صرخت حنجرة القطار صرخة مجنونة، وأعتقت صافرة مسجونة في تمام الساعة السادسة مساءً في إشارة إلى مغادرة القطار محطة القامشلي، غادر القطار بقاطرةٍ مُتعبة تجرّ خلفها عربات مُتعبة وركابا متعبين، غادر مودّعاً الجواميس التي تنظر إليه والغارقة حتى نصفها في نهر الجقجق المُشبع بالنفايات، سار مقهقهاً بعجلاته الكثيرة وهي تسير على القضيبين الحديديين للسّكة، مُحدثاً طقطقة منتظمة عند كل نقطة وصل بين القضبان، صاح بصوته الغليظ مُعلناً الوصول إلى مداخل الحسكة ـ المدينة البائسة والمتواطئة أبداً مع الغُبار، وكأنها في كل موجة غبار تمرّ بضواحي المدينة تستدرج تلك الموجة بفخاخها، بدون أيّ إخفاق وبدون الاستئذان من نهر الخابور، ليحلّ الغُبار ضيّفاً غير مرحب به على سكانها كصيادٍ بارع في اصطياد طريدته، مُتغلباً على الاستسلام والفشل، هجر المدينة باتجاه الصحراء الواسعة، وهو يتفنّن في انعطافاته المتكررة على القضبان الحديدية التي تحدد مساره، والتي تقوده إلى عبور العواصف الرميلة التي تصادفه وشقّها إلى نصفين، بعد أن تختنق عرباته بالرمال، ولكن لا يسعف رئات العربات من الاختناق إلّا نهر الفرات المارّ من دير الزور، لتتنفس رئات العربات هواءً رطباً، ويطلق القطار صفيراً مليئاً بالسعادة وهو يتغلغل في أراضي دير الزور – المدينة المعلّقة كجسرها المعلّق فوق نهر الفرات خشية الغرق في النهر فبقي معلّقاً بين طرفيّ المدينة، يسير القطار مرحاً بين القُرى المبعثرة على طرفيّ الخط الحديدي، ليتفاجأ بأن نهر الفرات يرافقه في الطريق جهة الشرق، وكأنهما يطاردان بعضهما بعضا، أو يتسابقان في الوصول إلى مدينة الرقة ـ المدينة المسترخية على الكتف الشرقيّ لنهر الفرات، فيطلق العنان لصافرته ليوقظ المدينة الغارقة في النوم، ولكن سرعان ما يغادر المدينة قبل أن تستيقظ، ليهاجر غرباً باتجاه حلب ـ المدينة المزدحمة بسكانها، التي يفشل النوم في اصطيادها لتبقى يقظة بدون استرخاء، يواصل القطار زئيراً مستمراً بدون انقطاع، لتستقبله قلعة حلب الجالسة على ظهر الهضبة وتهرول رائحة الحناء الواردة من أسواق حلب العتيقة، حافيةً إلى نقطة الوقوف لتملأ العربات المُتعبة طيّباً، فتتنفس الحناء لتنتعش رئات العربات المُشبعة بالرائحة، يواكب القطار انحناءاته ويرتحل جنوباً، بعد أن يقذف صفير المسير قاصداً مدينة حماة الوجهة المقبلة بعد الشهباء، يستعجل في سيره ويتمهل أحياناً على التناوب هكذا، إلى أن يحرّر صافرة أخرى معلناً الوصل إلى حماة ـ المدينة المستلقية على ظهرها بجوار العاصي النهر المتمرد على قوانين الطبيعة، وأعراف الأنهار ليسير شمالاً في جريانه فسمي بالعاصي، يتابع القطار مسيره جنوباً ويتابع النهر جريانه شمالاً ليلتقيا مصادفة في منتصف الطريق بالقرب من النواعير التي لا تكفّ عن الدوران حول نفسها كمجنونٍ في أوج جنونه، ما أن يلتقيا حتى يفترقا مجدداً كلٌ في وجهته، ليمضي القطار جنوباً منطلقاً إلى حمص ـ المدينة المرحة دائماً والمُطلّة على فتحة حمص التي تُجهد نفسها على مدار السنة في طرد الرياح الباردة باتجاه المدينة لتبقى مرتجفة إلى أبد الآبدين، يواكب القطار مسيره جنوباً مغادراً مدينة حمص وصراخ العجلات يعلو على القضبان الحديدية من مشقّة الطريق الطويل ليرمي القطار بآخر صافرة له لتنتهي حكاية السفر وفي دلالة منه على الوصول إلى دمشق لتبدأ الحكاية من جديد.
٭ كاتب سوري