في أزمنة التيارات والمدارس والجماعات الحداثية، تلك التي تنهج طرقاً وأساليب غريبة في نطاق مشروع الحداثة الشعري، بل أن بعضها يتعدّاه إلى كل ما هو غرائبي ومريب في عالم الشعر، وإلى سرديّات ما بعد الحداثة، إلى الهجين والرث والشكلي، نحو الشعر اللا عميق، الشعر الترّهات، نحو صف الكلمات اللقيطة والواهمة، على إنها مفردات ساحرة وسريالية، ودادائية، وذات بعد ملغز لا يفهم إلا بصعوبة، بينما نحن نراه شعراً يلعب بالمفردات ويقلبها من أجل تغيير رؤيتها ومفهومها الدلالي، لتمسي بعيدة أشد البعد عن الروح الشعري، وسطوعه الداخلي، وبعيدة كذلك عن الشعر العميق، ذاك الذي يمس الداخل والقصيّ من أعماقنا، والنائي المتواري في أرواحنا، كشعر والت ويتمان وجاك بريفير وبول إيلوار ولوركا ونيرودا، وكذلك الشاعر الأمريكي الذي سنتحدّث عنه الآن كارل ساندبرغ، صاحب ديوان «قصائد شيكاغو» فهو ينتمي إلى الطينة ذاتها، المجبولة على المعنى العميق والبسيط في آن، للشعر الحي والنادر.
لعل مهمة الرسالة الإنسانية لهذا الشعر، هي الدفاع عن الرسالة ذاتها، أي الخلوص إلى الإنساني الكامن فينا، فالقصائد تتحدّث عن العمل بشتى أشكاله، وعن الحياة بشتى صنوفها وتحولاتها الزمنية، تتحدّث عن الحرب والجوع كقول ساندبرغ: «حظيت بنظرة حقيقية إلى الفقراء، ملايين الفقراء، الكادحين الصابرين، الأكثر صبراً من الصخور والمد والنجوم، الصابرين كظلمة الليل لا يحصى لهم عدد».
حين يكتب شاعر ما، ينبغي أن يكتب عن تجربة خاضها، عن محنة واجهته، عن عائق حياتي واجهه في مسيرته اليومية، وشاعرنا كارل ساندبرغ هو من هذه الجبلّة، لديه خبرة واسعة في حياته منذ صغره وتفتّحه على الدنيا. لقد عمل ساندبرغ في شتى المهن والأشغال، وذاق عذابات الواقع عبر تجاربه المتراكمة، في مسيرة طويلة من الكدح اليومي، حيث اشتغل وهو في مطالع حياته بوّاباً، سائق شاحنة للحليب، عاملاً في معمل للطوب، وحاصداً في الحقول والمزارع، وتطوّع جندياً حين نشبت الحرب الإسبانية الأمريكية، ثم انخراطه في ما بعد مع مجموعة من كتاب شيكاغو، الذين قدّموا المزيد من الزخم الأدبي والفني والجمالي، مدعمين بذلك الفنون والآداب في ولاية شيكاغو، هو القادم والمولود في ولاية إلينوي عام 1878 والراحل عن دنيانا في عام 1967 في شمال كارولاينا.
لقد نال الشاعر كارل ساندبرغ جائزة البولتزر الشعرية، وهي أهم وأرفع جائزة أدبية أمريكية، نالها ثلاث مرات، وهذا أمر لم يحدث لأحد سواه، وذلك عن شعره الذي يتحدّث عن مصير الإنسان، عن أوجاعه ومشاغله وآلامه وجروحه، مثلما يتحدّث عن قضايا مختلفة، عن الخوف والجوع والحرب والتحولات التراجيدية للإنسان المعاصر، فهو دائب البحث عن المنسيين والمهمّشين والضائعين في الطرقات القذرة، في الحانات الرثة، في زوايا الشوارع، في الأرصفة المظلمة، في الحدائق المجهولة، دائب البحث عن المهمومين والمنكسرين والمنخذلين في حياتنا المليئة بالأشرار والشياطين والقتلة، وها هو يكتب عن المتعبين الذين يراهم في المترو، يكتب عن رجل المجرفة وبائع السمك والحوذي وعامل الثلج والنساء العاملات في المصانع، حين يذهبن إلى المصانع كل يوم ليعملن لساعات طويلة، وغيرهم من العاملين في مهن الحياة والساعين في ركابها، فعن «رجل المجرفة» يقول:
«جفّت بقع الطين الأصفر على كمّه الأيسر، وقميصه القذر مفتوح عند العنق، أعرف أنه رجل مجرفة، مهاجر يعمل مقابل دولار و75 سنتاً، وثمة امرأة بعينين داكنتين في البلاد القديمة تحلم به كأحد رجال العالم المستعدين، بشفتين طازجتين وقبلة ألذ من عناقيد العنب البرية التي سبق أن نمت في توسكانيا».
«جفّت بقع الطين الأصفر على كمّه الأيسر، وقميصه القذر مفتوح عند العنق، أعرف أنه رجل مجرفة، مهاجر يعمل مقابل دولار و75 سنتاً، وثمة امرأة بعينين داكنتين في البلاد القديمة تحلم به كأحد رجال العالم المستعدين، بشفتين طازجتين وقبلة ألذ من عناقيد العنب البرية التي سبق أن نمت في توسكانيا».
وفي ديوانه يتذكر وداع الحوذي للحياة في الشارع، فها هو ذا يصف معه اللحظات الأخيرة وهو يساق لأمر ما إلى السجن باكياً: «وداعاً الآن للشوارع واصطدام العجلات ومسننات الإقفال، للشمس المنعكسة على المشابك النحاسية وعقد طقم الفرس، لعضلات الأحصنة وهي تنزلق تحت أوراكها الثقيلة، وداعاً لشرطي المرور وصفرته، لطقطقة الحوافر المعدنية على الأحجار، لكل الزئير الصاخب والمجنون والرائع للشارع، آهٍ يا إلهي ثمة ضجيج سأظل جائعاً إليه».
كأن الشاعر كارل ساندبرغ شاعر منذور لكتابة سيرة الناس في القاع السفلي، سيرة المُبعد والمهمّش والمخذول، فعامل المجرفة يعدّه رمزاً حياتياً كبيراً في قصيدته، وحين يفرغ من سيرة صاحب المجرفة يلتفت إلى زميله ورفيقه في الطريق ذاته، الطريق لا غير، وللطريق بالطبع عماله وحفاروه وشغالوه، إذن لننظر معاً في هذه القصيدة المكتوبة عن الحفّارين وعنوانها يدلّ عليها « الحفّارون « وفيها يقول: «عشرون رجلاً يراقبون الحفّارين، وهم يطعنون جوانب الحفرة، حيث يتوهّج الطين باللون الأصفر، دافعين شفرات مجارفهم إلى أعمق وأعمق من أجل أنابيب الغاز الجديدة، يمسحون العرق عن وجوههم بمناديل حمراء، يعمل الحفّارون.. يتوقفون.. كي يسحبوا أبواطهم من الدوّامات الماصة، حيث يضربون، من العشرين الذين ينظرون عشرة يتمتمون: آه يا له من عمل رهيب.. عشرة آخرون يا يسوع أتمنى لو أحصل على هذا العمل».
وفي مكان آخر، يذهب إلى التدقيق في تفاصيل الحياة، محدّقاً في الأشياء والكائنات والمصائر ونهايتها، مصير الإنسان الذي يتولاه الحزن تارة، وتارة أخرى تأتيه السعادة، وهنا يتساءل ساندبرغ عن الحياة ولغزها مثل العديد من البشر وعن ماهية السعادة وسرّها وكنهها قائلاً: «سألت أساتذة يدرّسون معنى الحياة أن يعرّفوا لي السعادة، وذهبت إلى مديرين تنفيذيين مشهورين يرأسون عمل آلاف الرجال، فهزوا رؤوسهم جميعاً وابتسموا لي كما لو أنني كنت أحاول خداعهم، ثم في أصيل أحد أيام الأحد تجوّلتُ على ضفة نهر ديسبليتز فرأيتُ حشداً من المجرمين تحت الأشجار مع نسائهم وأطفالهم وبرميل من البيرة وأكورديون».
شاعر قصيدة «السعادة» هو أيضاً شاعر المأساة والملهاة، شاعر عرف كيف يصوغ أشعاره لتكون مثل أيقونات شعبية، تهتم بالجوهر الحقيقي للبشرية، أفعالها نوازعها، فقرها، همومها التي هي موجودة في الشارع والحانة والمقهى التي يرتادها كارل ساندبرغ، هو ليس شاعرا شعبويا، بل هو شاعر القاع والمشردين والفقراء من عامة الشعب، وشعره أيضاً لا يذكّر بالشارع فقط بل يذكّر أيضاً بالطبيعة وما تحمله من تفاصيل سحرية، وهو خير تلميذ لوالت ويتمان صاحب «أوراق العشب»، فهو من الطينة ذاتها، ينزع نحو الجوهر، نحو البعد الدامس والمضيء أيضاً في أعماق الإنسان: «رائحة القش المحصود حديثاً، وريح السهل، جعلا منها امرأة تمتلك قوة التلال في أضلاعها، يداها قويتان للعمل، وثمة هيام في الحياة في رحمها، عبرت هي وزوجها المحيط والأعوام التي تركت خطوطها على وجهيهما، ورأتهما يساومان أصحاب الأراضي والبقاليات، بينما كان ستة أطفال يلعبون بالأحجار ويفتّشون في علب القمامة».
ترجمة أسامة إسبر، خطوط وظلال.
شاعر وكاتب عراقي