ترجمة صالح الرزوق
انتهت زيارة أمي الحالية إلى الولايات المتحدة بعد أسبوع من الأحداث الدامية التي اندلعت في أوديسا. لم يقنع أمي شيء للانتظار معنا حتى الأبد، ولم تنفع توسلاتي، ولا الحرب المحتدمة في ذلك البلد التعيس. هل ستتوسع دائرة الحرب من دونباي حتى تشمل مسقط رأسي، المقسم بين أتباع روسيا، والأوكرانيين المتعصبين، وأبناء أوديسا الأصلاء المنحازين لمدينتهم وليس لأمة ممزقة إلى دول؟ وهل إن نيران الاتحاد التجاري الذي مات فيه أكثر من أربعين شخصا، سيقود لمزيد من حرب الشوارع؟
كنت أنا وزوجي نائمين حينما استقلت الوالدة سيارة عامة. كانت قد ودعتنا نحن والأولاد في الليلة السابقة، ورفضت عرضنا لنقلها بسيارتنا إلى المطار. فهي تكره فكرة أنها حمل أو عبء. كان المطار تقريبا يخلو من المسافرين حينما وصلت. ومع بعض المتاعب المتوقعة بسبب ضعف لغتها الإنكليزية، تحملت كل الإزعاجات البيروقراطية وشقت طريقها إلى البوابة. في وسط المساحة الدائرية المخصصة للانتظار، فتحت استراحة أبوابها للتو وبدأت العمل. اشترت الوالدة كوب قهوة من الحجم الكبير، ومعجنات بالتفاح من حجم مضاعف. وباستعمال الإشارات، قادتها العاملة إلى منصة السكر والحليب، أضافت الوالدة بعض القشدة والسكر لمشروبها، وجلست قرب طاولة بانتظار النصف ساعة المتبقية التي تفصلها عن رحلتها إلى فيينا، لتبدل هناك الطائرة وتتابع إلى أوديسا. كانت تحن لفنجان قهوة في بيتها، على الشرفة، بعد أن تغليه في إبريق موكا بإضافة الكمية المناسبة من الماء وعلى درجة الحرارة المفضلة، وسكبه في فنجانها المصنوع من البورسلان الرقيق.
كانت مجهدة ولا يمكنها القراءة، واكتفت باحتساء القهوة من كوب الورق الشمعي وهي تتأمل سلوك الناس حولها وعاداتهم، وكيف يقتربون من طاولة الحليب والسكر.. رجل ببذة رجل أعمال قبض على إبريق حراري، ولسبب غير مفهوم سكب بعض الحليب في علبة معدنية، ثم مسح كل شيء بفوطة، وسكب المزيد من الإبريق في فنجان قهوته، وعاود المسح بالفوطة، وهو يحاول النظر في الفتحة الرفيعة للإبريق، ثم حمل علبة السكر، وأضاف القليل منه لقهوته، حركه، وتذوق الطعم، وكرر إضافة السكر والتذوق عدة مرات. كان ظهره الطويل والعريض محنيا فوق المنصة، ويداه وذراعاه وكل بدنه تقوم بمئات الحركات غير الضرورية. وأخيرا، ابتعد عن الإبريق وتفحص أرجاء الغرفة كما لو أنه يعود لرشده. كان عصبيا مثل من يبتعد عن مسرح جريمة ارتكبها، ثم حمل القهوة وحقيبته وحقيبة يده وغذ المسير مبتعدا. اقتربت امرأة. سكبت نصف قهوتها في علبة النفايات. ثم ملأت الكوب بالحليب. وبعدها جاءت امرأة نحيلة ومتخشبة في حوالي الستين من العمر. وتحت ذراعها جزدان أصفر ناعم. كانت تحمل كوبين من الورق. وتقتصد بحركاتها المنضبطة بدقة. كانت تراها الوالدة بذهنها بائسة ودميمة في كل تفاصيل حياتها. احتلت المرأة الزاوية البعيدة من الطاولة وأخرجت من جزدانها ملعقة شاي معدنية. ثم كيسا من الورق يحتوي أوراق الشاي، وغرفت بالملعقة القليل منها. وانتظرت بضع دقائق لتترسب أعواد الشاي، ثم نقلت الملعقة للكوب الآخر.
كانت الوالدة تعتقـــــد أن المرأة ســـعيدة بهذه اللعـــبة: تحصل على الماء الحار بالمجان وتضيف له الحليب والسكر بالمجان أيضا. يا لها من لعبــــة. وما أن تخلى مسافر آخر عن طبق الحليب حتى حملته المرأة لتستفيد منه، وتضع فيه كفايتها من السكر، وكانت حريصة على إخفاء بعض أكياس سكر التحلية في جيبها، ثم ابتعدت لتقدم الشاي لشريكتها التي تنتظر عند الحقائب.
كانت الوالدة تأتي إلى أمريكا تقريبا كل عام، ولما يزيد على عقدين (أكثر من عشرين سنة). ولم يعد شيء يدهشها بعد الآن، ولكن لم تكن تستطيع أن لا تكره ما تراه. لماذا في أغنى بلد في العالم لا يزال البشر منطوين على أنفسهم وبدون طموح؟
فكرت بهذه المسألة كثيرا. وحينما اتصلت بها بالموبايل لأتأكد أنها مرت من كل المشاكل البيروقراطية بدون عناء، ذكرت لي ملخص ما شاهدته في الاستراحة كدليل على انحدار البلد الذي أومن به وأعيش فيه، حاولت أن أشرح لها، ولكن رن صوتها الثاقب كالمعدن.
قالت:»هذا ما رأيته بأم عيني».
كانت زياراتها تطول لشهر أو اثنين كل مرة، وخلالها تنظف وتطبخ وتقرأ لأحفادها بوشكين، تمكنت من إعادة الثقة بينهم وبين الأعمال الكلاسيكية، ولكن كل مرة، عاجلا أو آجلا، تحزم حقيبتها وتذهب للمطار، وتعود إلى بلدها، وطنها المفضل. في هذه الرحلة وبعد اثنتي عشرة ساعة من الوقت المفترض للوصول إلى أوديسا لم أسمع منها كلمة. واصلت الاتصال والاستماع لرنات الجرس. ولم أستطع النوم، وتابعت الإنترنت للتأكد من عدم انفجار دورة عنف جديدة. ثم عدت للعمل منهكة بعد مرور ليلة لم تغمض لي فيها عين – وهنا ردت على الهاتف وتصرفت كأنه لا يوجد ما يدعو للقلق. كانت السيارات تحترق في الشوارع، والقنابل تنفجر في البنوك – غير أنها لم تذكر لي شيئا عن هذه المآسي. وعوضا عن ذلك أخبرتني أن كلارا ستذهب اليوم للشاطئ وسنحتفل معها. الطقس صحو، إنه يوم من أيام الصيف الرائعة. وأضافت: «تخيلي، الطماطم التي زرعتها على الشرفة وصلت بطولها لخصري تقريبا. أتمنى أن تأتي ومعك الأولاد. أما الآن سأنام. فقلبي يخفق من التعب. واحرصي أن يقرأ الأولاد كل يوم صفحتين باللغة الروسية. هل هذا وعد؟».
ثم أغلقت الهاتف تركتني جالسة في مكتبي، سماعة الهاتف على أذني، وأنا استمع لصوت الصافرة المعدنية.
٭ كاتبة روسية تعيش في الولايات المتحدة.