مع تحقيق الحزب الديمقراطي الأمريكي للأغلبية في مجلس العموم في الانتخابات النصفية للكونغرس التي جرت في السادس من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، والكل يتوقع نمطا مختلفا من الضغوط التي ستمارس ضد الرئيس ترامب. وبالرغم من احتفاظ الجمهوريين بأغلبية بسيطة في مجلس الشيوخ، إلا أن ضغوط الكونغرس بغرفتيه الشيوخ والعموم على الرئيس باتت واضحة للعيان. إذ يشير المختصون بالشأن الأمريكي إلى ضغط كتلة الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ على الرئيس في محاولة منهم لتحجيم اندفاعاته غير المتوقعة سياسيا والتي يرون إنها ستؤدي إلى الإضرار بالمصالح الأمريكية على المدى البعيد.
وضمن نمط الضغوط الجديدة التي بات يفرضها الكونغرس على إدارة ترامب، صرح النائب آدم شيف المرشح لتولي منصب رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأمريكي، في 23 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي إلى صحيفة ”واشنطن بوست” الأمريكية إذ قال: “إن اللجنة ستحقق مع الرئيس ترامب بسبب علاقاته مع السعودية” وأضاف: “إن اللجنة ستحقق في تقييم الاستخبارات الأمريكية لمقتل خاشقجي، وأيضا الحرب في اليمن، واستقرار الأسرة السعودية الحاكمة، وتعامل المملكة مع منتقديها ومع الصحافة، وقضايا أخرى”.
كما صرح النائب آدم شيف في مقابلة ثانية أجرتها معه قناة “NBC News” الأمريكية حول ذات الموضوع فقال متهكما: “إذا كان السعوديون قد ضخوا أموالا إلى لجنة حفل التنصيب، أو استثمروا في أعمال ترامب التجارية عبر استئجارهم غرفا في فنادقه، وهي الصفقة التي تحدث عنها الرئيس خلال حملته الرئاسية، الأمر الذي جعله يحب السعوديين جدا، إذا كان ذلك يؤثر سلبا على السياسة الأمريكية وعلى عدم رغبة الرئيس في انتقاد ولي العهد السعودي فيما يتعلق بمقتل خاشقجي، إذا فالشعب الأمريكي يجب أن يعرف ذلك”.
كانت مواقف الرئيس ترامب تجاه قضية مقتل الصحافي السعودي عدنان خاشقجي تثير الريبة، وتصعد من حدة الأزمة بين البيت الأبيض والكونغرس، ففي منتصف تشرين الثاني/نوفمبر الماضي وبعد ان قدمت وكالة الاستخبارات الأمريكية “CIA” تقريرها الذي تضمن إشارات قوية باتجاه إدانة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، جاء رد ترامب مائعا وغير واضح المعالم، إذ شكك في مصداقية التقرير أو عدم جزمه باتهام بن سلمان حين صرح قبل بدئه عطلة عيد الشكر قائلا في مؤتمر صحافي: “إن الـ (CIA) نظرت في الأمر ودرست القضية كثيرا، ولم تتوصل إلى استنتاج مؤكد لا يحمل أي شك. الحقيقة أن محمد بن سلمان ربما فعل ذلك، وربما لم يفعل ذلك. نحن بدورنا سنقف بجانب المملكة العربية السعودية”.
فما كان من الكونغرس إلا التحرك وبقوة لوقف تصريحات ترامب هذه، إذ أرسل زعيما لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بوب كروكر رئيس الأغلبية الجمهورية في اللجنة، وبوب ميننديز زعيم الأقلية الديمقراطية فيها، رسالة تطالب الرئيس ببدء تحقيق حكومي أمريكي حول ما إذا كان لولي العهد السعودي دور مباشر أو غير مباشر في قتل خاشقجي.
وقد جاء في نص الرسالة التي وجهها النائبان إلى ترامب مطلب محدد بوضوح ويشير إلى دور ولي العهد السعودي، إذ جاء في نص الرسالة: “في ضوء التطورات الأخيرة بما فيها اعتراف الحكومة السعودية بقتل مسؤولين سعوديين للسيد خاشقجي داخل قنصلية بلادهم في إسطنبول، نطلب منك أن تحدد بدقة هل كان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان هو المسؤول عن مقتله؟”. وقد عدت خطوة أعضاء مجلس الشيوخ البارزين من الحزبين، تصعيدية من جانب الكونغرس الذي عبر الكثير من أعضائه عن صدمتهم إزاء تصريحات ترامب.
لم تهدأ ضغوط الكونغرس على الرئيس بخصوص موقفه من السعودية ومن ولي العهد محمد بن سلمان، فقد قدم في السابع من كانون الأول/ديسمبر الجاري ستة من أعضاء مجلس الشيوخ في الكونغرس مشروع قرار يدين ولي العهد السعودي لدوره في قتل الصحافي السعودي عدنان خاشقجي، والتسبب في أزمات عديدة في المنطقة، تقف في مقدمتها الأزمة الإنسانية في اليمن، وإفشال وإعاقة محاولات الأمم المتحدة لحل النزاع الدائر في اليمن بالطرق السلمية، ودور بن سلمان في الأزمة الخليجية عبر فرضه حصارا جائرا على قطر، واعتقال المعارضين السياسيين، واستخدام القوة لتهديد المخالفين.
وقد قدم مشروع القرار في مجلس الشيوخ ستة من الأعضاء البارزين، هم عضوا لجنة القوات المسلحة الجمهوريان ليندسي غراهام وماركو روبيو، وكبيرة الديمقراطيين باللجنة القضائية ديان فاينستاين، وأعضاء لجنة العلاقات الخارجية في الكتلة الجمهورية في مجلس الشيوخ تيد يونغ والديمقراطيان كريس كونز وإيد ميرفي.
بعد مرور عامين على ولاية ترامب، ومع ازدياد التوتر بين البيت الأبيض والكونغرس نتيجة تخبط ترامب في إدارة ملفات السياسة الخارجية وانعكاس ذلك على تشكيلته الحكومية، إذ استقال العديد من الوزراء والمسؤولين العاملين معه في مدة زمنية قصيرة جدا، ظهرت مؤشرات عديدة على بدء صراع شديد بين مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون والبيت الأبيض، لتأتي الضربة هذه المرة ماحقة وعنيفة تجاه إدارة ترامب بدون مواربة أو مجاملة أو تزويق، جاء ذلك يوم 14 كانون الأول/ديسمبر الجاري عندما أيد مجلس الشيوخ بالإجماع مشروع القرار الذي تقدم به رئيس لجنة العلاقات الخارجية بوب كروكر، القاضي بتحميل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، مسؤولية قتل الصحافي جمال خاشقجي، ومحاسبة كل من ثبت تورطه في عملية القتل.
كما تحدى مجلس الشيوخ الأمريكي الرئيس ترامب، ومرر مشروع قرار يدعو إلى إنهاء الدعم العسكري الذي تقدمه الولايات المتحدة للسعودية في حربها التي تشنها على اليمن. كما حمّل أعضاء المجلس ولي العهد السعودي محمد بن سلمان المسؤولية عن مقتل خاشقجي. وقد عكست هذه الخطوة حالة الغضب في الكونغرس من طريقة تعامل ترامب مع قضية قتل خاشقجي والصراع اليمني. وتعد هذه الخطوة سابقة في التاريخ الأمريكي المعاصر، فهي المرة الأولى التي يوافق فيها أحد مجلسي الكونغرس على سحب القوات الأمريكية من صراع عسكري بموجب قانون صلاحيات الحرب الذي صدر عام 1973. لكن المراقبين يتوقعون ان الرئيس ترامب ربما سيلجأ إلى استخدام حق الفيتو ضد مشروع قانون صلاحيات الحرب اعتمادا على تصريحاته السابقة التي قال فيها: “أريد الوقوف إلى جانب الحكومة السعودية وولي العهد حفاظا على أمن ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية”.
من ناحيتها تحاول إدارة ترامب المماطلة وحفظ ماء الوجه تجاه القرار الصارم الذي أصدره مجلس الشيوخ منتصف كانون الأول/ديسمبر، إذ أكدت الإدارة الأمريكية عزمها على مواصلة التعاون العسكري مع السعودية ومحاسبة المسؤولين عن قتل خاشقجي في الوقت نفسه. وقال وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، في مؤتمر صحافي في واشنطن: “إن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، مصمم بحزم على حماية الولايات المتحدة بالتزامن مع محاسبة مرتبكي هذه العملية الفظيعة لقتل خاشقجي”.
وأحجم معارضو مشروع القانون الذي أصدره مجلس الشيوخ عن القيام بتحرك يضر بالعلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والسعودية التي ينظرون لها باعتبارها ثقلا موازنا ومانعا لتمدد النفوذ الإيراني بالشرق الأوسط الذي سيهدد بدوره إسرائيل الحليفة الاستراتيجية للولايات المتحدة. وحين طلب التعليق من المتحدث باسم البيت الأبيض على مشروع القانون، قال: “مصالحنا الاستراتيجية المشتركة مع المملكة العربية السعودية قائمة، وما زلنا نرى أن من الممكن تحقيق هدفي حماية أمريكا ومحاسبة المسؤولين عن قتل الصحافي السعودي عدنان خاشقجي”.
لكن الكثير من المراقبين يتوقعون اندلاع الصراع بين الكونغرس بغرفتيه الشيوخ والعموم مع إدارة ترامب مع بدء جلسات مجلس النواب بداية العام الجديد بعد أن سيطرت عليه الأغلبية الديمقراطية، إذ تشير التوقعات إلى أن الرئيس ترامب سيخضع لمزيد من الضغوط والتحقيق حول موقفه الغريب والمتناقض من تقديرات الوكالات الأمنية والاستخباراتية الأمريكية في العديد من الملفات، التي يقف في مقدمتها الملف السعودي وملف التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأمريكية، ويشير البعض إلى احتمالية إطاحة ترامب من سدة الحكم نتيجة هذه الضغوط.