إسطنبول: عندما بدأت مليشيات الجنرال الانقلابي خليفة حفتر، هجومها في 4 أبريل/ نيسان 2019، كانت “قصر بن غشير”، الضاحية الجنوبية للعاصمة الليبية، البوابة التي دخلت منها وانتشرت في بقية الأحياء الجنوبية لطرابلس كالنار في الهشيم.
لكن، ولأول مرة بعد نحو 14 شهرا من القتال، وصل الجيش الليبي التابع للحكومة الشرعية، إلى أسوار قصر بن غشير (26 كلم جنوبي طرابلس)، مركز الارتكاز الرئيسي لمليشيات حفتر في جنوبي طرابلس، ليس فقط من حيث القوة العسكرية المتمركزة بها، أو لكونها قاعدة خلفية متقدمة للإمداد، بل لأنها تمثل الحاضنة الشعبية الرئيسية لحفتر في العاصمة.
فأغلب سكان قصر بن غشير، يتحدرون من مدينة ترهونة (90 كلم جنوب شرق طرابلس)، المتحالفة مع حفتر، عبر اللواء التاسع ترهونة (الكانيات)، والتي تضم نسبة من أنصار نظام معمر القذافي السابق، الداعمين لحفتر، رغبة منهم للانتقام من ثوار 17 فبراير.
** معارك كر وفر على مشارف “القصر”
ومن الناحية العسكرية، فإحكام الجيش الليبي قبضته على قصر بن غشير، تعني إنهاء سيطرة حفتر على أقصى نقطة جنوبي طرابلس، وقطع طريق الإمداد الأقرب إلى جبهات القتال، خاصة المطار القديم (خرج عن الخدمة في 2014)، وعين زارة ووادي الربيع.
وحاليا تمكن الجيش الليبي من طرد مليشيات حفتر من جبهة عين زارة، ومن محور الزطارنة، ومن أغلب التمركزات في وادي الربيع.
أما في جبهة المطار القديم، التي تضم عدة محاور، فسيطر الجيش الليبي على محوري حي المطار (الكايخ) والكازيرما (شمال المطار) ومحور الرملة (غرب المطار) ومحور كوبري المطار، وأجزاء من محور الطويشة (جنوب غرب المطار).
لكن بدون السيطرة على قصر بن غشير والمطار القديم (التابع لها إداريا) فإن هذه المحاور الأخيرة تصبح مهددة، بالنظر إلى معارك الكر والفر، فما يأخذه الأول في النهار يستعيده الثاني في هجوم معاكس بالمساء، وهذا ما يفسر إعلان كل طرف سيطرته على منطقة واحدة في أوقات مختلفة من اليوم، أو أن يعلن طرف ما سيطرته على نفس المنطقة أكثر من مرة خلال أسبوع مثلا.
** معركة منتهية
فمنذ إعلانها نهاية شهر رمضان المنصرم، إعادة تموضعها من 2 إلى 3 كلم خلف خطوط المواجهة، وانسحاب مرتزقة شركة فاغنر الروسية إلى جنوبي البلاد في 24 مايو/ أيار المنصرم، تراجعت مليشيات حفتراليوم نحو 12 كلم تحت ضربات الجيش الليبي.
و12 كلم مسافة طويلة بالنسبة لأبعاد مدينة، خاصة إذا أخذنا معيار الزمن والتكلفة المادية والبشرية بعين الاعتبار.
فمليشيات حفتر استغرقت أكثر من عام للوصول إلى مشارف حي أبوسليم الشعبي، جنوبي طرابلس، وكلفها ذلك أكثر من 7 آلاف قتيل، بحسب تصريح للناطق باسمها أحمد المسماري، قبل أشهر، ناهيك عن خسائر مادية لا تكاد تحصى، لكنها خسرت كل ذلك خلال أسبوع واحد فقط.
كما خسرت مليشيات حفتر في هذه الفترة عدة محاور قتال رئيسية بشكل كلي أو جزئي على غرار: صلاح الدين، مشروع الهضبة، اليرموك، الخلة، الخلاطات، الرملة، الكازيرما، الأحياء البرية، الكايخ، الزطارنة، عين زارة.
مما يعكس حالة انهيار ليست شاملة، ولكنها متدرجة، حيث تتاسقط محاور القتال مثل أحجار الدومينو، الواحدة تلو الأخرى.
وأهم إنجاز حققه الجيش الليبي، مؤخرا، “وقف” قصف مطار معيتيقة بصواريخ غراد وقذائف المدفعية الثقيلة، بعد أن سيطر على مواقع كانت تطلق منها، جنوبي طرابلس.
واليوم ينقلب المشهد، حيث أصبحت المواقع المحصنة لمليشيات حفتر في قصر بن غشير والمطار القديم الملاصق لها، تُستهدف بقصف مدفعي، منذ مساء السبت، للتمهيد لعملية اقتحامهما.
فقصر بن غشير، أصبحت شبه محاصرة بعد سيطرة القوات الحكومية على أجزاء واسعة خاصة من الجبهتين الشمالية والغربية، وبدرجة أقل من الجبهة الشرقية، ويبقى المنفذ الرئيسي لفرار السكان والمسلحين، الطريق الجنوبي نحو ترهونة.
ويبدو أن القوات الحكومية لا ترغب في إغلاق المنفذ الجنوبي، عبر التقدم إلى ما وراء محور الطويشة، جنوب المطار القديم، وستلجأ لأسلوبها المعتاد؛ عملية التطويق التي تشبه “الهلال”، بحيث تسمح للذئاب بالفرار بدل القتال بشراسة.
وإذا سقطت قصر بن غشير، ومعها المطار القديم، خلال أيام وربما ساعات، فحينها يمكن القول أن طرابلس تحررت بالكامل، وإن بقيت بعض الجيوب بوادي الربيع، غير محررة، ولكنها قد تنهار بسرعة بعد قطع الإمدادات عنها.
** بعد تحرير طرابلس.. الهدف بلدات النواحي الأربعة
وتحرير طرابلس لا يعني أن معركة العاصمة انتهت، بل هناك بلدات النواحي الأربعة، وأهمها “سوق الأحد”، القاعدة الخلفية البديلة لمحوري الزطارنة ووادي الربيع، والتي عادة ما تقوم مليشيات حفتر بقصف أحياء وسط طرابلس منها، إذ أن مدى صواريخ غراد يتراوح ما بين 20 و40 كلم، وهي مسافة كافية لإصابة أي نقطة في طرابلس من سوق الأحد.
وبلدة “سوق السبت” (30 كلم جنوب طرابلس)، التي لا تبعد عن قصر بن غشير سوى بأقل من 5 كيلومترات، والتي تمثل خط الدفاع الأول لمليشيات حفتر، بعد سقوط العاصمة، من الجهة الجنوبية، أما من الجهة الجنوبية الشرقية فسوق الأحد، تمثل نقطة متقدمة للدفاع عن ترهونة.
أما بلدتي السبيعة وسوق الخميس امسيحل (45 كلم جنوب طرابلس)، فسبق لقوات المنطقة الغربية التابعة للجيش الليبي والمتمركزة بمدينة العزيزية (45 كلم جنوب طرابلس) أن سيطرت عليهما عدة مرات قبل أن تسترجعهما مليشيات حفتر، بالنظر إلى أهميتهما الاستراتيجية على طريق الإمدادت الجنوبي القادم من ترهونة، وكقواعد خلفية.
وبخصوص معركة ترهونة، فبعد عمليات سابقة لتحريرها يمكن القول إنه سيتم تشديد الحصار عليها، ومنع الإمدادات عنها، مع استهداف مليشياتها جوا وبالصواريخ والمدفعية الثقيلة، وإدخالها في معركة استنزاف لدفعها للاستسلام أو انتفاضة سكانها ضد عائلة الكاني التي تقود التمرد ضد الحكومة الشرعية.
حيث من المتوقع أن تقوم القوات الحكومية بقطع خطوط الإمداد عليها في منطقة مزدة (180 كلم جنوب طرابلس)، أو استهداف قاعدة الجفرة الجوية، التي تمثل مركز إمداد رئيسي لمليشيات حفتر في المنطقتين الغربية والجنوبية.
لكن مجرد تحرير العاصمة الليبية يعني أن مشروع حفتر لحكم البلاد انتهى، وأن مرحلة بناء دولة مدنية (لا عسكرية) قد بدأ فعليا، من خلال إعادة إعمار العاصمة وتثبيت مؤسساتها الدستورية.
(الأناضول)