كرسي
تشبث بكرسي المدير العام، سنين طويلة، عقودًا، بل قرونًا. لم يترك الكرسي لحظة؛ خوفًا أن يستولي عليه منافس أو خصم أو متآمر. استكانت العناكب للدفء والهدوء، فنسجت خيوطها حوله بتمهل وتلذذ وحرفية، بدأت برجليه، ثم صعدت إلى وسطه، ثم كتفيه ويديه، وأكملت حتى أحكمت وثاقها على رأسه، فلم يعد يرى إلا بصعوبة، ثم أفرزت هرموناتها، فعطلت دماغه تمامًا.
أراد أن يقوم مُكرهًا مُرغمًا لقضاء حاجته البيولوجية الملحة، فلم يستطع أن يتحرك قيد أنملة، فقد أصبح والكرسي قطعة واحدة، والكرسي مثبت بالأرض منذ استلم منصبه. اضطر أن يتخفف من فضلاته في مكانه، ويترك نفسه على سجيتها.
كان عمل المؤسسة يُدار من قبل مساعديه، فهو لا يعرف عنه شيئًا، ولا يسأل عن شي، ما يعنيه هو الكرسي، وهذا اللقب الفخم «مدير عام». عندما اضطر أحد مساعديه للدخول عليه لأخذ رأيه في أمر مستعجل، لم يطق الرائحة الكريهة التي تزكم الأنوف، ولكنه ابتسم نفاقًا مثنيًا على الرائحة العطرة، وسأل مديره عن اسمها ومن أي متجر حصل عليها.
تنبه المساعد لحالة مديره، أصابه الذعر، خرج فزعًا ينادي آخرين. صعقهم المنظر والحالة المزرية لمديرهم العام. اتصلوا بالمسؤولين الكبار، فلم يتلقوا أي رد، اتصلوا بالدفاع المدني، الذي حضر فلم يستطع أن يتصرف، استعانوا بآليات ضخمة وجرافات، اقتلعت غرفة مكتبه كاملة بما فيها، وأطلقت صافرات الخطر وهي تسير مسرعة، وألقتها في مكب نفايات قصي.
كبرياء
اشتاقت الخيول إلى فرسانها، وحنَّت إلى حلبات السباق، وميادين الطراد. فخرجت تبحث عنهم، ممنية النفس بعودة الأيام الجميلة. طرقت الأبواب، استرقت النظر من فوق الأسوار، دخلت كل الساحات، فلم تقع لهم على أثر. وأخيرًا وجدتهم يملأون الحانات، سكارى بين أحضان الغانيات، أو مطروحين على الأرض بين أرجل الزبائن يركلونهم في ذهابهم وإيابهم.
نكَّست الخيول رؤوسها، ودارت دمعها، وكظمت أساها، وانسحبت تجرجر أرجلها. خرجت من المدينة حزينة تشعر باليتم والضياع، حتى وصلت إلى مرتفع يشرف على وادٍ سحيق، ألقى أولها بنفسه من شاهق، فتبعه مَنْ خلفه بدون تردد، فتساقطت جثثًا هامدة، بدون أن يصدر من أحدها أنَّة أو نأمة.
رأس للإهداء
يتعبه دماغه من كثرة التفكير والانشغال بالقضايا العامة، فحالة الوطن لا تسر، وطرق الخلاص مغلقة، والأفق مسدود، والفاسدون يتناسلون بمتوالية هندسية. تذكر نصيحة يرددها كل مدربي التنمية البشرية التي لا يؤمن بها «تخلص من متاعبك». حاصره سؤال: هل تتعبه الأحوال الصعبة أم يتعبه رأسه الذي يفكر فيها؟ فمعظم الناس يعيشون ويأكلون ويشربون ويمرحون ويتناسلون بدون أن يعيروا أي شيء اهتمامًا. لم يُطل التفكير، فالإجابة أوضح من الشمس في رابعة النهار. تخلص من رأسه بسكين مدخرة لذبح الخراف لم تُستخدم من قبل. حمل رأسه، وسار في الطرقات ليهديه لمن يحتاج إليه. رفض الجميع الهدية بتأفف، وسارعوا بالابتعاد إلى طرق أخرى، فلا أحد يريد رأسًا ثقيلًا يحتاج إلى شاحنة لحمله لا جسدًا واهنًا بالكاد يحمل رأسًا خاويا.
ألقى رأسه في أكبر حاوية نفايات، وعاد إلى بيته، خفيفًا فرحًا مرحًا. قيل ـ والعهدة على الراوي- أن القطط التي أكلت من رأسه ماتت متسممة. أما هو فقد تزوج وأنجب بنين وبنات، وعاش في سعادة بل سعادات، لا يسأل عما ذهب وعما هو آت.
٭ قاص اردني