفاعل الحاضرات، امتناناً لأي لحظة توحد النساء وتجمعهن على موقف. خطر لي ساعتها.. ترى لو اجتمعت كل هذه النساء مجدداً ليس على أغنيات شيرين ولكن على مشاهد غزة وآلام نسائها، ترى هل تتوحد ردود الفعل، هل تتماهى الدموع والآهات، أم تقف السياسة وصانعوها والأيديولوجيات ومشكلوها والعنصريات ومؤسسوها، الذين هم في الغالب من الذكور، والتي هي كلها مؤسسات في عمقها ذكورية، بين النساء فتفرقهن وتتغلب حتى على غريزتهن الطبيعية للحماية والرعاية وحفظ الحياة؟
نتشارك، نحن النساء، بتجارب لن يفهمها الرجل أبداً حتى تلك الخاصة بالحروب والنكبات وظروف الحياة العصيبة. لن يعرف الرجل مثلاً معنى أن تجبر امرأة على ترك بيتها الذي هو جلدها الثاني، حيث كل خصوصياتها ودقائق حياتها مغروسة فيه، نازحة إلى مكان لا تعرفه، لم تصنعه أو تأنس له، لن يفهم شعور أن ترى امرأة ملابسها الخاصة مكشوفة على الملأ، تلمسها أيادي الغرباء وتنتهكها نظراتهم وسخرياتهم، لن يتخيل شعور أن تدمى امرأة فيلسع السائل الحار جنبات رجليها دون أن تستطيع حماية نفسها من حاجات ومتطلبات و«سلوكيات» جسدها الذي يبدو هو كذلك أحياناً متكالباً بجيناته وطبيعته عليها. هل يمكن لرجل أن يدرك معنى ألم الطلق أو الحاجة لدفع إنسان صغير خارج الجسد الواهن في اللحظة، وكل ذلك تحت وقع إطلاق النار والتفجير؟ بل لنذهب لما هو أصغر وما يبدو أنه أبسط، هل يمكن لرجل أن يدرك معنى ألا يكون لدى امرأة «كريم» بسيط تمسح به على وجهها، مشطٌ تروض به خصلات شعرها، قصافة تقصف بها أظافرها، وشاح تغطي به شعرها، أو رداء نظيف يحميها من تراكم إفرازات جسدها الهرمونية التي تفوق إفرازات الرجل وهرموناته أضعافاً مضاعفة؟
هل يمكن لرجل، ولو كان أباً، ولو كان فاقداً، أن يفهم معنى أن تموت قطعة اللحم والشحم والعظام التي نمت في جوفك وتغذت من باطن جسدك وتكونت من تفاصيل روحك؟ حتى الأب لا يمكن أن يفهم معنى هذا الفقد، كما لا يمكن لرجل أن يستشعر معاني كل التجارب المذكورة السابقة، صغيرها قبل كبيرها. فقط نحن النساء نفهم هذه التجارب، نتعايش وإياها ونستشعر أحمالها. لو جمعتنا ليلة غزاوية مثل «ليلة الدموع»، ولو أطلقنا عليها مجازاً «قرن الدموع»، أكنا سنبكي ونتوحد في التجربة كما توحدت نساء حفل شيرين، أم كنا نسمح لكل المفرقات الذكورية أن تفرقنا؟