قصص خيالية عن تشرتشل والجمالي وآخرين

لم يكن ونستون تشرتشل رئيس الوزراء البريطاني، في اجتماع وزاري عالي المستوى في صباح شتاء عام 1944 غاضبا حسب، بل كان هائجا، حيث تم إبلاغه بعثور عاملة نظافة في وزارة الدفاع، على وثائق خطة بريطانيا لاختراق الدفاعات الألمانية ـ الإيطالية في إيطاليا من قبل القوات البريطانية في إيطاليا. ولكنّ هذه العاملة لم تعثر على الوثائق في مكتب في الوزارة، بل على قارعة الطريق أثناء سيرها في أحد شوارع منطقة وزارة الدفاع في ساعة متأخرة من الليل. وميزت العاملة هذه الأوراق فور مشاهدتها لها، حيث كانت قد شاهدت أوراقا مطوية بالطريقة نفسها في الوزارة لعملها هناك. ولذلك حملت الوثائق وأخذتها إلى منزلها. وبعد ذلك دخل المنزل ابنها عائدا من إحدى الحانات، ولاحظ الوثائق المهمة. وبعد التفاهم مع والدته قرر الذهاب فورا إلى وزارة الدفاع بدراجته الهوائية لتسليم الوثائق. ولكنه عندما وصل الوزارة أمره الحارس بتسليم الوثائق له والذهاب، إلا أن الابن أبى أن يفعل ذلك وأصر على تسليمها شخصيا إلى أي أدميرال. وفي نهاية المطاف تم له ما أراد. وبذلك تم إنقاذ بريطانيا في الحرب العالمية الثانية من عاملة النظافة هذه وابنها.
نعود إلى تشرتشل واجتماعه، حيث كان يخشى احتمال تسرب محتويات الوثائق إلى الأعداء، ولكنّ مساعديه أكدوا له استحالة ذلك. وهنا قرر منح المرأة لقب «سيدة قائدة للإمبراطورية البريطانية» Dame Commander of the British Empire.
إذا وجد القارئ هذه القصة مثيرة جدا للاهتمام، فإن مصدرها ربما كان أكثر إثارة، فهو رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، حيث ذكرها في كتاب له عن ونستون تشرتشل صدر عام 2014. ولكن هنالك مشكلة صغيرة، ألا وهي كون القصة بأكملها مختلقة، فبالإضافة إلى نقاط الضعف الواضحة في منطقها، قام الكاتب المعروف أوتو إنغلش Otto English في كتابه الشهير «تاريخ مزيف» Fake History حيث دحض جميع تفاصيلها، ومنها عدم استلام عاملة نظافة أي لقب، أو وسام في تلك الفترة. ومع ذلك، فإن هذه القصة المختلقة سوف تعتبر تاريخا حقيقيا من قبل الكثيرين، إذ أنها ذكرت في كتاب كتبه بوريس جونسون، أحد أشهر سياسيي بريطانيا في الوقت الحاضر. أما الحقيقة، فستكون ضحية عديمة الأهمية. وطالما أننا نتناول شخصية ونستون تشرتشل، فكتاب «تاريخ مزيف» يذكر قصة خيالية أخرى مفادها أن تشرتشل كان ثملا ذات مرة، فقالت له نائبة برلمانية من حزب العمال «إنك ثمل»، فأجابها «وأنت قبيحة، ولكني سأكون صاحيا صباح غد».
من ألمانيا والولايات المتحدة ظهرت قصة أخرى، حيث نشرت في كتاب أمريكي نشر في بداية ثلاثينيات القرن الماضي، قصة مفادها أن مجلس النواب الأمريكي اجتمع لتحديد اللغة الرسمية للبلاد عام 1795. وكان الصراع محتدما بين أنصار اللغتين الإنكليزية والألمانية، حتى إن عدد الأصوات لصالح كل من اللغتين كان متساويا. وفي نهاية المطاف قام رئيس المجلس ذو الأصول الألمانية بضم صوته لصالح اللغة الإنكليزية، التي أصبحت بذلك اللغة الرسمية للولايات المتحدة الأمريكية. وقد ظهرت هذه القصة لأول مرة في كتاب نشر في ألمانيا عام 1847، وتلتها مصادر أخرى مع تغيير في بعض التفاصيل مثل سنة التصويت. ولكن القصة بأكملها غير صحيحة، حيث لم يجتمع مجلس النواب أبدا لإصدار قانون من هذا النوع، وسجلات المجلس متاحة للمهتمين في هذا الأمر، ولا يوجد قرار من مجلس النواب حول هذا الموضوع أصلا. والشيء الحقيقي الوحيد في هذه القصة، أن رئيس مجلس النواب في تلك الفترة كان فعلا من أصول ألمانية. وتذكر بعض نسخ هذه القصة الخيالية أن رئيس المجلس صوّت لصالح اللغة الإنكليزية لظنه أن ذلك سيسرع من جعل المهاجرين الألمان أمريكيين.

إذا وجد القارئ هذه القصة مثيرة جدا للاهتمام، فإن مصدرها ربما كان أكثر إثارة، فهو رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، حيث ذكرها في كتاب له عن ونستون تشرتشل صدر عام 2014.

ومع ذلك فإن هذه القصة الكاذبة ظهرت مرة أخرى في كتاب نشر عام 1982 وما يزال يتناقلها الناس حتى الآن، لاسيما أنها كتبت في كتاب حيث يعتبر الكثيرون هذا دليلا على صحتها. قد يكون عدد هذه القصص المختلقة في العالم العربي أقل مما هو في العالم الغربي. ومع ذلك هناك قصة مثيرة عن السياسي العراقي المعروف محمد فاضل الجمالي في الأمم المتحدة الأمريكية نالت شعبية هائلة في وسائل التواصل الاجتماعي، لاسيما الفيسبوك في السنوات الأخيرة، وهي تظهر مجددا وبشكل متواصل مع اختلافات بسيطة في بعض التفاصيل. ومفاد هذه القصة أن الجمالي سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1954 عندما كان وزيرا للخارجية لحضور أحد اجتماعات الأمم المتحدة في مدينة نيويورك. وعندما وصل إلى مدخل المبنى لاحظ جدالا بين حرس المبنى وبعض الأشخاص الذين كانوا يريدون الدخول. واكتشف الجمالي أن هؤلاء الرجال كانوا تونسيين وأن أحدهم كان الحبيب بورقيبة. وخطرت فكرة غير عادية للجمالي في تلك اللحظة للبت في ذلك الجدال، إذ قام بإخراج جوازات عراقية من جيبه وكتب على كل منها اسم أحد هؤلاء التونسيين ووضع صورهم وختمها وأخبرهم أنهم قد أصبحوا مواطنين عراقيين، وأدخلهم المبنى حيث أجلس الحبيب بورقيبة إلى جانبه في الاجتماع. وعندما حان دور الجمالي لإلقاء كلمته أعلن أنه يعطي المايكرفون إلى الحبيب بورقيبة، الذي ألقى بدوره كلمة مهاجما فرنسا بقسوة لاحتلالها تونس وأثار موجة هائلة من الاستنكار من قبل الوفد الفرنسي. وبذلك أصبح الجمالي بطلا قوميا وانتهت أحداث القصة.

ولا يمكن نكران غرابة هذه القصة وانتشارها غير العادي، وكثرة من يقسم بصحتها، على الرغم من وجود عدة نسخ لها حيث تذكر إحداها أن الجمالي لم يمنح التونسيين جوازات سفر عراقية، بل شارات الوفد العراقي. ولكن القصة غير حقيقية على الإطلاق، فمن الواضح أن من اختلق هذه القصة لا يعرف الكثير عن تاريخ العراق، أو كيفية دخول مبنى الأمم المتحدة. ولم يكن الجمالي وزيرا للخارجية في العراق عام 1954، بل رئيسا للوزراء واستقال في نيسان/ أبريل من العام نفسه، ولم يمثل العراق في الأمم المتحدة بعد ذلك. ولم يلتق بالحبيب بورقيبة أمام مبنى الأمم المتحدة، ولم يجلس الرجلان معا في أي اجتماع هناك، وبالتأكيد لم يلق بورقيبة ذلك الخطاب المزعوم، وبالإضافة إلى ذلك لو حدثت تلك القصة فعلا لأثارت ضجة دولية تضع العراق في موقف حرج، ما قد يسبب إطاحة الجمالي. ولكن سجلات اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي متاحة للدارسين، لم تذكر هذه الحادثة، كما لم تذكرها أي صحيفة آنذاك، ولم يسمع بها أحد حيث ظهرت هذه القصة في السنوات الأخيرة في الإنترنت. ولا نعرف لماذا كان الجمالي يتجول في شوارع نيويورك حاملا جوازات سفر عراقية فارغة مع الأختام، وكل ما يستلزم إصدار تلك الجوازات لمن يثير إعجاب الجمالي ذي الصلاحيات الأسطورية والشاملة، فلم يملك صلاحية منح الجنسية أو جواز السفر العراقي لأحد. ومن المعروف أن الجمالي كان رجلا حذرا ورزينا، حيث لم يعرف عنه أي تصرف قد يدخل العراق في أزمة دولية. وتمتاز هذه القصة بالذات بجانب غريب، ألا وهو تطرف ناقليها، إذ يستشيطون غضبا عندما يشكك أحدهم بصحتها. والجدير بالذكر أن القصص الخيالية عن رئيس الوزراء العراقي الشهير نوري السعيد أكثر عددا وغرابة.

من يكتب هذه القصص الخيالية؟ من النادر جدا تتم معرفة مؤلفي هذه الخيالات أو أهدافهم، مع بعض الاستثناءات النادرة جدا، وكذلك بالنسبة لمن ينقلها. ومن المعتقد أن هناك عدة أسباب، فهناك من يريد أن يختلق قصة يفتخر بها، ولزيادة تأثيرها يضع فيها شخصية شهيرة.

أما القصة الأخيرة، فمن العراق مرة أخرى، ولكنها من طراز مختلف، حيث يدعي مختلقها أن الصين طلبت عام 1978 من جامعة أوكسفورد البريطانية الشهيرة أن ترسل لها أفضل عالم في الاقتصاد لديها لتزويدها بالمشورة اللازمة، وإنقاذ اقتصادها المتهالك. ولم تجد تلك الجامعة أفضل من عراقي يدعى إلياس كوركيس الذي بقي هناك ثلاث سنوات، وأعطى الحكومة الصينية توصياته، وبعد مرور خمس سنوات تحولت الصين إلى قوة اقتصادية عظمى. وترك إلياس سركيس عمله في الصين بعد ذلك، حسب ادعاء القصة، على الرغم من أن مرتبه السنوي بلغ خمسة ملايين دولار، وكرّس حياته لخدمة العراق، حيث أعطى مئات الآلاف من الدولارات للعوائل العراقية وأجر آلاف المنازل لها بعد أن دفع إيجارها لعام كامل مقدما وأشياء أخرى. ويتساءل مؤلف هذه القصة المجهول لماذا لا يعتمد العراق على خبرات هذا الرجل العظيم. وفي الواقع أتمنى ألا تحاول الحكومة العراقية البحث عنه لأنه شخصية خيالية تماما، أي لا وجود لهذا الشخص، إذ من السهولة العثور على جميع من درس في جامعة أوكسفورد في المواقع الرسمية للجامعة والأبحاث. ولم يذكر موقع بريطاني أو صيني أي شيء عن ذلك الشخص العبقري الذي أنقذ الصين من الفقر.

وكانت جميع النسخ التي اختلفت في بعض تفاصيلها قد نشرت صورة مدعية أنها للمدعو إلياس سركيس. والسؤال الآخر هنا عن صاحب هذه الصورة؟ فإذا كانت الشخصية خيالية، فهل الصورة خيالية أيضا؟ قام الكاتب صادق الطائي بحل هذا اللغز عندما أخبرني بأنها لصحافي عراقي كتب هذه القصة، بعد اقتباسها من الفيسبوك، في إحدى الصحف العراقية المعروفة كأنها قصة حقيقية، وإن شخصا ما ألحقها بالقصة مدعيا أنها للشخصية الخيالية. وأخبرني كاتب آخر، أن القصة نشرت كذلك في صحيفة عربية معروفة تصدر في مدينة لندن. ويعني هذا أن بعض الصحافيين أخذوا هذه القصة مأخذ الجد وحولوها إلى تاريخ دون محاولة التأكد من صحتها.
من يكتب هذه القصص الخيالية؟ من النادر جدا تتم معرفة مؤلفي هذه الخيالات أو أهدافهم، مع بعض الاستثناءات النادرة جدا، وكذلك بالنسبة لمن ينقلها. ومن المعتقد أن هناك عدة أسباب، فهناك من يريد أن يختلق قصة يفتخر بها، ولزيادة تأثيرها يضع فيها شخصية شهيرة. وقصة مثل هذه تكون حديثا ممتعا في أي اجتماع للأصدقاء وجديرة بإثارة دهشة المستمعين. ومن الأسباب كذلك، الرغبة في الدعاية لمبدأ سياسي أو شخصية سياسية، أو اختلاق أسباب خيالية لبعض الأحداث الغامضة في التاريخ، ولكن هذه القصص الخيالية التي تنشر بحجة أنها حقيقية تشترك في ضعف منطقها الشديد وشبهها بقصص بطولية من الأساطير القديمة التي يظنها البعض تاريخا حقيقيا. ومن المضحك أنه كلما زادت شهرة الشخصية زادت القصص الخرافية عنها. وأحيانا تتغير الشخصية، فحكاية خيالية شهيرة عن تشرتشل ألصقت بالرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما. ومن المؤكد أن هذه القصص ستستمر في الزيادة والتنوع، ويجعلنا كل هذا نتساءل، فإذا كان الاختلاق والتزوير بهذه البساطة في عهد نعيشه ونستطيع التأكد من الحقائق فيه، فماذا عن صحة الكثير من المقولات والبطولات والعلاقات التي أصبحت جزءا من التاريخ القديم؟

باحث ومؤرخ من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول اثير الشيخلي - العراق:

    يتسائل الاستاذ كاتب المقال ،
    من يكتب هذه القصص الخيالية؟
    هكذا قصص برأيي أقرب إلى النكتة او الطرفة ، و السؤال هل عرفت عزيزي القارئ في حياتك يومآ من ألف هذه النكتة او تلك او من كتبها او رواها اول مرة ؟!
    في الحقيقة لا أحد يعرف ، و رغم انني ربما احفظ مئات النكات و كذلك انتم ، لكنني لا أعرف اسم واحد لمن الف اي نكتة منهن ، و كذلك انتم بتصوري
    هي طرف في جوهرها !
    من القصص المتداولة عن الرؤساء الاميركان و زوجاتهم و كل مرة يتغير فيها اسم الرئيس و زوجته فقط
    لكن اول مرة قرأتها كانت عن الرئيس بيل كلينتون و زوجته هيلاري ..
    تقول القصة النكتة، أن الرئيس الأمريكي ببل كلينتون و زوجته بعد أن انتهت فترة الرئاسة خرج معها في رحلة استجمام بالسيارة ، و عندما دخل الرئيس ليعبئ سيارته بالبنزين من إحدى محطات الوقود ، جاء عامل المحطة و سلم بحرارة على هيلاري التي سلمت عليه بحرارة كذلك قدمته إلى زوجها الرئيس انه كان طالبا معها في الثانوية و كان صديقا لها
    بعد مغادرة المحطة ، قال كلينتون لزوجته هل كان هذا صديقك الحميم ؟!
    ربما لو تزوجك لاصبحتِ زوجة عامل المحطة
    فأجابته بسرعة ، كلا بالتأكيد، لو تزوجته لأصبح رئيس الولايات المتحدة الأمريكية !!
    ..
    و طبعا هناك نفس النسخة و لكن أبطالها أوباما و زوجته ميتشل هذه المرة

إشترك في قائمتنا البريدية