صحيح أنَّ العمل الروائي ليس جزءاً مُقتطعاً من الحياة، إنما هو إعادة تفسير وتأويلٍ لوقائع الحياة، كما يقول الناقد اللبناني لطيف زيتوني، أكثر من ذلك فإنَّ الرواية هي فرصة لتأمل الأفكار والآراء المختلفة، إذ حاول عدد من الفلاسفة صياغة رؤيتهم الفكرية وطروحاتهم الفلسفية في قالب روائي، إذن فإنَّ النص الروائي لا تصح دراسته بمعزل عن أبعاده الفكرية والمعرفية، غير أنَّ تطويع الفكر ومناقشة الرؤى الوجودية في سياق الرواية بدون أن يفقد العملُ هويته الأدبية، أو يتحول إلى كتاب النظريات والفرضيات المُتشابكة، أمر لا ينجحُ كل مؤلف في تحقيقه، لذا فإنَّ من وفقوا في هذا المستوى قلة، وتمكن الكاتب والفيلسوف السويسري باسكال مرسييه أن ينضمَ إلى هذه الفئة من خلال رائعته المعنونة بـ«قطار الليل إلى لشبونة» طبعا بمجرد الاحتكاك مع العنوان يتوقع المُتلقي أنَّ ما يمتدُ وراء العتبة تكونُ ثيمته الأساسية هي الرحلة، وعندما تبداُ عملية قراءة محتوى النص يتمُ إدراك أهمية عنصر الزمن في بنائه، لدرجة يصبحُ الزمن من المداخل الرئيسية لمُعالجة الفكرة، لذلك فإنَّ وجود كلمة الليل في تركيبة العنوان ليس الغرضُ منها هو التزيين والتشويق، بقدر ما أن الغاية من ذلك هي الإشارة إلى الأفكار العالقة بأعطاف النص.
هذا العمل يعجُ بالشخصيات والأحداث، هو رصد لرحلة استكشاف الذات والآخر، سفر في طبقات الأفكار محاولة لاستنطاق ما يحاول المرءُ كتمه، إثارة لجملة من الأسئلة عن وظيفة اللغة ودور الكلمة في صناعة الحياة.
رواية صاخبة
هذا العمل يعجُ بالشخصيات والأحداث، هو رصد لرحلة استكشاف الذات والآخر، سفر في طبقات الأفكار محاولة لاستنطاق ما يحاول المرءُ كتمه، إثارة لجملة من الأسئلة عن وظيفة اللغة ودور الكلمة في صناعة الحياة، إضافة إلى ذلك يُكفلُ المؤلف شخصياته الموزعة على خريطة الرواية بمُقاربة المفاهيم الوجودية، التي نعتقدُ لأول وهلة بأنَّ ذلك يقع ضمن حقل اهتمامات النخبة. لكن هذه المُعطيات يتساءَلُ الجميع بشأنها وقد لا تتمثلُ الهواجس في صيغ وعبارات إلا لدى من يستنكه سر اللغة، وأنت تتابع أحداث هذه الرواية وتصاحب البروفيسور غريغوريوس في رحلته نحو لشبونة، ومن ثم إلى مدن أخرى وزيارته لمعالم أثرية وسلسلة لقاءاته مع أصدقاء برادو صاحب «صائغ الكلمات» تتأكد بأن الرواية أداة للمعرفة زيادة على ذلك فإن ما يشدك أكثر هو المستوى البنائي للنص ومنظومته المُحكمة وحلقاته السردية ومنسوب التشويق الذي يتضاعف متوازياً مع خط السرد. تقومُ الرواية على تقنية تناوب في تغطية بنية الحدث، إذ يكونُ المتلقي مُتابعاً لتطورات حياة البروفيسور ريموند غريغوريوس وتجربة بحثه في لشبونة إلى جانب ما عاشه الدكتور أماديو دي برادو الذي رحل وهو لم يُكمل بعدْ العقد الخامس من عمره نتيجة تمزق الأوعية الدموية.هذا يضمُ البرنامج السردي متناً متداخلاً في لحمة النص الأساسي. وهو عبارة عن رسائل أماديو وشذراته التي نشرت باللغة البرتغالية تحملُ عنوان «صائغ الكلمات» حيثُ عثر عليه في مكتبة بيرن وتكفلَ المكتبي بترجمة أجزاء من محتويات المُؤلَف، وما يردُ في هذا السياق جملةُ بمثابة استباق لما يمرُ البروفيسور البالغ من العمر سبع وخمسين سنةً «إذا كان صحيحاً أننا لا نعيشُ إلا بجزءٍ صغير مما يعتملُ دواخلنا فما هو مصير بقية الأجزاء إذن» وهذه الجملة تمتدُ ظلالها على جسد النص، وتعبر عن الفكرة التي راودت أستاذ فيلولوجيا للذهاب من أجل استعادة حياته عقب لقائه بالفتاة البرتغالية على جسر كرشنفلد.
الهروب
يقولُ أندريه جيد «لا شيء أخطر عليك من عائلتك وغرفتك وماضيك وعليك تركهم» كأنَّ غريغوريوس يتصرف بإيحاء هذه العبارة عندما قرر مُغادرة مدينته التي كانت بمثابة قوقعة وهو يتوقفُ في ساحة بوينبرغ مستعيداً ما أمضاه من الأيام والسنوات في بيرن، وخلافه مع زوجته فلورانس جراء رفضه السفر بالطائرة، لذلك كثيراً ما سافرت لوحدها بينما تنثالُ هذه الذكريات على ذهنِ غريغوريوس فإذا به يرى واجهة سينما بوينبرغ لفت نظره عنوان الفيلم الذي يُعرضُ «الرجل الذي يشاهد القطارات تمر» وهذا ما يحيلُ المتلقي إلى مفردة العنوان، كما يُشَحنُ خياله برغبة التوقع للتحول المفصلي في حياة البروفيسور، على الرغم من استرجاعه لسلسلة من الأحداث والتفصيلات التي شكلت شخصيتَهُ، فإنَّ ما يشغلُ غريغوريوس أكثر هو صاحب الكتاب أماديو إيناسيو دي ألمادا، حيثُ يريدُ النفاذ إلى شخصيته من خلال الصورة التي تتصدر محتويات المؤلف الموسوم بـ«صائغ الكلمات» ومن ثُمَّ يحاول تعلم اللغة البرتغالية ليتمكن من الفهم أكثر ويُدركَ المضمر في تركيبة الكلمات، وبهذا تتضحُ التقاسيم الفكرية لشخصية أماديو، ولكن مغامرة غريغوريوس لا تنتهي هنا، بل تنطلقُ رحلته بالقطار إلى مدينة لشبونة.
ويمرُ في غضون تلك المدة الزمنية بمدن أخرى حيث يستعيدُ في باريس ذكرياته مع فلورانس. وقبل ذلك كتب رسالة إلى مدير المعهد الذي يدرسُ فيه مخبراً إياه عن رحلته. يُذكر أن الراوي يبدو مراوغاً لا يمكنُ تحديد شكله فمن جهة يستبطنُ دواخل شخصية البروفيسور، كما يوهمُ المتلقي بأنَّ ما يعرفه عن تلك الشخصية رهن بِمُصاحبتها حاله في ذلك حال المتابع لتطورات الرواية. أزيد من ذلك يتمُ تعهد بالراوي لتوظيف تقنيات السرد، لاسيما التلخيص إذ يخبرُنا بأن البروفيسورَ قد سردَ قصتهُ لصديق الرحلة جوزيه أنطونيو سلفييرا، فالأخير تاجر من البرتغال مُنفصل عن زوجته، وهذا هو البعد المشترك بينه وبين غريغوريوس. كما أنَّ التاجر حلقة في شبكة الشخصيات التي تخدمُ الغاية من الرحلة. عن طريقه تعرفَ على طبيبة العيون ماريانا إيسا، فالأخيرة سيكون لها دور للنهوض بالسرد نحو مستوى جديد، وذلك عندما ترافقُ غريغوريوس في زيارة إلى عمها صديقُ.
شخصيات «قطار الليل إلى لشبونة» المندمجة بالبنية المكانية والزمانية هي ركن أساسي في خط الرواية، يشار إلى أنَّ باسكال مرسييه قد آثر الاهتمام بالمستويات النفسية لدى شخصياته.
الشخصية الكثيفة
بعكس ما أعلنه الاتجاه البنيوي بأنَّ الشخصية الروائية ما هي إلا كائن ورقي لذا لا يصحُ أن يمتازَ هذا العنصر بالأفضلية، أو يصبحَ ركيزةً في تحديد اتجاهات العمل السردي. فإنَّ شخصيات «قطار الليل إلى لشبونة» المندمجة بالبنية المكانية والزمانية هي ركن أساسي في خط الرواية، يشار إلى أنَّ باسكال مرسييه قد آثر الاهتمام بالمستويات النفسية لدى شخصياته، وذلك ما أبان عنه تداخل الأزمنة بفعل الاسترسال في التذكر زيادة على ذلك، فإن النص يحافظُ على تماسكه من خلال توارد الإشارات التي تُفهم دلالاتها في المقاطع اللاحقة، فالدغمة المطبوعة على غلاف كتاب «صائغ الكلمات» أشجار الأرز الحمراء، لا تشيرُ إلى أي دور النشر إنما تؤرخ للحظة حاسمة في حياة أدريانا أخت أماديو، التي كانت تفارق الحياة مبكراً لولا تدخل أخيها الطبيب عندما سدت لقمة الطعام ممر تنفسها، بادر أماديو بالجرأة على إجراء عملية جراحية بالسكين بعدما تعافت من تلك التجربة المرعبة، قالت أدريانا أنها تراءت لها أشجار اللوز من النافذة تحول لونها إلى الدم قبل أن يغرز أخوها السكين في رقبتها. وهذا التفصيل للعبارة تراه بعدما تمرُ أيام على وجود البروفيسور في لشبونة، كما لا يتم فهم سبب وقوف عقارب الساعة الحائطية في الساعة السادسة وثلاث وعشرين دقيقة في المنزل الأزرق، الذي تقيمُ فيه أدريانا، إلا حين تخبر الأخيرة ضيفها بأن أماديو قد مات في هذا التوقيت، ومنذ تلك اللحظة لم يتحرك الزمن. ولا نعرف سبب الخلاف بين أماديو وجورج، رغم الصداقة الحميمة بينهما، بدون مداخلة أدريانا بهذا الشأن إذ ما يدق الأسفين بين الصديقين هو موقفهما المتباين حول استيفانيا إسبيونسا التي عرفت بحدة ذكائها بين المقاومين لنظام سالازار، وهذا الاسم يدفع بالمتلقي لتذكر ما قام به آماديو من إيواء لويس موندز، الذي عرف بجزار لشبونة، ومن ثُمَّ انضمامه للمقاومين كفارة لهذا الموقف الذي أثار ضده حنق المواطنين. وفي السياق ذاته تتوارد الإشارات إلى بعض الأحداث التاريخية، اغتيال أمبرتو دالغادو المعارض للنظام الحاكم كما يومئ الراوي إلى معتقل تارافال السيئ الصيت، إذ يُمثلُ يوحنا إيسا المقيم في دار العجزة شاهداً على وحشية التعذيب في عهد سالازار.
ما يجبُ قوله عن هذا المُنجز الملحمي أنه يفرضُ مناخاً مُختلفاً على القارئ ولا يصحُ اختزاله إلى بنية واحدة، بل ينفتحُ شراعُ النص على بنيات مُتعددة، وذلك ما يجعلهُ عملاً مميزاً ويحتاجُ من يمتهنُ كتابة الرواية إلى قراءة «قطار الليل إلى لشبونة» لتعمق في أبعاد أسلوب التكرار والسياقات التي تتطلبُ توظيفه وفهم جماليات استثمار تقنية الحلم وإيجاد علاقات تناصية مع نصوص أخرى.
٭ كاتب من العراق