لعله يغيبُ عن بال الشاعر وهو يتأهب لكتابة قصيدته أنه يمارس عملا خطرا أشبه باللعب بأصابع الديناميت، وأن تلك القصيدة المسالمة الوادعة ذات الوجه الأبيض البريء المشرب بالحياء والحمرة قد تتحول بغتة إلى روح شريرة تفترس صاحبها وتبطش به، وتميط اللثام عن أسراره وتفضحه بين الخلائق.
إنّ لاوعي الشاعر الممتلئ بالفضائح والأسرار، والمكبوت من الحاجات والرغبات، وما يظن الشاعر أنه نجح في إخفائه حتى فني أو تلاشى، لا بد أن يظهر إما في أحلام الشاعر أو في قصائده، غير أن ظهوره في الأحلام لا يرتب عليه أيَّ كلف أو عواقب، أما ظهوره في القصائد فهو ما يجعل القصيدة أشبه بحفرة كبيرة يكاد الشاعر يقع فيها، أو مصيدة قد تصطاده في أي لحظة، فالقصيدة تنجح في استدراج شاعرها، تلاعبه وتداعبه، تداريه وتراوغه، وتراوده عن نفسه وأسراره، حتى تصل به إلى ذروة اللذة الشعرية حسب رولان بارت، وهو وإن صمد أمام مفاتنها برهة من الوقت، غير أنه لن ينجح في ذلك إلى ما لا نهاية، فتبدأ مياه الأسرار بالتسرب من شقوق العقل الباطن، لتسيل على ورق الكتابة بانتظار قارئ يقظ قادر على تفسير رموز الأحلام، وفك شيفرات النص المشوب بالفضيحة.
إن اختيارات الشاعر من مفردات وبنى تركيبية وبنى تصويرية له تأويلاته غير البريئة، وله مخرجاته في واقع النص، فالشاعر العربي القديم الذي شبه البدر بالدرهم لم يقم بمحض عمل تصويري فوتوغرافي مجرد، في قوله:
«والبدر في كبد السماء كدرهم
ملقى على ديباجة زرقاء»
بل يذهب بنا الأمر أبعد من ذلك حين نطرح سؤالنا غير البريء عن خلفية اختيار الشاعر للدرهم دون سواه من اختيارات المجاز، ولن نكون مجافين للحقيقة إن اتهمنا الشاعر بحب الدراهم، والحرص عليها، وندرتها في يده، فذلك مما استطاع أن يخفيه عن الآخرين، لكنه لن يستطيع أن يخفيه عن جنية القصيدة. لعل الشاعر لن يخطر بباله أن تقوم القصيدة التي استأمنها ودائع قلبه، وأسرار روحه، بالوشاية به وخيانته وفضحه، والتشهير به على الملأ، لأن القصيدة لم توجد إلا لكي تزوّد القارئ بأرقام شيفرة اللاوعي، لشاعر فقد السيطرة عليها في ذروة لحظة الإلهام. ولعل هذه الظاهرة هي المسؤولة إلى حدٍّ بعيد عن رغبة الشاعر في المراجعة والتحكيك والحذف والإضافة، وربما حرمان قصيدته من النشر، خوفا على هذه الأسرار، ولعلها كذلك المسؤولة عن الاعتزال المبكر للعديد من الشعراء، للكتابة الشعرية، حفاظا على ما تبقى من مكبوت أسرارهم وفضائحهم.
أخطر ما في القصيدة القديمة بدايتها بما تشتمل عليه من مطلعها، فهي جوهر الرؤية، ومدار الشعرية، وكلُّ التنويعات الأخرى إنما تدور في فلكها وتؤازرها وتعلي من شأنها.
ولعل شبيها بذلك الشاعر شاعرنا المتنبي حين شبّه بقع الضوء على ثيابه من بين فرجات الأشجار بالدراهم التي لا يمكن الإمساك بها في قوله:
«وأَلقى الشَّرقُ منها في ثيابي
دنانيرا تفرُّ من البنانِ»
إنّ صورة الدنانير التي تفرّ من بين الأصابع لتكشف للقارئ ما انزوى في مكنونات اللاوعي من شوق لرؤية الدنانير الذهبية الخلابة، لكنّ هذه الرغبة التي أخفاها الشاعر لعلمه بأنها تتنافى مع المروءة، وتتناقض مع العديد من أقوال الشاعر الواعية في قصائده الأخرى، لتظهر بشكل مواربٍ في مثل هذه الوقائع الشعرية، ليقعَ الشاعر في حبائل قوله الشعري، وتغدو لديه القصيدة أشبه بالمصيدة. ولعل هذه الفلسفة هي المسؤولة عن ظهور المطالع الغزلية والطللية في شعر الشعراء الجاهليين والإسلاميين، وما سميت خطأ بمقدمات، إنها ليست مقدمات، بل هي محور الرؤية الشعرية، وجزء لا يتجزأ من رغبة الشاعر العارمة واللاواعية في توجيه رؤيته نحو لاوعيه لاستخراج مكنونات ذلك العقل الباطن المغلق على نفسه، فراح الشاعر العربي قويّ الشكيمة اللائذ بموروءته يعبّرُ عن حبه للأنثى وولعه بأطلالها وما تبقى من ديارها بطريقة مشرّفة، حين تذرَّع بأَنَّ هذا البوح هو مجرد مقدمة للوصول إلى غرض القصيدة من مدح أو هجاء، وهو ما يجعلنا نشكك في أغراض القصائد التي أثبتها المحققون على الدواوين الشعرية، وبقدر ما تطول المقدمات الطللية والغزلية، وتقلّ مساحة الغرض الشعري، بمقدار ما نطمئنُّ إلى نظرتنا النقدية، في أنّ الشاعر مهما حاول التكلف أو تزوير وعي القصيدة، فإن القصائد هي الفاضحة الكاشفة، وأنّ الرؤية الشعرية لا بد من أن تطل برأسها ولو على هيئة مقدمة أو خاتمة.
إنّ أخطر ما في القصيدة القديمة بدايتها بما تشتمل عليه من مطلعها، فهي جوهر الرؤية، ومدار الشعرية، وكلُّ التنويعات الأخرى إنما تدور في فلكها وتؤازرها وتعلي من شأنها. ولعل هذا ما فضح أمير الشعراء حين ادعى في قصيدته التي مطلعها:
«سلوا قلبي غداة سلا وتابا
لعل على الجمال له عتابا»
بأنها قيلت في المولد النبوي الشريف، ولعل توقع القارئ ينكسر تماما حين يجتاز ثلثي القصيدة بدون أن يعثر ولو بكلمة واحدة في المولد النبوي أو في النبي محمد.
ترى، لماذا لم يخصص الشاعر مساحة قصيدته لموضوعه الذي أراد أن يتحدث فيه، ولماذا جعل مدح النبي في آخر أبيات القصيدة، ولماذا خصص مطلع القصيدة وأهم مساحاتها لبكاء الشباب ولحظات اللهو والخمر، وهل يتناسب هذا الباب مع جلالة النبي ومولده؟ لعل هذه الأسئلة تقدم إجابات أكثر مما تطرح أسئلة، فمثل هذا البناء يشي باختراق دوائر أمن الشاعر، ويدل على مخزن أسرار الشاعر الباكي على شبابه وإدمانه على الخمر، ما جعل القصيدة تنساق لتلك البوصلة، وتحاول تأخير لحظة إعدامها في توجيهها نحو ما لا تحب من الانصياع للذوق الشعبي أطول فترة ممكنة. وفي قصيدة «كلمات» للشاعر العربي نزار قباني الذي عرف بنصرته للأنثى والتبشير بتحريرها، ما يظهر للقارئ أن القصيدة تسير في هذا الدرب، ولعل بريق القصيدة الخُلَّبَ هو ما أثار الفنانة ماجدة الرومي لغنائها باعتزاز، ظانة أنها ترفع صوتها نصرة لصويحباتها من النساء، لكن نظرة متأنية للقصيدة يجعلنا نقف على حدّ الفضيحة، ليغدو لاوعي الشاعر غاصا بالاستخفاف بالمرأة ولو من خلال البنى التصويرية التي تبدو فيها المرأة أشبه بـ«طفلة» أو بـ«ريشة» أو بـ«لوحة»، أو من خلال البنية النحوية والصرفية التي يبدو فيها ضمير المرأة المتكلمة، وهو يرزح تحت وطأة المفعولية «يسمعني، يراقصني، يحملني، يأخذني» في حين يختار الشاعر لنفسه ولضميره النهوض بالفعل، فهو فارس الفعل، وهي مجرد خاضعة للأفعال الذكورية، إنه السيد الآمر الناهي، وهي التابع المنصاع للأمر الذكوريّ، مما يؤكد مركزيته في مقابل هامشيتها، ومبادرته تلقاء استجابتها الآلية الخاضعة لإمرته.
إن ما سبق من الأمثلة ومثله العشرات التي لا يتسع لها المقام، يؤكد أن الشاعر قد يذهب وعيُه في اتجاه، ولاوعيُه في اتجاه آخر، في حالة أشبه بالفصام، فقد يكون قد شاء المدح للحصول على صرة دراهم، غير أنّ لاوعيه الذي يأبى التزييف يحولُ المدح إلى هجاء مبطن، كمثل المتنبي في مدائح كافور التي تخلو تماما من المدح لكل ناقد ذي عين بصيرة، مما يُنتجُ تلك السلسلة التي لا تنتهي من المفارقات. ولعل هذا الرأي يجعل سيطرة الشاعر التامة على قصيدته مشكوكا فيها، ويضعف من إرادة الشاعر في إحكام قبضته عليها، ويجعلها منتجا خارج السيطرة ؛ سيطرة الشاعر والقارئ على حد سواء.
أستاذ ناصر … مقالة ممتازة
قولك أن القصيدة قد تكون فضيحة لمبدعها يوافقك عليه الكثيرون ومن بينهم علماء النفس…
ولكن الاحتراس الزائد من الشاعر لئلا تكشف قصيدته عن لاوعيه ورغباته المكبوتة سيؤدي إلى نتاج شعري مزيف