إن كان لأحدنا أن يختار فيلماً يتفحص من خلاله معنى أن تكون السينما تأملية، فقد يكون فيلم «قصة طوكيو» للياباني ياسوجيرو أوزو، المثال الأفضل، لا لمساحة التأملية المسيطرة في فيلمه هذا وحسب، وهي ممتدة من أفلام سابقة، إلى لاحقة، فهي أسلوب جمالي «أوزوي» بشكل ما، بل، كذلك، للمكانة الكلاسيكية الاستثنائية لهذا الفيلم في تاريخ السينما في العالم.
هو من الأفلام المتأخرة في مسيرة أوزو الفيلمية، ومن أواخر أفلامه المصورة بالأبيض والأسود، قبل أن يدخل عالم الألوان. ولطبيعته، كان لا بد أن يكون كذلك، بلونين يتداخلان في بساطة اللقطات، دون تشويشات الألوان – مهما انسجمت- التي شاهدناها في أفلام لاحقة لأوزو، وفيها يصور عوالمه ذاتها، العائلة اليابانية البسيطة، وفيها كذلك يتكشف أحدنا على تفاصيل بصرية أتاحتها الألوان، وقد سرقت الحالة التأملية المسيطرة في أفلامه السابقة، وفي هذا تحديداً، حيث تتواطأ بساطة و»مينيمالية» الحكاية والحوارات والمشاهد والأداءات، مع الأبيض والأسود الباهتين، لتعطي تأملية صارت ميزة لدى أوزو في عموم أفلامه، تأملية لم تنجُ منها، في كل الأحوال وبنسبٍ ما، أفلامه الملونة.
القصة بسيطة، والدان مسنان، يذهبان من قرية يابانية نائية، لأول مرة، إلى العاصمة طوكيو، ما بعد الحرب العالمية الثانية، لزيارة أبنائهما. هو انكشاف للريف الياباني ببساطته، على المدينة اليابانية بتعقيداتها. يشعران بالخيبة والعزلة عن هذا العالم الجديد والحياة المدينية الحديثة لأبنائهما، لجيل ما بعد الحرب وإعادة الأعمار بما تشمل من هدم للعتيق وبناء للحديث على نمط أمريكي وغربي، يكون للعبة البيسبول فيه حضور مقحَم. يمضي الوالدان الأيام القليلة في طوكيو، على طول الفيلم إلى أن يعودا مقتطعين إجازتهما، إلى قريتهما.
وإن كانت هنالك قصة، مهما بسطت كقصة فيلم، ومهما تعقدت كقصة مدينة، إلا أننا نشاهد حالةً، نشاهد دواخل العجوزين من خلال أحاديثهما القليلة وملامح وجهيهما الباسمين دائماً، نشاهدهما وهما يدبران توافه الحياة اليومية في بلد كامل غريب عنهما، جسدته المدينة الحديثة وأسلوب عيشها. لا يعبران عن مشاعرهما، لا نشاهدهما متذمرين حتى في حديثهما عن انشغال الأبناء والرغبة في العودة. وهذا أسلوب «أوزوي» في امتلاء أفلامه بالمشاعر، إنما لا نشاهدها في شخصياته، رغم السياقات التي تحفزها، ومن كل الجوانب، على الإتيان بمشاعر ظاهرية معبرة. نشاهد مشاعر الشخصيات من خلال الصوت الخافت وتفصيلاته الضئيلة، وأساساً من خلال الصورة المكثفة في تفاصيلها المتزاحمة، فإطار المَشاهد لدى أوزو ممتلئ حتى زواياه، لعله لذلك يعتمد، في فيلمه هذا تحديداً، على الصورة الثابتة، بالكاد تتحرك الكاميرا، بل هي مثبتة مكانها، وواطئة لتكون أكثر بيتية وحميمية وبالتالي اطمئناناً وهدوءاً وألفةً، تكون قريبة أو بعيدة، تصنع إطاراً تجري ضمنه الأحاديث (ولا أقول الأحداث) والمشاعر.
أوزو بمشاهده هذه يمنح اللونين (الأبيض والأسود) داخل الإطار، انسجاماً إطارياً من خلال تثبيت الأخير لاحتواء كثافة التفاصيل «المينيمالية» المرئية والمسموعة، داخل عموم اللقطة والمشهد الممتد، احتمالاً، لدقائق طويلة، بذلك، لا تفوتنا مشاعر الشخصيات، مهما بلغت من مدى، من ناحية، ومهما تكتمت هذه الشخصيات عن الإفصاح عنها، من ناحية أخرى. تصلنا المشاعر، أخيراً في مُشاهدة الصورة التأملية في ثباتها، في سياق القصة وبساطتها.
الفيلم (Tokyo Story 1953) الذي تبثه حالياً منصة «موبي» تأخر في الوصول إلى الغرب عموماً، لكونه شديد اليابانية. وصل فرنسا مثلاً، عام 1978. في زمن متأخر ما يقرب عشرين عاماً عن «الموجة الجديدة» والحركة النقدية المتقدمة فرنسياً المرافقة للموجة، في مجلة «دفاتر السينما». بعدها بأعوام قليلة، في 1985، يصدر كتاب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، في جزئه الثاني «سينما: الصورة – الزمن» وفيه إشارات ثابتة لأوزو وفيلمه هذا تحديداً، منها ما يلخص، فلسفياً، الأسطر أعلاه، أن في الفيلم «تختفي الصورة/الفعل لمصلحة الصورة البصرية البحتة الخاصة بشخصية من الفيلم، ولمصلحة الصورة الصوتية لما تقوله. وتمثل الطبيعة والمحادثة العاديتان ما هو جوهري في السيناريو».
في عبارات دولوز تلخيصٌ بينٌ لأسلوب أوزو، لما يتكشفه أحدنا من المشاهدات الأولى لعموم أفلامه، وليس غريباً أن يكون أوزو، المتقشف صوتاً وصورة وحركة، قد دخل إلى الفيلم الناطق متأخراً (1936) لما يمكن للكلام، كما هو حال الألوان، أن يشوش على تأملية وسلام الصوت والصورة داخل لقطاته الثابتة.
كاتب فلسطيني سوري