قصائد بلا شعراء: طائرات بلا طيار

كثير من الشعر الذي نقرؤه اليوم، أكان موزونا أم منثورا، يمكن أن نسمه بالتصنع والتعمّل والتفكر وما إليها ـ وهي سمات ليست بالضرورة أوصافا حاطة سالبة تنقصية؛ فقد تكون عند قلة من الشعراء، أمارة من أمارات الكتابة ومكابدة اللغة، ومحاولة من الشاعر للتحلل من قيود العرف والاستعمالات اللغوية المتواطئة، حيث الكتابة تتملى ذاتها وتتفكرها وتتدبر بناها ووظيفتها، وحيث مكابدة اللغة تستبق نشوء القصيدة، بما يسوق إلى القول إن الشعرية «الكتابية» تتأدى في صنع الشعر على قدر ما تتأدى في الصمت العويص، الذي يسبق القصيدة، ويهجس بها. والقصيدة لا تنبثق دائما من«إزهار» فجائي أو مباغت؛ والشعر، لا يرسل إرسالا على السجية أو عفو الخاطر، وإنما يصنع ذهنيا في صمت، حيث يقلب الشاعر مقوله تحت رقابة «الأذن الداخلية».
ونحن إذ نكتب، كثيرا ما نضفي على الكلمة مزايا نتصور أنها مصدر غناها وبقائها، ونقول بدوامها وقيمتها «اللامحدودة» في أن تكون ماثلة أبدا في مختلف الأزمنة ومتباعد الأمكنة أو بقدرتها، من حيث هي أداة مادية مرئية، على ترتيب الواقع وتنظميه من جهة، وعلى أن تكون هي نفسها قابلة لقراءة ثانية، من جهة أخرى. والأمر في الشعر الذي نحن فيه لا يجري على وتيرة من هذه «المسلمات» فالكلمة في الشعر محكومة بمكونات الإيقاع، مثلما هي محكومة بالخطاب الذي ينتظمها وبسياق استعمالها و»مقام تلفظها»، موسومة أبدا بذاتية كاتبها.
فمن الرجاحة بمكان أن نقول إن الخطاب تؤديه ذاتٌ فردية محكومة بهذا المقام deixis أي عالم الذات التي تعقد علاقة بين المقول (الملفوظ) وفعل القول (التلفظ).
وهو رأي تعززه هذه « الأنا» التي تتكلم في القصيدة، سواء أفصحت عن نفسها بضمير المتكلم أو بصيغة من صيغ « الالتفات» أو حتى بصيغة المبني للمجهول.
وإذا كانت القصيدة خطابا تؤديه «ذات» ما من خلال اللغة المشتركة، وجاز القول إنها عند الشاعر «مغامرة لغوية»، فلا مناص من اعتبارها مغامرة الذات المنشئة أيضا، إذ يصعب من دون ذلك، أن نفسر كيف تكتسب القصيدة تفردها، وتبني إيقاعها الخاص، غير أن آصرة القربى بين «الذات» وخطابها، تقتضي التمييز بين «الذات» و«شخصية الشاعر»، من غير أن يستتبع ذلك الفصل بينهما كل الفصل. والقراءة مسوقة في جوانب منها، إلى الاستئناس بسيرة الشاعر واستقراء أخباره والوقوف على مختلف التأثرات التي ألمت به، والإحاطة بأحوال عصره، فقد يكون ذلك من مستلزمات فهم نصه وتقدير جديده، إذ لا مفر من وجود علاقة زمنية مكانية قد تكون محدودة بين الشاعر وقصيدته؛ على إقرارنا بأنها ليست مثبتة قطعا، ولا هي «قصدية» قطعا. وليس ثمة كبير خلاف بين المعاصرين في أن الفن لا يناط به تصوير تفاصيل حياة منشئه ودقائق معيشه. والشعر ليس عنوانا صادقا على أسلوب حياة صاحبه ودخائل نفسه. ولا أحد بميسوره أن يستنبط منه، مهما احتشد له، ما كان يدور بخلد المنشئ، ويضطرب في نفسه، أو أن يعرف حقا كيف طفر الشاعر من الشخصية، ولا كيف نجم الإيقاع من الشاعر، أو من الجسد. وهذا الإيقاع/الخطاب مهما يكن تفرده، ليس ثمرة عقل خاص أو نفس خاصة وحسب، وإنما هو ثمرة نصوص أخرى أيضا تتحدر إليه من أكثر من صوب، وتتردد في جوانبه مجهورة حينا، مهموسة حينا، ما يراكم خطابا فوق خطاب، وإيقاعا على إيقاع. ومن هذا الجانب يمكن أن يعيننا الإيقاع، على فهم صفة التفاوت، تفاوت الإنشائية في النص وعدم اطرادها على نسق واحد. ولا نخاله يعيننا على إدراك الأفكار المتغلبة على الشاعر المتصرفة به، أو يتيح لنا أن ننظر إليه من ناحية نفسه ونوازعها الخاصة وبواعثها الدخيلة. وهي لا شك في غاية الدقة والتعقيد، بحيث لا يملك الباحث إلا أن يقف على حدودها، دون أن يقدر على السير في مجاهلها. بيْد أن الباحث الذي يتجافى عن الشخصية، ولا يرتضي أي جهد في توصيف بيئتها، وإنما يمر بها لماما؛ لا يبخس الشاعر حقه أو ينكر على البيئة نصيبها وحسب، بل يحجب على طابع النص «الاستثنائي»؛ ويجحف بحق معناه أو دلالته أو قيمته.

ولست من الذين يدعون إلى مقايسة ينبغي أن تجري الصورة بمقتضاها حتى تكون مساوية للمعنى بلا زيادة أو نقصان، أو يكون مقدارها من مقداره؛ أو أن تكون سواء أي وسطا بين حدين، فلا إفراط مسرف ولا تفريط مقصر.

المشكل في كثير من الشعر اليوم، غياب الذات الكاتبة؛ وكأنْ لا حياة لمن يكتب، بل لا أثر؛ حتى تشابهت النصوص، وكأن شعراءنا يكتبون بأصابع واحدة، بل ينسون أن مجال الشعرية ليس اللغة، وإنما الكلام وهو عمل الفرد ومنجزه؛ وطريقته في استجلاب المعاني الحافة، هي التي يتصرف المجاز بمقتضاها. وهي التي تحد مقبولية النص من عدمها. وليس أدل على ذلك قديما من عبارتهم المأثورة «استعارة صحيحة» و«استعارة حسنة» و «استعارة رديئة» و«استعارة قبيحة» و«استعارة قريبة المأخذ» و«استعارة بعيدة المأخذ». فالخلاف في هذه الأحكام إنما مرده إلى هذه المعاني الحافة التي تغْتذي من التجارب الفردية الخاصة والتجارب الجماعية العامة، حيث يكون للكلمة وقع عند بعض، هو غيره عند بعض. وقد يرجع الشعر إلى معان حافة خاصة به، أو إلى «فضل معنى» في المقول، قد يتقبله قارئ، وقد يشيح عنه آخر. وهذا الفضل «فضل المعنى» هو ما نسميه الدلالة، التي هي عمل المتلقي أكثر منها عمل المنشئ. وربما وهب النص معنى، وجاء المتلقي وأضفى عليه دلالة، خاصة ما تعلق الأمر بمجاز، فالمجاز يقتضي التأويل أولا وأخيرا. لكن ينبغي أن لا نستنتج من ذلك أن الدلالة هي عمل المتلقي وحده، فالصورة المجازية تدل على عكس ذلك، لأن من مقاصد صاحبها، صرف النظر عن دلالة وضعية، أو دلالة مطابقة إلى معنى حاف، أو عن ظاهر إلى باطن أو مضمر. على أنه ليس بميسور القارئ أن يحيط بمقصد الشاعر، في كل نص، خاصة ما اغتذى منها بمعان حافة قد تكون وقفا على الشاعر. وهذه صعوبة تُضاف إليها صعوبة أخرى ليس من السهل تذليلها: فـ«المقصد» لا يعاد إنتاجه في القراءة، أو خلقه خلقا ثانيا، إلا إذا اتخذ في النص هيئة موضوعية، أو أضاءته نصوص مصاحبة. إن الشعر على غرابته، ليس ثمرة مصادفة واتفاق غير مقصودين. ومن المفيد أن نقرأه في سياق شعرية عصره، حتى لا يطوحنّ بنا الظن بعيدا، فنحمله وهو المحكوم بتباعد منطقي خاص على نوع من التباعد الاعتباطي. وشتان بين صورة تتمثل أعلى درجة من الاعتباطية، أو المصادفة التي تتعارض والقصد أو النية، وتضع طريقة جديدة في تدبر العلاقات بين اللغة والذات، وبين اللغة والمجتمع، كما هو الشأن في السيريالية، وصورة متصنعة يتسمى فيها الشيء باسم شيء آخر، أو هو يصبح شيئا لغويا، وتتحول الكلمة في العالم وعنه، إلى خيال تتراسل فيه وبه الأشياء والكائنات؛ وما يمكن أن يتيحه ذلك للقارئ من تبصر في العلاقة بين الشيء وتسميته، وبعيد تأمل واستقصاء نظر، سواء استرسل إلى الصورة واستأنس، وعدها موافقة أو مناسبة استعارية أو استهجنها وعدها من فظ الكلام، أو من الخشونة الاستعارية، بل إن هذه الخشونة أو ما يسمى بالتنافر المنطقي في الصورة، ما هو إلا مظهر خادع، ذلك أن مناط الأمر فيها تقنين استعاري، وطريقة خاصة في تحويلها إلى نظام منطقي، لا سند له إلا من داخل الخطاب، وما يمكن أن ينهض به من إضاءة التماثلات القائمة في منظومة الثقافة، إضاءة ثانية أو الاستدراك عليها.
ولست من الذين يدعون إلى مقايسة ينبغي أن تجري الصورة بمقتضاها حتى تكون مساوية للمعنى بلا زيادة أو نقصان، أو يكون مقدارها من مقداره؛ أو أن تكون سواء أي وسطا بين حدين، فلا إفراط مسرف ولا تفريط مقصر. ولا أشاطر القائلين إنه على أساس من هذه التسوية أو من لزوم المقدار يرتسم القارئُ الصورةَ، ويمتثل المعنى، ويتحقق الإمتاع والمؤانسة. ولست من الذين يقولون إنه «مادام الله «قد جعل لكل شيء قدرا» فـ»ليس يطالب البشر بما ليس في طبع البشر، ولا يلتمس عند الآدمي إلا ما كان في طبيعة ولد آدم» وطبيعته أو خلقته بعبارة القاضي (فطرته) إنما كانت «مبنية على السهو ممزوجة بالنسيان»، ولا أقول إن النقصان سمة البشري؛ وعليه ليس يطالب الشعر إلا بما في طبع البشر ولا يلتمس منه إلا ما كان في طبيعتهم أي يتوافق والممكن ولا يضع قارئه إلا في هيئة انعطاف على الحقيقة. لأقل إن الشعر هو فن ملامسة الحياة باللغة، وليس «طائرة بلا طيار»، قد لا تفعل أكثر من أن تصيب من القارئ مقتلا. ومن الشعر ما قتل.

كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول وداد الصفدي - فلسطين:

    “وليس ثمة كبير خلاف بين المعاصرين في أن الفن لا يناط به تصوير تفاصيل حياة منشئه ودقائق معيشه. والشعر ليس عنوانا صادقا على أسلوب حياة صاحبه ودخائل نفسه” اه
    أستاذ منصف الوهايبي، أنت تحاول الالتزام بالدقة في التعبير، في هذه القرينة: ولكن كان عليك قول العبارة الأخيرة بدقة أكثر على النحو التالي: “والشعر ليس بالضرورة عنوانا صادقا على أسلوب حياة صاحبه ودخائل نفسه” – فالفرق شاسع بينها بلا مفردة “بالضرورة” وبينها بهذه المفردة، كما ترى !!!؟؟

  2. يقول منصف الوهايبي:

    جزيل الشكر استاذة وداد. للتوضيح فقط: انا قلت “ليس ثمة كبير خلاف’ اي أنّ هناك خلافا ما قد يكون محدودا. و”الواو” في ‘والشعر…” لتفصيل ما جاء مجملا في الجملة الأولى. ومع ذلك لا اعتراض على كلمة “بالضرورة” من اجل تنسيب الحكم.

  3. يقول وداد الصفدي - فلسطين:

    شكرا على الرد أستاذ منصف؛ وبالنسبة لمسألة الإيقاع وانبثاقه من عقلية خصوصية مميزة ففي يقيني خير مثال عليها هو نوع من الشعر “اللاموزن” الذي لا يتبع أيا من أوزان الخليل “الرسمية” (كيلا أقول شعرا “مثورا”)، ولكن الإيقاع الموسيقي الذي يتجلى فيه بنظام تقفِّيه (اللزومي) الخاص يكاد أن يقول قولا ضمنيا: “إلى الجحيم كل وزن رسمي مادام هذا الإيقاع ينطق بموسيقاه التي تستجيب له كل أذن موسيقية”، كما جاء مثلا في القسم السادس من قصيدة غياث المرزوق «هُنَاكَ، هُنَالِكَ بَعْدَ ٱلْسَّمَاءِ مَا بَعْدَ ٱلْأَخِيرَةِ»، على النحو التالي:
    – «اَلْاِنْتِظَارُ» –
    /… وَهَا أَنْتَ،
    أَنْتَ، يَا أُرْيُونْ!
    يَا عَاتِقًا حَبَقًا مِنْ إِسَارِهِ
    /… ٱلْجَمِيلْ
    /…
    يَا عَابِقًا نَفَقًا،
    يَا عَاشِقًا أُفُقًا
    فِي مُقْلَتَيْ مَلِيكَةِ الفَجْرِ
    /… ٱلْجَلِيلْ
    ***
    /… وَهَا أَنْتَ،
    أَنْتَ، يَا أُرْيُونْ!
    يَا أَيُّهَا القَنَّاصُ الرُّحَامِسُ،
    /… وَالجَرِيءُ
    – ﭐنْتَظِــرْ
    يَا أَيُّهَا الفِرْفَاصُ المُنَافِسُ،
    /… وَالبَرِيءُ
    – ﭐنْتَظِــرْ
    – وَانْتَظِرْ
    ***
    / عن «هُنَاكَ، هُنَالِكَ بَعْدَ ٱلْسَّمَاءِ مَا بَعْدَ ٱلْأَخِيرَةِ: «اَلْاِنْتِظَارُ» (6)»، شعر غياث المرزوق

    1. يقول وداد الصفدي - فلسطين:

      *”اللاموزن” : “اللاموزون” / *”مثورا” : “منثورا”

إشترك في قائمتنا البريدية