جاء في «لسان العرب» أن الومضة لغةً من وَمَضَ البرقَ وهي قصيدة البيت الواحد، لها تعريفات كثيرة تلتقي كلها في الإيجاز والتكثيف. جرّب كتابتها شعراء وشاعرات نجح بعضهم في كتابتها بتمكن، واعتبرها آخرون مجرد تجربة في كتابة نوع جديد بالنسبة له على الاقل. وبين إتقان اللعبة واستسهالها تبقى قصيدة الومضة عصية على من لم يصل إلى حدود الإبداع الشعري. سألنا شعراء من ليبيا ودول عربية أخرى عن قصيدة الومضة، فكانت رؤاهم كالتالي..
تنهيدة الخلاص
بداية تقول الشاعرة الليبية أم الخير الباروني إن الاختزال والتكثيف والإيجاز هي العناصر الاساسية، إذا ما سلمنا بأنها هي المرتكز الذي تستند إليه قصيدة الومضة، أو الدفقة الواحدة للوصول إلى مغامرة المعنى. الفكرة أساسا التي يبدع الشاعر في هندستها ارتجالا أو صنعة، هي جوهر الجملة الشعرية، فتثير السؤال وتبعث على التأمل والتأويل ومن هنا يمكن القول إن قصيدة الومضة كشكل بنائي حديث الظهور نسبيا في الأدب العربي والعالمي، القديم قدم الإنسان منذ عصر الإيماءة والمثل والأحجية مع اختلاف المتن، هذا الشكل يغيب عنه القياس، ولا نجد بنية تركيبية واضحة يمكن أن توضع في إطارها لتحديد قوتها أو ضعفها، وبالتالي أتاحت للعديد التعاطي معها بدون أدوات، أو حتى جهد إبداعي يذكر، فالنص المباشر الخالي من الإدهاش، الذي يفتقر للشحنة الدافقة التي تصنع طاقة الخلق والإبداع، يدفع بصاحبه الى المجاهرة بسهولة طرح المعنى وتقديمه خاليا من أي جماليات، بالاعتماد على المفردة المستهلكة والتوظيف المباشر، وكأنه ينقل صورة سلبية عن محيط يضج بالحيوات والكائنات. أما الشاعر فيختزل الموقف والمفردة والشعور، فتأتي القصيدة دفقة شعور واحــــدة تختصر ملاحم ومعلقات، وتعطي المعنى بعدا مغايرا، وتمنح الصورة روحا وتهب المتلقي تنهيدة الخلاص.
الفخ
ويضيف الشاعر الفلسطيني طه العبد قائلاً.. يمكن أن نسميها قصيدة التكثيف، أو المركب الصعب، هي أسهل ما تكون كتابة وأصعب ما تكون ملامسة لجوهر التكثيف الشعري. يعدها البعض سهلة بسيطة، ويراها آخرون صعبة، بل لتكاد تكون معجزة. الكثيرون يكتبونها، ولكن القليلين من يلامسون جوهرها النقي، الذي يصح أن نقول عنه إنه ومضة شعرية، لأن مصادر الجمال الفني في هذا النوع الأدبي ينبع بالدرجة الأولى من جدة الموضوع والقدرة الإيحائية والصدمة المتولدة عبر تشكيل الثورة الفنية المصاحبة، وكل ذلك منسكب بأسلوب لا يلامس المباشر، ولا يماشي المعتاد، لذا لم نشهد أديبا متمايزا في هذا النوع الأدبي، فقصيدة الومضة فخ بالدرجة الأولى لمن يقف شعره وكتاباته عليها، ومع ذلك ما زال الشك قائما إن كان هذا النوع من الكتابة يمثل الشعر، أم انه يدور في فلك آخر.
اللغة والتفاصيل
أما الشاعرة المغربية ليلى بارع فتقول إن استسهال الكتابة عموما هي عملية أفرزتها وسائل الاتصال. وتحت أي شكل من الأشكال الأدبية كتبت القصيدة فإنها ترتبط بكاتبها وإبداعه وتمكنه من أدواته. الكتابة إبداع وإتقان، وقصيدة الومضة تتطلب تمكنا لغويا قويا وقدرة عالية على التقاط التفاصيل، إنها السهل الممتنع. وعلى النهج نفسه تضيف الشاعرة الليبية حواء القمودي.. قصيدة الومضة تحتاج إلى لغة مصفاة أو مقطرة، لأن الفكرة ستختزل في سطر أو بضع كلمات، والصورة الشعرية ستكون مكثفة، وكلاهما الفكرة والصورة يحتاجان إلى نبض قوي ومشاعر جياشة. فالشاعران محيي الدين محجوب وفرج بوشينة استطاعا أن يحققا هذه المعادلة في نصهما/الومضة.
رصاصة الرحمة
ومن ناحية أخرى يرى الشاعر الليبي خالد المغربي أن قصيدة الومضة هي رصاصة الرحمة التي أطلقت على الشعر بعدما أصابه من تشوه، ومن تخبط فيها، انتهت القيمة الحقيقية لمعنى القصيدة. ويضيف.. نحن في موروثنا الشعري الليبي لدينا (غناوة العلم) يمكن اعتبارها قصيدة ومضة شعبية وهي أيضا (غناوة العلم ) قصيدة البيت الواحد، ففيها تجد منذ القدم المعنى العميق والصورة المتناهية الإبداع التي لا تحتاج من خلال جمالياتها إلى عمق تفكير فهي تربط قصة كاملة، وتوجزها في كلمات بسيطة. أما قصيدة الومضة فقد كان حالها حال قصيدة النثر في العبث بالقيمة الإبداعية للمعنى وعمقه وترابطه.
تضيق سبل التعبير عند الشعراء أحياناً، ومع المتغير الحياتي بفعل التحولات الكبرى التي يعيشها الإنسان تتغير الأساليب، ومع تعدد أنماط الكتابة الإبداعية تتعدد سبل القراءة والتلقي
أثر الترجمات الأجنبية
ويقول الشاعر والناقد العراقي طالب عبد العزيز.. تضيق سبل التعبير عند الشعراء أحياناً، ومع المتغير الحياتي بفعل التحولات الكبرى التي يعيشها الإنسان تتغير الأساليب، ومع تعدد أنماط الكتابة الإبداعية تتعدد سبل القراءة والتلقي أيضاً، والشعر كفنٍّ قديم، جدير بتقبل التغييرات هذه، لذا يبحث الشاعر عن حريته وآلية جديدة في إيصاله لمادته، عبر أكثر من شكل إبداعي ونتعقب بوضوح ما طرأ من تحول على شكل القصيدة العربية منذ امرئ القيس والعصر الجاهلي إلى بدر شاكر السياب وأدونيس وسعدي يوسف، حتى آخر شاعر شاب يكتب الشعر اليوم. بدأت محاولات التغيير في شكل القصيدة العربية الحديثة قبل أكثر من ستين عاماً، في لبنان خاصة، ويمكننا اتخاذ جماعة أبولو أو مجلة «شعر» مرجعاً واضحاً في ذلك، وبفعل ترجمة الشعر من ثقافات أوروبية وغيرها إلى العربية صرنا نعثر على تجارب كتابية جديدة، ولعل (الهايكو)، المنقول عن اليابانية، من أوضح ما يمكن اعتماده في ما نعرفه عن قصيدة الومضة اليوم. شخصياً لا أعتمد الفكرة القائلة بوجود مرجعيات شعرية عربية لها، إذ أن الشعر العربي يعتمد القصيدة أولاً، ولا يعتمد البيت أو المقطع، بل يعيب على الشاعر إذا جاء ببيت واحد، وإن كان فريداً في فكرته، لذا أرجح أن قصيدة الومضة هي نتاج اتصال الشاعر العربي بما قرأه مترجماً من أشعار مكتوبة بلغات غير عربية. قد تكون الذائقة القرائية عند البعض اليوم ميّالة الى هذا النمط من الشعر، وهي بكل تأكيد تنسجم مع معطيات العصر، السريعة في كل شيء بفعل اتصالنا السريع بما يحيطنا، وهي استجابة لا تنفك عراها مع استجابات أخرى كثيرة في الرواية والموسيقى والأغنية، وربما وجدت من يجيد كتابتها من الشعراء، وباتت من نسيج تجربة البعض منهم، لكنني، شخصياً لا أجدني قادرا على كتابتها، مثلما أجد أن القارئ العربي ما زال راغباً في قراءة النمط التقليدي الشائع اليوم، بمعنى أن القصيدة الطويلة نسبياً هي الأقرب لروحه، والقادرة على إمتاعه وتلبية حاجاته. نعم، أحبُّ قراءة ما يكتبه البعض، مما يترجم من قصائد الومضة، لكنني، وبحدود ما أعرف لم أجد شاعراً عربياً تمكن من تأشير تجربته فيها، كواحد من الشعراء الكبار القادرين على جذب القارئ العربي لمنطقته هذه.
قوة الصورة الشعرية
وفي الأخير يضيف الشاعر والكاتب الليبي صلاح راشد قائلاً.. ومازال السؤال مستمرا رغم اختلاف الرؤى الشعرية بين الشعراء، إلا أن اللحظة الشعرية تجمعهم بهاجسها المشترك، هذه اللحظة المفتوحة والمشرعة على العالم، تضيف أحياناً الجديد للمشهد الشعري، وترسم أبجدية إبداعية تزيح الاحتباس الإبداعي وتنتشله من تحت ركام الارتهان والتقييد، ليكون الشعر لكل الناس في ومضة تشكل (هواءهم وماءهم وعصير همومهم اليومي). شعر يتنفسه الجميع وأعتقد لن يكون هناك تعريف واضح وجلي لمفهوم الشعر ليستمر معنا السؤال بين الحداثة والتقليد، إن المعاني اللفظية وحدها لا تحدد قيمة النص الشعري بل تقاسمها في ذلك الصورة الشعرية، باعتبار أن المعنى اللفظي يحمل فكرة موضوع النص الشعري، أما الصورة فتأتي مرئية ممزوجة وقسيمة للمحتوى، والمفاضلة بينهما ليست فنية، لذلك تتأكد قيمة الصورة الشعرية في قصيدة الومضة كنوع من الاختزال الرائع. هذا التوافق أكد بوضوح عمق التجربة الشعرية التي يتمتع بها بعضهم وقدرتهم في الجمع بين كثافة اللغة والصورة والتقاط المشاهد اليومية بفلاش أو ومضة بعمق الدلالة ومنتهى التوافق .
٭ كاتب وصحافي ليبي
ووجهة نظر اخرى ترى قصيدة الومضة سلعة الفاشلين العاجزين عن كتابة القصيدة المعبّرة عن مكنونات النفس وهواجس الناس في
قطعة أدبية ذات وزن وقافية أو ذات تفعيلة.التجديد مطلوب لكن ليس بانتزاع الدسم المغذّي بحجة التطور بل برفع الذائقة الفنية..