من الناحية الفنية فإن الشاعر العراقي نامق سلطان، في فضاء تجربته الشعرية وخصوصيتها، لا ينتمي بتقاناته في كتابة النص الشعري إلاّ إلى ذاته، مبتعدا بذلك عن نسق الرثائيات والبكائيات، التي انخرط فيها رهط كبير ممن يكتبون الشعر في العراق، خلال الأربعة عقود الماضية، بالشكل الذي أتاح للنقاد وبكل سهولة، أن يعتمدوا مفهوم التجييل في تصريف مقولاتهم النقدية، عند قراءتهم لخريطة الشعر والشعراء، رغم ما نتج عن هذا المفهوم من تعميم وتبسيط.
وفرادة المخيلة التي يتمتع بها سلطان أخذته إلى منطقة خاصة من الاشتغال الشعري، مكنته من أن يمنح الأشياء التي يلامسها شحنة قوية من الأحساسيس المفرطة في نعومتها، خاصة أن الإنسان اعتاد على افتقادها في زحمة حياته اليومية المعبأة بالعطب. وفي لعبته الشعرية هذه يمارس حريته كاملة، من غير أن يعير اهتماما للأصوات العالية بكل ما يمكن أن تزج به من صخب وفوضى وخدوش في مملكة الروح، كما أسقط من رؤيته الفنية أي سلطة مستعادة من ذاكرة التاريخ. هذا ما تجلّى في المجاميع الثلاث، التي سبق أن أصدرها، واستكمل ذلك في مجموعته الشعرية الجديدة التي حملت عنوان «قريبا من الأرض» الصادرة عن دار نون للطباعة والنشر والتوزيع مطلع شهر آب/اغسطس 2020.
مخيلة يقظة
مغامرته الفنية على ما تحمله من تطلع إلى استحداث بنية جديدة في لغة الشعر، يتوفر في صورها مستوى عال من الشفافية، فهي تحمل في مستويات تركيبتها دلالات التصادم والتناقض في حركة الزمن، وصولا إلى لحظة المفارقة، على النحو الذي يقصد منه إحداث صدمة في وعي وعاطفة المتلقي، فهو يتقصد أن يواجههه بمفردات يعرفها جيدا، ويتعامل بها في انشغالاته اليومية المختلفة والمتنوعة، لكنه يتفاجأ بها في النص الشعري، وقد تشكلت على الصورة التي لم يتوقعها ولم يرها، حتى تبدو وكأنها قد تمرّدت على معجميتها، واكتسبت نظامها الخاص، بعد أن خرجت من مشغل الشاعر متوهجة بإيحاءات تعبيرية جديدة.
هكذا أو هكذا
ستفقدُ في النهاية، قدرتَكَ على الحزن
مثل حصانِ جاءوا به إلى المدينة
وحجبوا عينيه،
كي تبقى أحلامه تتأرجح في عربة يجرّها
ثم تبدأُ بالذبول
شيئا
فشيئا.
لإحداث هذا الإسقاط الدرامي، لا بد من مخيلة يقظةٍ قادرة على أن تتنقل بين الحضور والغياب، على أن تفتِّتّ ما تستند إليه أوهامنا من قوانين صلدة في تحديد وتنظيم أبعاد الأشياء، وهذا بعض ما يتفرّد به الشاعر نامق سلطان، إذ بوسع مخيلته أن تحيل الدلالة من بنية واقعية مرتهنةٍ بها، إلى بنية رمزية، مستعينا بمجازاته واستعاراته، التي يتفنن في خلقها لتتجاوز ما يؤطرها من حدود ومعان، وهو بذلك أبعد ما يكون في جملته الشعرية عن التستر بأقنعة بلاغية مستهلكة، لاقتناص الأشياء من الواقع، ودائما ما يتحاشى الوقوع في هذا الفخ، الذي عادة ما يخضع له الشاعر التقليدي طائعا خاضعا بكامل وعيه وإرادته الشعرية، بل يحرص نامق على أن يتدفق نهر خياله ليأخذها إلى أماكن قصية، قبل أن تتحقق الدهشة لدى المتلقي في لحظة اللقاء الذي عادة لا يكتمل إلا في نهاية النص.
ولأنكِ طبيعيةٌ جدا
أكاد لا أميّزُ بينكِ وبين صخرةٍ
يحاول البحرُ أن يدفعها إلى الشاطئ
بينما هي لاهيةٌ عن رعونتهِ
تفلّي شعرهُ بأصابعَ ناعمةٍ
كمن يروّض حصانا جامحا
أو ينوّم طفلا.
شعرية جديدة
يواصل سلطان التحليق خلف خياله، الذي يجنح به إلى امتلاك ما لم تصل إليه مغامرات الشعراء الآخرين من صور، وميزته التي تفيض بها نصوصه، أنه مسكون بما تعج به المدينة من تفاصيل، فيتوقف أمامها ليوقظ ما يسكنها من أحاسيس مركونة في الأعماق، إنه معني أكثر من غيره في التقاط التحولات التي تعصف بالإنسان الذي نلتقي به أينما التفتنا، فما من شيء غريب يميّزه عنّا، إلا أن نامق يقدمه لنا في صورة أخرى لم نعهدها، فيها تمرد على نمطيتها الواقعية وانسلاخ عن تأطيرها الفوتوغرافي، لأنه يتعامل مع الشعر باعتباره نزعة جامحة لتأسيس علاقات جديدة مع الأشياء المألوفة في الواقع، والخروج بها من جمودية صورتها الراسخة في الذهن، محطما بذلك شكلها التقليدي، ولتبدأ فيها حياة تنطوي على بنية استعارية تنشط فيها أجنحة الشعر في التحليق، بعيدا عن الأرض وليس قريبا منها، كما هو عنوان المجموعة الشعرية وهذا ما يؤكد مهارته في اللعب.
مرة
حاولتُ أن أجرّب خدعة قديمة
بأن أدخِلَ يدي في جيبي
فتخرجَ بيضاء..
كان الأمرُ سهلا
لكنني تمنيتُ لو أني لم أفعل
فلقد خَرجتْ حشودٌ خلفي
نساءٌ يتبركنَ بثيابي
بائسون يطالبونني أن أنتصفَ لهم
موتى يرغبون بأن يعودوا شبانا
خائبون، وجناةٌ، وتائباتٌ
كأنَّهم كانوا ينتظرونني
منذ ألفِ عام..
هنالك توق دائم إلى ابتكار صور شعرية متلاحقة في نسيج النص، ويكتسب هذا الاشتغال قوته وحضوره من تمرده على الأصول الشعرية القابعة في قصيدة العروض والتفعيلة، ومن السهل جدا على من يقرأ نصوصه أن يكتشف انعتاقها من قيود الموروث الشعري لغة وبنية وأسلوبا، فهو حريص في لغته على أن تتحرر من كسلها وخوفها من الانفصال عن ماضيها، وأن تتخلى عن ركوب الخيل والجمال وتغادر الخيمة والصحراء، لتقطع الشوارع وتتسلق الجبال بدراجة هوائية.
لو كانت الحياة دراجة هوائية
لا تقنت قيادتها بلا معلم
عندها ستكون لي هوية واضحة
انطلق بها بين جبال
ووديان
وغابات
أبحث عن شجرة
كنت واحدا من أغصانها
قبل أن تقطعني فأس في لحظة عابثة.
الانشداد إلى الذات
الشاعر لن تكتمل تجربته، إذا لم تكن له رؤية ذاتية إزاء العالم، يعبر عنها من خلال خياره الشعري، ولن يأتي بجديد إذا كانت رؤيته الفنية تخضع لوظيفة تتوحد بها مع صوت الآخرين، ولأجل أن يمسك بمفاتيح التجربة الشعرية، ويكتشف جمالها المخبوء في الأعماق المجهولة، عليه أن يملك جناحي طائر، وبقدر ما يحرص الشاعر سلطان على أن ينتمي برؤيته إزاء الشعر والحياة، إلى وجوده الواقعي، إلا أنه أشد حرصا على أن لا ينتظم في صفوف الفوضى التي تعج بها المدينة الحديثة، ولا ينضوي تحت أغطيتها الثقيلة، لأنها بالنسبة له قمع آخر لا يقل سطوة عن عبء الماضي وحمولاته، ولعله هنا يلتقي مع جذوة الفنان في توقه إلى أن يكون في عالمه الخاص، منعزلا عما حوله، ومحتفيا بذاته التي لا يكتمل حضورها إلا إذا كانت مشدودة إلى ذاتها.
الحفلات لا تناسبني
أفضل الجلوس أمام مدفأة
أقلب أحلاما تيبست أصابعها من البرد
أو أبحث في كتب قديمة
عن صيادي أفكار ومسرات سهلة المنال.
لا أغالي إذا ما قلت بأن نامق سلطان يخرج عما ألفناه في سياق الكتابة الشعرية العراقية، وهذا الانحياز في التفرد، أفترِضهُ كامنا في قدرته على اكتشاف الجمال الأخّاذ غير المحسوس في ما حولنا، بما يلتقطه من تفاصيل صغيرة، وهي تنسرب في حشد من الأحداث اليومية، بدون أن نلتفت إليها وإلى ما قد تحمله من دلالات مخزونة في صورتها العادية، فنحن أمام شاعر يضعنا أمام تجربة تدفعنا إلى الاعتقاد بأن كل شيء يمكن للشعر أن يخترقه بضوء لغته، التي تتأمل الأشياء أكثر مما تخاطبها، لغة تختزل الحكايات والتواريخ بمفردة، وهذا هو جوهر الشعر الذي لا ينازعه عليه فن آخر. ومن اللافت أن لا تستثير هذه التفاصيل ذائقتنا الجمالية عندما نمر بها في تشعبات الحياة، إلا انه يقتنصها قبل أن تهرب وتنصهر في الزمن، كما لو أنه مصور محترف يستعمل عدسات زووم، لها القدرة على أن ترصد رمشة العين عندما يشعر الإنسان بسعادة داخلية.
ما الذي يحملهُ الرجلُ السعيدُ برأسه؟
أسأل نفسي يوميا
كلما رأيتُهُ في الصباح ذاهبا إلى السوق
وعائدا برغيفي خبزٍ، وابتسامةٍ طافحةٍ
كأنها عبيرُ امرأة يطوفُ حوله
حتى أظن أن شيئا ما يرقصُ في داخله
فأقدامُه تترك آثارا وردية
على التراب.
نصوص هذه المجموعة بما تنطوي عليه من تعالق فني مع الواقع الإنساني، كان هاجسها التقني اللعب في مساحة من المفارقات الإنسانية، ربما لا تستوعبها إلاّ بنية قصيدة النثر، وفي سياقها العام تأتي منسجمة مع المسار الشعري الذي تشكلت عناوينـــه، خلال ثلاثـــة عقـــود من الكتـــابة الشعرية، كان نامق سلطان قد اجترحها، والتي تعكس وعيا حادا باللحظة الراهنة التي يعيشها الشاعر، وما يسعى إلى تأكيده من رؤية إزاء مفهوم الشعر الحديث وبحساسية جديدة .
سلطان الذي يقف عند عتبة العقد السادس من عمره سبق له أن أصدر عام 1995 مجموعته الشعرية الأولى «أقحوانة الكاهن» عن اتحاد الأدباء في نينوى، وفي عام 2016 صدرت مجموعته الثانية «ترقيع الأمل»عن دار مومنت في لندن. وفي عام 2019 صدرت مجموعته الثالثة «مثل غيمة بيضاء».
أما الرابعة «قريبا من الأرض» التي هي موضوع مقالنا، فقد صدرت مطلع شهر أغسطس 2020 عن دار نون للطباعة والنشر والتوزيع في مدينة الموصل.
٭ كاتب عراقي
شاعر عراقي مبدع يحمل فمر الرواد وينتمي إلى مدينة عريقة هي نينوى الحدباء وعاش وترعرع في ريف جنوب الموصل كل هذه المقومات جعلت منه ينفرد بتجربته الشعرية بطابع ذاتي..بالتوفيق دكتور نامق سلطان..تحياتي لك
شاعر عراقي مبدع يحمل فكر الرواد وينتمي إلى مدينة عريقة هي نينوى الحدباء وعاش وترعرع في ريف جنوب الموصل كل هذه المقومات جعلت منه ينفرد بتجربته الشعرية بطابع ذاتي..بالتوفيق دكتور نامق سلطان..تحياتي لك