تربعت الولايات المتحدة الامريكية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية على عرش الصناعة العالمي، كما قال ويليام بوفيليان المحاضر في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، ففي عام 1945 أنتجت ولاية بنسلفانيا الأمريكية وحدها كمية من الفولاذ تفوق إنتاج ألمانيا واليابان مجتمعتين. ولكن مع الدخول للألفية الجديدة خسرت أمريكا الصدارة وعرش الإنتاج الصناعي الوفير، والكفاءة الصناعية. وتجلى ذلك بين عامي 2000 و2010 عندما خسرت الولايات المتحدة ثلث الوظائف في القطاع الصناعي، حيث كان هذا عقدا قاسيا وتحولا صعبا، كما فسر بونفيليان قائلا: ملايين الوظائف فقدت (تم فقدان 6 ملايين وظيفة في القطاع الصناعي في أمريكا).
أنهت كل إدارة رئاسية أمريكية (ديمقراطية أو جمهوية) خلال السبعين عاما الماضية، فترتها بقطاع تصنيع أصغر مما كانت عليه عندما بدأت. في بعض الأحيان، زاد العدد الإجمالي لعمال التصنيع، لكن حصتهم من مجموع الوظائف الإجمالية انخفضت بشكل مطرد، خلال فترة هنري ترومان كانت مساهمة الوظائف في القطاع الصناعي من مجمل الوظائف يفوق الـ +30% وظلت تنخفض حتى وصلت مساهتمها في عهد ترامب إلى 8.5%. كما تضاءلت مساهمة القطاع الصناعي خلال الخمسين سنة الفائتة في الناتج القومي لأمريكا، فقد تقلصت من 27% إلى 12%. بينما مساهمة القطاع الصناعي في الناتج القومي الصيني تصل إلى 39% حاليا.
الاستخدام المتزايد للتكنولوجيا والإنترنت أدى إلى تفاقم عولمة التصنيع ونزوح المصانع للخارج
انخفضت حصة النفقات الاستهلاكية المخصصة للسلع المصنعة في الولايات المتحدة، ففي عام 1945، شكلت النفقات الشخصية على السلع المعمرة 58% من إجمالي الإنفاق. واليوم ينفق المستهلكون أقل من 28% من إنفاقهم على السلع المعمرة. في الواقع، تحسن محتوى وقيمة بعض العناصر مع انخفاض أسعار الإنتاج والبيع: أجهزة الكمبيوتر والكاميرات وأجهزة التلفزيون ومعدات الصوت هي أقل تكلفة بكثير اليوم وتتفوق بشكل كبير على التقنيات والخيارات السابقة. لدينا المزيد ولكن ننفق أقل للحصول عليه. وهذه المعدلات المنخفضة تدعمها أرقام التجارة ففي عام 2015 عانت الولايات المتحدة الأمريكية من عجز وصل إلى 832 مليار دولار في البضائع المصنعة، بينما في عام 2017 وصل مجموع العجز إلى 110 مليارات دولار، متضمنا المنتجات التكنولوجية المتقدمة، وهذا رقم صادم نظرا إلى عدد المنتجات التكنولوجية المتقدمة التي نشأت أصلا، وانطلقت من أمريكا، وكان لهذا الأثر البالغ في التحولات الاجتماعية داخل أمريكا والسياسة الأمريكية العالمية، حيث أن معظم الوظائف التي فقدت كانت للطبقة العاملة (في أسفل السلم الإنتاجي) وهذا أدى إلى قطع الشريان الواصل للطبقة الوسطى الأمريكية، على حد تعبير بونيفليان. كما أثر في الأعراق كافة في المجتمع الأمريكي، حيث عانى الأفارقة والإسبان بشكل أكثر، بصفتهم يمثلون الشريحة الأكبر من الطبقية العاملة، وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أول سياسي يرصد هذه الدراما، ويصف معاناة الطبقة الوسطى، وحسب وصف سوزان بيرغير عالمة سياسة ومؤلفة «صنع في أمريكا»، قام ترامب بحصد الكثير من الأصوات باللعب على وتر الطبقة الوسطى من ديمقراطيين وجمهوريين، حيث إن ترامب ظل يردد أن الوظائف تم اختطافها من الصين، حيث التكلفة المنخفضة للإنتاج. ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية في المرتبة الثانية عالميا في الإنتاج الصناعي، ولم يحدث الانخفاض بين عشية وضحاها، ولكن مما لا شك فيه أنها فقدت هيمنتها العالمية على هذا القطاع الحيوي. فقدت أمريكا الصدارة وتراخت، وهي تستند إلى أمجادها بينما كان الألمان واليابانيون يعيدون بناء اقتصادهم ومصانعهم لتستوعب البطالة العالية في مجتمعاتهم، وبدعم من المال الأمريكي لخطة مارشال. وتم تطوير أنظمة الابتكار التي تركز على التصنيع، ما أدى إلى إنشاء نموذج فرانهوفر Fraunhofer الألماني، الذي تم التباهي به وهو نموذج يربط المصانع بالجامعات لتعمل جنبا إلى جنب، ليقدم إلى الاقتصاد ما يحتاجه وهو الابتكار، الذي يعد أحد أهم العوامل في تحقيق النجاح الصناعي والتجاري بتحقيق القيمة والاستجابة لتطورات السوق في عالم تنافسي.
حدث الركود الأخير في فترة الثمانينيات في فترة حكم الرئيس ريغان، وتسارع انقسام وتدويل التصنيع الأمريكي مع الانهيار المالي الذي شكل ضغطا كبيرا على القطاعات الصناعية. وصعد نموذج أبل Apple الذي كان له تأثير هائل في مستقبل التكنولوجيا والصناعة الأمريكية، فرغم أن أبل أصبحت في بداية الألفية الجديدة الشركة الأعلى قيمة في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها خلقت طريقا أثر بشكل سلبي في القطاع الصناعي، فقد كانت أبل تصمم البرامج والتطبيقات في أمريكا، ولكن يتم تصنيع كل شيء في الصين، ما شجع الصناعات على البدء باتباع نموذج أبل. وهو النموذج الذي يعتمد على التصنيع الخارجي، حيث الأجور منخفضة بينما تبقى الأنشطة القيمة في الولايات المتحدة الأمريكية. واتبعت الصناعات التحويلية أيديولوجية أبل، ما أدى إلى غياب الابتكار الحقيقي داخل الصناعة التحويلية الأمريكية، ومع غياب استراتيجيات ممارسات مبتكرة لتنمية القوى العاملة في مجال التصنيع بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تخطو للخلف. لم تسرق الصين الوظائف من أمريكا بل هاجرت بشكل طوعي ورغم أن الرئيس الأمريكي ترامب حاول تصوير الأمر بأنه سرقة عندما طالب الجميع بإعادة الوظائف إلى أمريكا إلا أن محاولته للتركيز على هذا الموضوع كانت ذات أهداف سياسية أكثر، لكسب أصوات الطبقة العاملة. والصين اليوم تدرك أن أيامها كمنافس منخفض التكلفة باتت معدودة، لذلك بدأت منذ فترة بالتركيزعلى الابتكار في الإنتاج واتباع نموذج فرانهوفر وضخ الاستثمارات الكبيرة في مجال أشباه الموصلات والصناعات التكنولوجية. إن الحل ليس فقط بإعادة الصناعات لأمريكا، ولكن كما طرح بونيفليان السؤال الكبير هو: ما الذي يتوجب على أمريكا فعله في المستقبل لجعل التصنيع الأمريكي أكثر كفاءة وإنتاجية؟ وحزمة الدعم التي أقرها مؤخرا الرئيس بايدن بقيمة 53 مليار دولار (لدعم صناعة الرقائق الأمريكية ويعتبر جزءا من قانون CHIPS الذي تبلغ قيمته 280 مليار دولار) الذي أقرته الحكومة.
إن نظرة الاقتصاديين والخبراء الأمريكيين ساهمت بشكل سلبي أيضا في انخفاض قيمة القطاع الصناعي، وخلقت فجوة في المهارات، حيث إن الخبراء وصانعي السيارات اعتقدوا أن التصنيع ليس مهما حقا، ما أدى إلى خفض التطلعات المهنية للمواطنيين حول القطاع الصناعي، فلا أحد يريد أن يعمل أبناؤه في قطاع كانت الوظائف تفقد فيه باستمرار، حسب رأي بونفليان. وكان تحرير الرئيس كلينتون للأسواق المالية بمثابة الوقود للحرائق التي أشعلها الرئيس ريغان في الثمانينيات بتبني السياسات الليبرالية المالية الجديدة، التي كان لها الأثر السلبي في التصنيع في الولايات المتحدة الأمريكية، ولا ننسى أن الاستخدام المتزايد للتكنولوجيا والإنترنت أدى إلى تفاقم عولمة التصنيع ونزوح المصانع للخارج.
يحاول الرئيس بايدن تجديد قطاع التصنيع المتعثر في الولايات المتحدة الأمريكية، ووقع عددا من المشاريع والقوانين تهدف لتعزيز القطاع، بدءا من تحسين البنية التحتية البالغ قيمتها تريليون دولار، التي ستعزز سلاسل التوريد، إلى برنامج التصنيع الإضافي AM Forward وهو شراكة بين الحكومة والعديد من المصانع الأمريكية لتطوير القطاع الصناعي.
*كاتب مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية