قصيدة النَّثر الورديّة

من لطائف تاريخ الورد عند العرب أنه احتل في ذاكرتهم الجماعية مكانة خاصة، فكان له حضور واضح في شعرهم وأمثالهم وحكاياتهم ورسائلهم ومسامراتهم ومنادماتهم، كما كان جزءا مهما من فولكلورهم الشعبي فدخل في الأغاني والأزياء والتقاليد والأثاث وطقوس التزاور والعيادة والتطبب والتزين وغيرها من المظاهر والممارسات، التي تأخذ من الورد مادتها أو وسيلتها، ومنها تسمية أبنائهم ومدنهم وأوانيهم بأسماء الورد وصفاته.
والاتساق حول معنى الورد عام وشامل، لا تتعدى دلالاته ما يعادل موضوعيا كل ما هو جميل ورقيق بالمعنى الفيزيقي لمسا وشما وتذوقا، ونظرا أو كل ما يحمل قيم الجمال بالمعنى الميتافزيقي عشقا ووفاء وصدقا وبراءة ونضارة وافتتانا.
والورد يعشقه الجميع، الخواص والعوام. وقد نقل لنا المؤرخون أن المتوكل كان يقول: (أنا ملك السلاطين والورد ملك الرياحين وكل منا أولى بصاحبه) لكن الورد قبل أن يكون الرفيق الرقيق للملوك، كان مطلب الشعراء الهائمين ومبتغى الأدباء الحالمين ومقصد الفنانين المتيمين. ولطالما كان الورد نديم الشباب ودليل المحبين وخليل العشاق بوصفه القارورة التي فيها تجتمع إمارات الغنج، من الأنوثة والتوله والرهافة والميوعة والدلال إلى الرقة والعذوبة والكمال. والفنون كلها والآداب على أنواعها قادرة على الجمع بين المعطى المباشر الحسي للفظة الورد ومتعلقاتها، والمعطى الرمزي غير المباشر، ليكون الجمال مضاعفا والتأثير حاصلا لا محالة.
ولا خلاف أن الورد موضوع من الموضوعات الأثيرة في ديوان الشعر العربي على طول تاريخه، غير أن هذا الموضوع ازدهر بشكل لافت للنظر في العصرين العباسيين الأول والثاني، كمظهر حضاري ودليل استقرار اجتماعي، جعل الشعراء يشغفون بالورود والحدائق والرياض والبساتين.
والأهم من ذلك أن الورد كثيمة جمالية لم يقتصر توظيفها على الشعر وحده، بل الورد حاضر في فنون النثر كلها، وقد يرد في صيغة موضوعات مستقلة كرسائل، ومنها رسالة (المفاخرة بين البنفسج والبهار والنرجس) لابن إدريس الجزري (ت394 هـ) وكمقامات ومنها مقامتا (الجوهر الفريد في المناظرة بين النرجس والورد) (شرح الغرام في سرح الغلام) للمارديني (ت641 هـ) والمقامة الوردية للسيوطي التي تناولتها ابتسام الصفار بالتحليل في كتابها (ثقافة الورد في التراث العربي) طبعة أبو ظبي 2014. فوجدت أن مقصد السيوطي منها كان سياسيا وأنه اتخذ الورد قناعا له.
وإذا كان التغني بالورد في القصيدة العمودية ألوانا وأصنافا وعطورا وتمايسا بمثابة لازمة من لوازم الغزل ومحطة مهمة تضيف شفاهيا على سحر الورد جرسا ونغما؛ فإن قصيدة النثر لها ما يميزها جماليا وهي تضفي دلالات جديدة تتعدى بالورد المحطة الرومانسية، حيث الهيام والتوله والتذلل إلى محطة واقعية حيث الالتياع ضنى، والأسى كلفا، والتشظي حزنا وألما.
والسبب أن الورد اسما أو رمزا ما عاد قادرا على تمثيل الحياة وتجسيد جمالها الذي شوهته المدنية العصرية بتقدمها الكونكريتي المتسارع. بيد أن للورد أن يصمد وذلك حين يتعاضد فيه الاثنان ظاهره وباطنه جنبا إلى جنب متعلقاته الأربعة التي لا غنى عنها وهي (البستان / الفراشات/ العصافير/ الحدائق)، فبها يكتمل المشهد الحياتي الذي فيه الإنسان مرهق بصروف الحياة لكنه يرفض الاستكانة.
وهو ما نجده عند الشاعر عادل الياسري الذي شكّل الورد عنده محورا تلتف حوله ثيمات الواقع الحياتي محاكية مأساة الوجود، مرة بالصورة السردية ومرات بالمشهدية الدرامية والمفارقة الساخرة واللازمة القولية. وتتأطر الثيمات الواقعية للورد بالمتعلقات الأربعة أعلاه متكررة في مجموعات الشاعر الثلاث وهي على التوالي (الورد أنتِ، الورد دموعه ملونة، وردتها عرس الفراشات) التي فيها تتصدر قصيدة النثر متوردة بالأسى ومتقطرة بالدمع ومتوشحة بالسواد. فما عاد قوس قزح رديف الندى. والندى نفسه خاصم الورد الذي هجر ألوانه الشفيفة وظل قاتما ينتظر بزوغ الشمس كي ينعم بالظل. وتجربة الشاعر مع الورد ليست وليدة لحظتها كي تتفاوت وجدا ورومانسية وتتغاير منطقا وواقعية، بل هي تجربة احتضنت الورد رمزا، فاحتضنتهما قصيدة النثر واقعا مؤلما ومشوارا شائكا. وهذا الاحتضان للثيمة والعنوان هو الجدة التي بها تدلل قصيدة النثر على اختلافيتها كجنس شعري يملك من الإمكانيات ما يتيح له أن يتجدد، فتكون قصيدة النثر وردية وهي في قمة مأساويتها، واقفة على هرم الحياة الخاوي بشموخ. وإذا كان الورد في عمومه لصيقا بمن هو متيم فإنه انقلب عند الياسري صفة لصيقة بالإنسان المتعب، الذي يقاتل في معركة الحياة حاملا في يده فأسا وفي الأخرى قصيدة وفي الفأس والقصيدة الوسيلة والغاية. أما المرأة فليست دلوعة الورد المطلوبة والممنوعة، بل هي مقاتلة أيضا كما الرجل تنتفض من أجل الحق وتكدح لتصنع واقعا جديدا يعيش فيه الإنسان/الورد بأمان.
والحياة صارت متاهة يبحث فيها الإنسان سدى عن عشبة تضمن له البقاء، والأفعى دوما عازمة على الانقضاض عليها، لكنه ليس جلجامش تائها في الدروب، بل هو يعلم أن مصيره مرسوم دمعا وألما يتجرعه وقد اصطبغ كل شيء بالسواد:
رأى عشبة سوداء
في كهف نفسه
طأطأ الرأس مشدودا لليلة
لم ينهمر بها المطر (قصيدة يبحث في السر)
إن الورد وحده القادر على المواساة في لجة الظلام وقد تحول إلى لافتة، خُط عليها شعار البراءة ليفضح الذئاب التي جعلت الإنسان عصفورا بلا أحلام، وفراشة تؤوب إلى النار:
من أحضانها
حين تختزل المرايا
صيحة النار (قصيدة صيحة النار)
وقصيدة النثر وردية وإن لبست السواد، ونزقة وإن تصوفت معتزلة في كهف الغياب. والأزهار فيها لا تعادل الورد لأن زمن التزهير انتهى وحل محله زمن الزمهرير الذي فيه يهرب الورد (من سره، من ظلال لمملكة نبت سوادا في داخله) (قصيدة يبحث في السر). ولا يغادر السواد اللوحات الوردية لأن الصباح صار مساء والندى جفافا والضحك دمعا وحمرة الورد ظلاما والزمن رمادا، فلا بساتين ولا عصافير ولا حدائق ولا فراشات ولا ورود :
زهرة النارنج
شاخت في حديقته
عرائش أخرى
مدت له بصرا
..
زهرة النارنج وحدها
ما دار في رواقها ضياء (قصيدة حالات)
وحزن القصيدة ناجم عن بؤس الحياة فالأعشاش تفتت والألوان ابيضت والفراشات اختفت، وصار الورد وحيدا ليس له أن يزنر شعر الأميرة ولا أن يهدل له الحمام:
طالعتها
لم تكن الأنهار واقفة
لم يكن مجرى القصيدة
ماثلا
عند الشواطئ
الطير ساكتة
لم تبرح النخل
قلت احترس
في الأفق بارقة
جنة الأمس
آسا
سيسبانا (قصيدة بالكف ترتسم الرؤى)
وعلى الرغم من تعدد ألوان الورد، فإنه صار هنا فضاء من بياض بلا ألوان. وحل الجراد والجرذان ما بين الورد ونداه. والشاعر حديقة بلا أزهار يحاول أن يتنبأ بالعيون ويقرأ النجم لعل العصافير تفترش الجدب:
رنت نخلة
رأت العصافير
تفترش الجدب
أنت.. تسائل جاراتها
أأنتن مثلي
ترين العصافير
ما خطبها
سر دهشتها
تأكل الرمل قمحا؟ (قصيدة النجم والحديقة)
ودموع الورد ليست نداءه؛ بل هي مضاضات أحزانه، يلوكها النخل الذي هجرته الطيور وعافته العصافير، وتباعدت عنه القطا فلا أحلام ولا ندى، والورد حزين والجوري مغتم. ولأن العالم يسكنه الحراس سكنت العصافير صحراء الغربة فـ(سعفها لم تزره العصافير قبل أن تأتي حديقتها فراشات) (قصيدة العشب ماء ضوئه). ولا ترتعش العصافير على الأسلاك إلا لأن الحديقة سدت بابها وتصادى الندى فذوت أزهار الحديقة :
أقفرت حديقته
زهرها تيبست أوراقه
والنمل أمكرها (قصيدة انكسارات)
وطبيعي بعد هذا كله أن تنام الرغبة ويظمأ العصفور وقد أدركه الصباح موحشا وكئيبا، ويغدو تساؤل الورد مشروعا وهو يبحث عن نحلة كانت تبادله الهمس وعشبة كانت تلازمه في قلب حديقة فيها الفراشات يقرأن التراتيل والعصافير تغالب الطرقات. أما البستاني فـ(أوحشه أن لا سلة، لا عنبا يحاور الشفاه) بل (غصن أجرد وبومة على الجذع تصطاد الفراشات) (قصيدة حين يبتسم الماء).

٭ كاتبة من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية