قصيدة النثر: كتلة أم سطر؟

حجم الخط
46

جيريمي نويل ــ تود محاضر في مدرسة الأدب والدراما والكتابة الإبداعية، جامعة إيست أنغليا، وهو محرر «دليل أكسفورد للشعر الحديث»، وناقد الشعر في صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية. وقد حرّر مؤخراً «كتاب بنغوين لقصيدة النثر»، الذي اختار فيه 200 قصيدة نثر، لأكثر من 180 شاعرة وشاعراً، في الأصل الإنكليزي أو بترجمات إليها من اللغات العربية، البنغالية، الصينية، التشيكية، الدانمركية، الهولندية، الفرنسية، الألمانية، اليونانية، العبرية، الهندية، المجرية، الآيسلندية، الإيطالية، اليابانية، الكورية، البولندية، الروسية، الإسبانية، والسويدية. المدى الزمني للقصائد يمتدّ على 175 سنة، تبدأ من عام 1842 مع الفرنسي ألويسيوس برتران؛ وأمّا توزيع هذه الأزمنة على «تصانيف»، إذا جاز القول، فقد استقرّ المحرر على التالي: قصيدة النثر الآن، قصيدة النثر ما بعد الحداثية، وقصيدة النثر الحديثة.
جهد جدير بالتحية، غنيّ عن القول، وهو يضيف جديداً ضرورياً إلى ملفّ شائك لا يخصّ مفهوم قصيدة النثر وإشكاليات تعريفها وقراءتها وتجنيسها، فحسب؛ بل يشمل أيضاً محاسن ــ وبالتالي: مساوئ ــ مختارات من هذا الطراز، ليس في وسعها تفادي منزلقات شتى تخصّ معايير اختيار هذا، أو استبعاد ذاك، من الشعراء. لديّ، بعد تثمين جهد نويل ــ تود، تحفظات ثلاثة على هذه المختارات؛ لعلّ من الخير أن أبدأها من الحصة العربية في الكتاب، والتي تضمّ قصائد من عبد اللطيف اللعبي وأمجد ناصر وجولان حاجي. ورغم أنني أعدّ ناصر بين أصفى وأرفع نماذج قصيدة النثر العربية المعاصرة، وقد سبق لي أن تناولت تجربته في مناسبات شتى؛ إلا أنّ الاقتصار على هذه الأسماء الثلاثة لا يشير إلى نقص فادح في تمثيل المشهد العربي فقط، بل قد يثير الشك في تقصير بحثي مريع استراح إليه المحرر، أو تكاسل فيه، لا كما فعل مع مشاهد قصيدة النثر بلغات أخرى.

ليس جديداً التذكير بأنّ من المتعذّر على أيّ تصوّر نظري لقصيدة النثر أن يتفادى مناقشة الإشكالية الكبرى الأولى، الكامنة في التسمية ذاتها.

التحفظ الثاني يخصّ المعيار، الوحيد في الواقع، الذي أعلنه المحرر في اختيار القصائد: أنها لا تنقسم إلى سطور شعرية، على طريقة الشعر الحرّ مثلاً، أو تعتمد صيغة الفقرة حصرياً، أو «قصيدة الكتلة» كما يتردد في المصطلح العربي. وهذا إجحاف بالغ، رغم أنّ فضيلته الكبرى تتمثل في انتهاج بعض الصرامة المنهجية. الثمن، في المقابل، كان استبعاد عشرات الأسماء الكبرى في قصيدة النثر العالمية، من مستوى والت ويتمان مثلاً، وخاصة «أوراق العشب»، من جهة أولى؛ وكذلك، من جهة ثانية، اختيار قصائد لا تندرج تماماً داخل المعيار، بل تتراوح بين السطر والفقرة (نماذج أدريان ريش، ماري آن كوز، هنري ميشو، أو حتى شارل بودلير نفسه). هذا إلى جانب حقيقة كبرى تقول إنّ عدداً كبيراً من الشاعرات والشعراء المختارين لا يعتمدون صيغة الفقرة أو الكتلة حصرياً، بل قد يكون العكس هو الصحيح؛ الأمر الذي يعني أنّ نماذج القصائد، وليس الشعراء بالضرورة، هي التي استأثرت بالمعيار.
التحفظ الثالث هو انقياد المحرر إلى إغواء تصنيف عدد من المقاطع النثرية لكتّاب غير شعراء (إيفان تورجنيف وكاثرين مانسفيلد، مثلاً) في باب قصيدة النثر؛ لا لأيّ اعتبار آخر سوى أنه استشعر فيها هذه السمة، وهو حقّ له بالطبع، ما خلا أنّ ممارسة هذا الحقّ لا تنفي عنه المساءلة العميقة. كذلك فإنه استمرأ إضافة قصيدة ت. س. إليوت الشهيرة «هستيريا»، التي يحلو للكثيرين اعتبارها قصيدة النثر الوحيدة في حياته؛ وذلك رغم أنّ إليوت كان بالغ الوضوح حين أعلن أنها «نوع من هامش يمهّد لقصيدة، ولكنها ليست قصيدة». وفي مقدمته يعترف المحرر بمشكلة إدراج ــ وفي المقابل الطبيعي: استبعاد ــ عدد من النصوص النثرية؛ مبرراً الأمر هكذا: «من وجهة نظر التاريخ الأدبي، أيّ عرض نقدي للمنابع الشعرية في النثر الحديث يمكن أن يغفل، على سبيل المثال، عمل صمويل بيكيت وجيمس جويس وفرجينيا وولف؟».
ومنذ النماذج الأبكر لمحاولات استخدام النثر، وليس الوزن بأنساقه المختلفة، العمودية أو التفعيلية، في كتابة الشعر؛ بدا أنّ اختيار التسمية المناسبة لتوصيف هذه المحاولات أمر شائك يتجاوز معضلات النحت اللغوي، أو عسر المصالحة الدلالية بين قطبَيْ «الشعر» و«النثر»، أو صعوبة إزاحة التباين الأنواعي بين وسيطَيْ التعبير. وليس جديداً التذكير بأنّ من المتعذّر على أيّ تصوّر نظري لقصيدة النثر أن يتفادى مناقشة الإشكالية الكبرى الأولى، الكامنة في التسمية ذاتها، أي سعي هذا الشكل في الكتابة الشعرية إلى خلق مقولة ثالثة تتوسط بين، أو أحياناً تتنازع وظائف، المقولتَين الرئيسيتين الراسختين في خطاب التعبير الأدبي: مقولة الشعر، التي تحيل إلى الوزن على اختلاف أنماطه، وبصرف النظر عن قيوده وحرّياته؛ ومقولة النثر، التي تحيل في المنطق البسيط إلى ما لا يُصنّف في عداد الشعر، والذي يُكتب باستخدام لغات تعتمد غالباً الإيعاز الملموس والتصريح المباشر والتقرير والتوثيق والسرد، وما إلى هذا من تقنيات القول.
وفي مطالع النقاش حول قصيدة النثر، كان حسّ التناقض بين طرفَي التسمية هو الذي يتصدر السجال؛ ومختارات نويل ــ تود تضيف إليه ثنائية جديدة، الفقرة أم السطر، ليس دون إثارة مزيد من الأسئلة على ملفّ مُثقَل بها أصلاً!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول آصال أبسال:

    احترنا معك يا أخ عادل الصاري.. من جهة.. أنت لا تقبل كلام الأخ أبو تاج الحكمة لأنه مع الشعر التقليدي القديم لا مع الشعر الحديث.. ومن جهة أخرى.. أنت لا تقبل المصطلح (الأقصوصة) لأنه لم يرد في كلام العرب القدامى ولكنه ورد في كلام العرب الحديثين.. ما هذا التناقض السافر يا عزيزي.. ؟؟ هذا عدا خلطك السافر أيضا بين الشعر الحر وشعر التفعيلة من خلال ذكرك لقصيدة أدونيس وما شابه.. !!

    1. يقول الليبي:

      سيدة آصال:
      التناقض السافر …؟ الخلط السافر….؟
      أنا أدعوك وأدعو من يتابع هذا الحوار المفيد أن يقرأ تعليقاتي السابقة.

    2. يقول ثائر القدسي:

      نسيت أن أشكر الأخ صبحي حديدي على إثارته لهذا الحوار الأدبي الممتع… !!!!

  2. يقول ابوتاج الحكمة.شاعرسوري.باريس:

    عزيزي الليبي الأستاذ الجليل:
    هل يصح الحج من غير عرفه؟
    كذلك لا أعترف على الشعر كشعر إلا بالموزون المقفى.
    أما الذين يكتبون الخواطر و الهواجس و الأدعيه و يريدون منا أن نمنح لهؤلاء جنسيه الشعر فنجوم السماء أقرب اليهم ووالله لن نركع و سيبقى الشعر العمودي عمودا منتصبا ليفحم أحداقهم

  3. يقول ابوتاج الحكمة.شاعرسوري.باريس:

    تتمة
    طول ما انت اصلع ماحدا بيقدر يمس شعره من راسك
    يعني هم يحسدوننا على ما آتانا الله من فضله

    1. يقول الليبي:

      عزيزي أبو تاج الحكمة…
      سعدت اليوم كثيرا بمحاورتك ، والله يعلم أني أحترمك وأقدرك بما أنت أهله ، لكني لا يمكنني الدفاع عن رأيك .
      أنت تقول بأن شعراء قصيدة النثر عاجزون عن كتابة الشعر العمودي ، وقد يردون هم عليك بأنك أنت أيضا عاجز عن كتابة هذا النمط الجديد من الشعر، فإذا كان ثمة عجز فهو مشترك بينك وبينهم.
      أنا لست شاعرا لكني من محبي الشعر ولي ولع مكين في القلب بالشعر القديم ، وأحفظ منه الكثير، وحبي له لا يمنعني من حب وتشجيع أي شعر جديد ، أو أي نص مكتنز بالشعرية.
      أما قولك بأن قصيدة النثر مؤامرة على اللغة وعلى الموروث ، وأن هناك من يحسدنا على لغتنا و شعرنا القديم ، فهذه أراها تهما لا علاقة لها بالمجال الأدبي والنقدي ،لأن مصدرها العصبية .

  4. يقول ابوتاج الحكمة.شاعرسوري.باريس:

    الايكفي الشعر العربي العمودي المعاصر شرفا ان سيده الادب العربي غاده السمان تمثلت به لدى افتتاحيه احدى مقالتها عندما قالت
    شكرا محرر القدس العربي
    باساطعا بالنبل والأدب
    يا لؤلؤا في تاج امتنا
    يازاخرا بالطهر والادب
    *آصال أبسال من العرب
    لحن الجمال وروعة الأدب!!!

  5. يقول سلام عادل(المانيا):

    تحية للجميع
    قد يكون التعليق متاخر ولكن تبقى الموسيقى في الشعر هي الاهم وما الاوزان الشعرية الا موسيقى ولكنها تبقى قديمة كحال المقام العراقي في الغناء موسيقى ثابتة لا تتغير ولكن التغيير في الكلام وطريقة المغني,ولذلك عندما تمرد السياب ونازك والبياتي على القديم ليس لانهم غير قادرين على الاتيان بمثله بل لكي يتحرروا من قيوده التي تكبلهم فليس من المعقول ان نبقي على نفس المنوال لا نتجدد والامر لا يختلف مع قصيدة النثر فكما اتهم الشعر الحر بانه ليس شعر ولكنه بت وقدم شعراءه ابداعات كثيرة سيكون لقصيدة النثثر شانا اخر وسسياتي بعدهم من ييجدد عند الضرورة

  6. يقول ثائر القدسي:

    السيد “الليبي” قرأت المقال والتعليقات بما فيها تعليقاتك وأمتعني الحوار فعلا …
    نعم هناك في تعليقاتك تناقض سافر بين عدم قبولك الشعر القديم لأنه قديم وبين عدم قبولك مصطلح (الأقصوصة) بدلالته الحديثة لأنها ما قيلت من قبل القدامى… !!! نعم هناك في تعليقاتك خلط سافر أيضا بين الشعر الحر وشعر التفعيلة عندما مثلت أنت بقصيدة أدونيس وزعمت بأنها قصيدة حرة… !!!
    كل الشكر للأخ حي يقظان على الملاحظات العميقة والمنورة … والشكر أيضا للأخت أصال على توضيحاتها الهامة… !!!

    1. يقول الليبي:

      السيد ثائر القدسي….
      السيدة أصال أبسال
      أنتما محاور واحد، ومزاحكما واحد ، وقد سعدتُ كثيرا بمزاحكما.

    2. يقول ثائر القدسي:

      السيد “الليبي” شكرا على إطرائك المليح ….
      الاعتراف بالخطأ فضيلة وأنت تبتعد بإصرار عن الموضوع الرئيسي وتركز على أشياء ليس لها علاقة بالحوار !!!!
      أدعوك بدوري إلى قراءة تعليقاتك مرة أخرى لكي تتأكد من التناقض والخلط اللذين نحن نتكلم عنهما …..

  7. يقول أبو تاج الحكمة:

    عزيزي الاستاذ الجليل الليبي حياكم الله و انا سعيد ايضا بكم شكرا جزيلا على حواراتكم اللطيفه و اتمنى لكم دوام الصحه والسعاده و الازدهار

  8. يقول سعيدة قطان:

    أتقدم بجزيل الشكر إلى الأخ حي يقظان كعهدنا بمقالاته الثاقبة والممتعة والمثيرة للتساؤل دائما ؛ والشكر أيضا للأخت آصال على نشاطها الفكري في التعليق والتوضيح الملحوظ : وبالأخر جزيل الشكر أيضا للأخ صبحي حديدي على إثارة عدد من النقاط التي أدت إلى هذا الحوار المفيد ؛

  9. يقول أبو تاج الحكمة:

    متنكرا وليس متنكر
    اسف للخطأ المطبعي

  10. يقول ابوتاج الحكمة.شاعرسوري.باريس:

    ان كان حقا ثائر القدسي
    آصال أبسال وبالعكس
    هل حفلنا متنكرا اضحى
    فالرأس مخبوء من الرأس
    هل كل هذا في سبيل هوى
    سطرين تنشرها على القدس

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية