إن أمكن الحديث عن التجريب في الأدب العربي، فلا بد من الإقرار بريادة قصيدة النثر في هذا المجال، فهي التجربة التي أحدثت ثورة حقيقية غيرت مجرى الأدب العربي بعد الرواية، وما بشّرت به من عوالم جمالية مختلفة وأساليب مغايرة في الكتابة الأدبية، نسفت النظام الأدبي القائم منذ قرون، ودشّنت عصرا جديدا مختلفا تمام الاختلاف عن الأدب القديم، شكلا ومضمونا ومكانة، ولا يتعلق الأمر هنا بـ»زينب»، مع الاحترام لمحمد حسين هيكل، أو ما سبق هذه الرواية من أعمال روائية أخرى، فالمسألة ليست مرتبطة بمبادرة شخصية، لكنها لحظة تاريخية فاصلة، تعبر عن بداية مشروع حضاري متكامل ومغاير، ضمن توجه انقلابي يقطع مع الموروث الأدبي القديم، يخترق مؤسساته التي ركزت سلطتها على مدى عصور من خلال أجهزتها الفنية، التي تعمل بدورها وفق قوانين دقيقة وناموس صارم قائم على فكرة تقليدية للأدب ودوره في الحياة اليومية، وهذا الاختراق ولدته التغيرات الاجتماعية، وضرورة مواكبتها، فلم تأت الرواية عملا فرديا أو مجهودا شخصيا، إنما هي فعل أدبي قد يختلف في تقييم فنيته النقاد، لكنه كسر نمطية أساليب الكتابة الأدبية المألوفة، وغير النظرة للأدب عموما، ما جعله يحظى بثقة القارئ، بما مكنه من التطور في أدائه، بل يتحول بدوره إلى مختبر تجريبي، كان بمثابة مصدر الإلهام للكثير من الفنون الأخرى: السينما، المسرح، الموسيقى ومختلف الفنون الأدبية الأخرى، وهو ما فتح الباب أيضا للبحث عن كنوز الشعر في النثر.
استطاعت قصيدة النثر بما اتصفت به من مقاومة لإعادة سلطة اللغة، بما فيها تلك اللغة المنسية المهمشة نخالة القول، نشارة شجر اللغة، بما تمتلكه من قدرة على العبور من الحقيقة إلى المجاز أو العكس.
آفاق الخيال النثري
فالرواية ليس بوصفها عملا أدبيا سرديا، ولكن باعتبارها تجريبا فنيا في الأدب، له دوره المؤسس في نشوء قصيدة النثر وتركيزها كمقترح جمالي ينضاف لمجمل الإبداعات التي تبحث جماليا في الأدب، وتنهض من فكرة أن الشعرية قاسم مشترك بين الفنون تتوفر في كل شيء، وليس أقرب من هذا الـ»كل شيء» أكثر من النثر بما يكسر النظرة النمطية للشعر والنثر، وبالتالي تأتي القصيدة بالنثر مكسرة للمتواليات، خارج التصنيف الأكاديمي للأجناس الأدبية. ولئن غامرت قصيدة النثر في هذا السياق فأعدت مدفنا تكريميا (pantheon) للقصيدة العمودية، بما يستدعي مراجعة فحولة القصيدة، ويشكك في ذكوريتها، وكشفت في الوقت نفسه عن أعراض إصابة قصيدة التفعيلة بالزهايمر، من خلال الكشف عن الإمكانيات الأخرى المتعددة لصنع الإيقاع من النثر، والمراهنة على زمن ضائع في الكلام اليومي بكل متناقضاته المتعددة، ونوتة مهملة تصنع موسيقى متفردة وتخليق منطقها الداخلي، باختبار قدرة الأرشيف الجمالي الرسمي على الصمود والمقاومة في مواجهة الجماليات المهملة في تلك المناطق النائية المجهولة، بما هي البنية التحتية لشعرية مفارقة قادرة على الإطاحة بـ»باستيل» الذوق التقليدي ليتحرر الذوق العام، ويعانق جمالياته المكبوتة، وهو ما يستدعي إعادة كتابة دستور النثر والشعر معا، بما يثبت الشرعية الأدبية لقصيدة النثر وأحقيتها الفنية، ولئن أكدت هذه الأخيرة كل هذا، فقد أثبتت في الوقت نفسه قدرتها على تجاوز الرواية ذات الحمولة الثقيلة في تنوعها الأسلوبي، وحاجاتها للهبوط الاضطراري من التخييل إلى مدارج الواقع، لتجد نفسها مجبرة على الإقلاع مرة أخرى والتحليق في أجواء مليئة بالمطبات، غالبا ما تنتهي إلى سقوط مفاجئ، لقد استطاعت قصيدة النثر بما اتصفت به من السيطرة التخييلية، وللخيال خزائن لا يعثر على مفاتيحها، إلا من وقع في كمائن لحرف، وهو ما يستدعي صياغة مخيال متفرد، من خلال استثمار المتخيل الاجتماعي والأسطوري، هو حبر الجسارات حين يشد الريح من خصرها، يطارد بها أحصنة الخيال عبر ممرات الفراغ المرصوفة، بحجارة نحتها الماء الطالع من حرائق الدواخل.
شعرية المُهْمَل والاحتفاء باللغة
استطاعت قصيدة النثر بما اتصفت به من مقاومة لإعادة سلطة اللغة، بما فيها تلك اللغة المنسية المهمشة نخالة القول، نشارة شجر اللغة، بما تمتلكه من قدرة على العبور من الحقيقة إلى المجاز أو العكس، فالشعر عصيان الكلمات للمعنى الذي تم إيقافها فيه وتمردها على سيرتها المكتوبة سلفا، تفر من سفك النحو لدمها، معتمدة حيل الإعراب، واستطاعت قصيدة النثر بالتحكم في التدفق الانفعالي بـ»اقتصاد الرؤيا» واللعب على حافة المعنى وقدرتها على توظيف وسائل الاتصال الحديثة وتطويعها للمقول الشعري، من أجل تركيز جماليات الصدمة، وبالتالي امتلاك القدرة على الإيجاز بالمجاز، بحيث يتشكل النص استعارة واحدة فتتضافر مجازات مختلفة وصور متنوعة لبنائها، وللقارئ دوره الفعال في تكميل المشهد وتحقيق «النشوة» التي تحدث عنها كثيرون وعلى رأسهم بارت.
تعمد الرواية إلى تنويع الأساليب، وتخليق كرنفالية الأصوات، واتخاذ أكثر من أسلوب، هي المهرجان الأدبي بامتياز، بما يجعلها مادة استهلاكية للقارئ، يستمتع بها ويستهلك طاقته ويتعود على الكسل القرائي، فكل شيء جاهز أمامه، بل مثير بما يجعله لا يوفر أي جهد، بينما تعمل القصيدة بالنثر أو الشعرية الحديثة إلى استدراج القارئ، من خلال إثارته وتحفيز دواخله واستفزازه بأسئلتها المتعددة شكلا ومضمونا وبتمردها على المؤسسة النحوية باللجوء إلى تراكيب قد تبدو متنافرة، أو يراها البعض غير سليمة، وهي بكل هذا تورط القارئ بما إنه شريك في عملية الخلق الإبداعي وهو ما يجعل منها مرقى جماليا فنيا أعمق جدية من الرواية.
كاتب تونسي
هذا الحماس النظري المنتصر لقصيدة النثر يكذبه المنجز الشعر المحسوب عليها. فما تزال القصيدة العمودية آسرة مؤثرة وما تزال قصيدة التفعيلة تفعل فعلها في الوعي الجمالي للقارئ لأنها تقوم على عنصر أساس في العمل الشعري وهو الايقاع، بينما ساهمت قصيدة النثر في نفور القراء وهروبهم للسرد. وهاهي قصيدة النثر تراوح مكانها في مضمار التدافع الشعري حتى عند الغرب المؤسس لها.