هابيل وقابيل التقيا بعد مقتل هابيل، كانا يسیران في الصّحراء، ومن بعيد عرف كلٌّ منهما الآخر لأنهما كانا ذويا قامةٍ طويلة جدّاً. جلس الأخوَان على أديم الثرىَ، أوقدَا ناراً وأكلاَ . كانَا صامتيْن
على طريقة هؤلاء الذين أضناهم التّعبُ في آخر النهار، في السّماء كانت تطلّ نجمة مّا لم تكن قد اكتسبت اسماً بعد، وعلى ضوء اللهيب لاحظ قابيل في جبهة هابیل آثارَ ضربةِ الحجارة، فترك كسرة الخبز التي كانت في طريقها إلى فمه تسقط، طلب من أخيه أن يَصفحَ عنه وأن يَغفرَ له جريمته، فأجاب هابيل:
– لقد قتلتني، وقتلتك، إنّنى لا أتذكّر الآن جيّداً ماذا حدث، وها نحن معاً كما كنّا من قبل.
فاجابه قابيل:
– الآن فقط أيقنتُ أنكَ قد غفرتَ لي أنتَ الآخر، لأنّ النسيان
يعني الغفران، فأنا بدوري سوف أحاول أن أنسى، فقال هابيل في هدوء:
– أجل فكلما طال الشّعور بتأنيب الضمير زاد الندم.
٭٭٭
خورخي لويس بورخيس الكاتب والقاصّ الأرجنتيني الذائع الصّيت، من مواليد بوينس أيرس عام 1889، توفي فى جنيف في سويسرا عام 1985، من أعماله الشّهيرة: «الألف» و»كتاب الرّمل»، وسواهما من الأعمال الإبداعية الأخرى فى مختلف الأصناف والأغراض الأدبية، التي نالت شهرة عالمية.
تحياتي لسعادة السفير الدكتور الفاضل الخطابيّ : على هامش الحكاية المترجمة للكبير بورخيس…أودّ الإشارة إلى أنّ القربان الذي قدّمه هابيل وقبله الله منه ولم يقبل قربان قابيل : هي الصلاة لله ربّ العالمين ؛ وليس القربان حزمة الزرع التي قدّمها الفلاح هابيل مقابل الغنم التي قدّمها الراعي قابيل فأكلتها النّارهكذا ؛ كما في المرويّات الأسطوريّة…هابيل كان مؤمنًا صادقًا فأدّى صلاة المتقين بخشوع ؛ وفي الحديث النبويّ : قال سيدي رسول الله : { الصلاة قربان كلّ تقيّ }(عن ابن الأثير).أما قابيل فكان لا يؤدي صلاته لله إلا نفاقًا ؟ لذلك حسد قابيل هابيلًا ؛ فسعى إلى قتله غيلة…فكان هابيل أوّل شهيد في سبيل الله في الأرض.لهذا جاءت قصّة ابني آدم في سورة المائدة ؛ وهي :{ مائدة من السّماء } كناية للشهادة في سبيل الله وليس مائدة طعام كما هو شائع خطأ…ألم يقل الله عن رزق الشهادة في سبيله : { ولا تحسبنّ الذين يقتلون في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند بّهم يرزقون }.وفي الدعاء : اللهمّ أرزقني الشهادة ؛ فهي رزق ومائدة من السّماء نالها الحواريون الكرام بفضل دعاء سيدنا عيسى المسيح عليه السّلام ؛ وليست هي العشاء الأخير على مادة طعام.
الأديب الأريب ،والباحث المثابر اللبيب الدكتور جمال البدري..من نصاعة صحائفك إقتدّ إسمك ،ومن فائض نبلك إزدان لطفك،للّه درّك يا إبن الأشاوس والحِجى،و يا سليل الأدب الرّفيع، ونجم الدّجى البديع ،كلمات إطرائك نوارس نيرودية طائرة ،وحروف بيّاتية زاهرة، ومعاني بورخية ناضرة ، (أديب ) أنت بالمعنى العريق لهذه الكلمة التي حاق بها البلىَ ولحق بها الدرَن والإزورار فى أيامنا هذه الرديئة ، عندما كان الشاعر الصادح المنكود الطالع، المأسوف على شبابه ،طرفة بن العبد يتغنّى بمعناها القديم الجميل فيقول: نَحْنُ في المشتاةِ نَدعُو الجَفَلَى … لا تَرَى الآدِبَ فينا ينتقِرْ، لا فضّ الله فاك،فذاك الدرّ من معدنه، وكلّ إناء يرشق أو ينضح بما فيه ، فأنت في تعليقك هذا البليغ تدعو إلى مأدبتك الأدبية الرائعة جميع القرّاء المنضوين تحت الظلال الوارفة ل ” القدس العربيّ” الغرّاء ، والحقّ أنّ ما تكتبه في هذا الباب بين الفينة والأخرى من كلمات مأثورة، وأقوال سائرة، وحِكمٍ نادرة ،وقصصٍ موفية،..كلّها تشكّل مائدةً أدبية شهيّة للعلم والعرفان ، زكّى اللهُ دواةَ حبرك المُزْن .
كما كتبت تعقيبا على مقال إلياس خوري “التراجيديا بين الصمت والعواء /القدس العربي 5 أكتوبر 2020/.. هذه النقطة الحساسة حول قابيل وهابيل تم إضفاء بعد رمزي آخر في إطار ما يُسمى بـ«حيونة الإنسان» في زمن الاستبداد والفساد والعهر في وطننا العربي كُلا.. لكن نقطة تحول الإنسان إلى حيوان معين /كالكلب، مثلا/ بسبب من صمته المفروض عليه بالقسر إنما غايتها هي هذا الخلط بعينه، بحيث يصير الحيوان المُتَحَوَّل إليه، أي «الكلب» هذا الحيوان الصديق الوفي للإنسان، يعوي بدلا من أن ينبح.. وفي هذا السياق، ثمة تعبير ثاقب عن هذا التحول القسري والخلط الصوتي الناجم عن العجز عن النطق في قصيد شعري للأخ غياث المرزوق كتبه قبل أكثر من ثماني سنوات:
/… تَرَكْتَ،
تَرَكْتَ بِلادًا تُرَاوِدُ قَابِيلَ
عَنْ نَفْسِهِ
/… مرَّةً،
مرَّتينِ، وَأَلْفَاْ
وَهَابِيلُ يَعْوِي مَدَى اللَّيْلِ
زُلْفًا، وَزُلْفَاْ
وَيُطْلِقُ أَشْلاءَهُ كَالخَذُوفِ
/… ٱلْأَثِيرَةِ
نَحْوَ رَعِيلِ ذِئَابٍ مُبَرْقَعَةٍ
مِنْ أَمَامٍ
وَسِرْبِ خَنَازِيرَ بَرِّيَّةٍ
مِنْ وَرَاءْ
/ عن الرسالة الشعرية «مَشَاهِدُ مِنَ ٱلْجَحِيمِ ٱلْدِّمَشْقِيِّ: «مَشْهَدُ ٱلْحَيَاةِ» (2)، غياث المرزوق
ملاحظة أخيرة حول تعليق السيد جمال البدري: البعد الرمزي للمائدة ليس كما تقول بالكناية عن الشهادة لله تحديدا بالنسبة لجل الأدباء والمفكرين “الدينيين الرمزيين”، ولكن بالكناية عن لك “المائدة المعرفية” التي يجتمع حول نورها ونورانيتها الناسُ من كل الأديان التوحيدية الثلاثة، ويتحاورون من ثمَّ بلغة إلهية-إنسانية واحدة.. !!
** عن لك “المائدة المعرفية”
** عن تلك “المائدة المعرفية”