كارلسغوهوـ القدس العربي: بينما كانت زرقة السماء تلملل عن أطرافها بقايا ضوٍء النهار الوديعة، مودعة شمس عشي السابع من هذا الشهر و قد تلحفت في وشاح لونها البنفسجي تهيئا لاحتضان سدول الدجور، كانت أروقة حدائق الملك كارل غارقة في نشوة أصوات بلورية لثلاث مغربيات، مغنيات أبرا، مليكة رياض، حياة الشاوي و مريم الصباح.
كان صدى أصواتهن يموج مع نسمات هواء اللأصيل، ينساب مسكرا، بل ساحرا عبر المساحات الغافية في هدأة المغيب، مثل نفح طيب أت من صوب الشرق يُسيج حدائقالقصر بامتداداتها الخضراءثم يعاود تردده من جديد في رحاب فضاء متحف، هو رمز مدينة كارلسغوهو. هذا البنيان الأسطوري العاتي، الذي آوى أسرا ملكية شتى إبتداء من الملك، كارل الثالث (1679- 1738) الذي أمر بإنشائه سنة 1715 وهي نفس السنة ، التي أنشأ فيها المدينة، والتي تحمل حتى الأن إسم هذا الملك، كارل ـ سروهو،(إستراحة كارل) ليكون أقامته و مقر حكومته، بعد أن أصبح خليفة القيصر و الحاكم المطلق لمقاطعة بادن دورلاخ، الواقعة في أقصى الجنوب الغربي لألمانيا الحالية. لقد كانت هذه المنطقة، بادن دورلاخ، جزء من الأمبراطورية الرومانية المقدسة، التي إمتدت من سنة 1254 إلى 1806 . خلال ثورة مارس سنة 1849 تم طرد دوق منطقة بادن الأكبر ليوبولد مؤقتا من هذا القصر، غيرأن نهاية وظيفته كإقامة ملكية كان سنة 1818 و ذلك بعد عزل أخر ملوكأسرة بادن فريدريش الثاني. ومنذ سنة 1919 أصبح القصر متحفا وطنيا لولاية بادن.
كانت جنبات هذا القصر المتحف تحتضن أصوات النساء الثلاث وعزف بيانو اليابانيةإتسومي كواكتسوو حكيالحكواتي المغربي إدريس الجاي ثم تعيد بعثها و هي تتمازج، تتباين تارة و سابحة بين المقاطع الدرامية و الكوميدية تارةأخرى. كانت تهدي مسامع الجمهور الألماني، الذي حج في زمر كبيرة إلى هذا اللقاء الفني الفريد من نوعه بل غير مسبوق، (ما جعل معه المنظمين يضطرون إلى صرف عدد ليس بالقليل من الوافدين على هذه الامسية ، الذين لميحالفهم الحظ في الحصول على مقعد بين المحظوظين. غير أن ثلة منهم لم تستسلم للامر نهائيا و بقيت مع ذلك من المكان غير بعيد مكتفية بالمتابعة السمعية فقط لهذه الأمسية، التي زاوجت بين حكايات من الف ليلة و ليلةووصلات لكبارالموسيقى الكلاسيكية) نفحات النغم الأتية من زمن أوج الإبداعات الموسيقية و التأليف الغنائية للقرون الماضية. هنا توحدت ثلاث مغنيات و كأنهن أميرات طالعات من بين طيات حكايات ألف ليلة وليلة مع كارمن للفرنسي لجورجس بيتزت و حنين ابن جلدته كلود دبس، مع الأختينالمتحابتين – المتنازعتين للنمساوي ليوهن برامس، مع الروائع الألمانية لفلفكانك أمديوس موتزارت و فليكس مندلزون، و مع أعمال الإيطاليين جيياكومو بوشين و كويسبو فيردي و غيرهم من أعمال عمالقة الموسيقى الكلاسيكية، مثل روبيرت شومان، كياشينو روزيني، غيهارت يوزنهوفن أو ليو ديلبري. كذلك مع نغمات سحر الشرق عبد الصادق شقارة ، شعر الهادي أدهم، و جيل جيلالة.
كان حفل يحفل ظاهره بالتناقصات و كنهه يفشي سر تناسق، تلاقى فيه الشرق و الغرب بسر كالنبوية، فتزاوج الأداء الموسيقي لمغنيات بتاريخ عمل طويل في المشاريع الموسيقية و المسرحية الغنائية و في دور أبرا المدن الألمانية كارلسغوهو، فوبطال و دريسدن وحكواتي رحل بمخيلة الجمهور الحاضر إلى حواضر الشرق من مراكش إلى سمرقد جعل احدى الحاضرات تعبر عن مشاعرها بعد نهاية الحفل قائلة: لقد حملت هذه الأمسية الموسيقية إلى هذا المكان الحافل بأجزاء هامة من تاريخ المانيا إضافة ثرية بالإبداعو حيوية روح الشرق، فقد أتبث هذه الإضافة أنها قادرة على إحياء ديوان لقاء الشرق و الغرب.
كانت المغنيات و هنيبرزن في فساتينهن الكحليات الحمراء سواء مثنى أو ثلاثة أو فرادى مثل حوريات جنان عطر، حملن من خلال أصواتهن الملائكية سر الكلمة المغناة و أودعنها نمنقة تناسق مع الكلمة المحكاة، التي جسدها حكواتي برز في زيه الساحلي الأخضر و في يده دف. كان غنائهن ترجمان أشواق موغلة في غياهب الماضي مشفوعة بمرح طريف ، كن حالمات، سابحات، غارقات في إنسجام فيض اللحظة الإبداعية، يجسدن بالصوت، الحركة و الإشارة تأملات و تخيلات عمالقة المؤلفين الكلاسيكين. يتقمصن الحدث الحكائي الدرامي تارة ، يتحولن إلى بضع منه أو خارجه تارة أخرى، أو معلقات أيضا على الحدث في تسلسل ذوبانه المنساب. فكان ذلك التناوب بين الحكي و الغناء عبارةعن سياحات خيالية ، لا تخلوا من وجدانية، تجد مرتعها بين ساحات الأسواق، القصور و خانات الشرق و بين بلاطات، قاعات و فضاءاتعوالم الموسيقى الكلاسيكية في القرن التاسع عشر. لقد اختزلت المسافات بين الشرق و الغرب عبر مسحة رهافة و إنسجام بعيدا عن التنافر، ما يمنح الشعور بأن العالمين هما مننفس خيوط النسيجالواحد.
كان هذا الحفل الموسيقي – الحكواتي هو الرقم الخمسون في سلسلة حفلات قصر مدينة ( إستراحة الملك كارل) كاراسغوهو، الذي كتبت عنه جريدة، الأخبار الجديدة لولاية بادن بأنهكان رمزا للتبادل الثقافي مع دائرة الثقافة المغربية، حيث لم ينحصر في التبادل فقط ، و إنما نتج عنه حدث معايشة فعلية. حيث التقت التقاليد الفنية الشرقية و الغربية و ليس مجرد عرضها إلى جانب بعضها البعض فقط ، بل أنتج ذلك ثمارا.
فقد صادف هذا الحفل الخمسون لقصر المدينة الإحتفال بالسنة الخمسين للهجرة المغربية في المانيا ،حيث تم بمناسبة هذا الحدث إقامة عدت تظاهرات ثقافية ،إجتماعية و فنية في عدد من مدن ألمانيا مثل دوسادورف، برلينو هنا في مدينة كارسغوهو. و ذلك من قبل جمعيات مغربية ـ المانية مهتمة بالهجرة المغربية وعلى رأسها جمعية شبكة الكفاءات المغربية الألمانية، التي عبرت رئيستها الدكتورة صورية مقيت، في كلمة إفتتاح هذا الحفل عنثمرات لقاء المجتمع الألماني بالهجرة المغاربة و أن من ثمرات الهجرة المغربية هذه الأمسية الفنية
لقد حملهذا المشروع الغنائي الحكواتي إسم: قطرات ندي الشرق الثلاث، و الذي جاء نتيجة فكرة جاءت بها المغنية مليكة رياض سنة2012 إلى مدينة برلين أثناء لقاءها القصير مع الحكواتي الجاي، فكانت إنطلاقة يصفها الصحفي و الإذاعي ينس فين بأنها مشروع يمزج شكل فن الحكي الشرقي مع فن الموسيقى الأوروبية ليتحول هذا المزج إلى شكل تعبير فرجة خفيف، طريف في قاعة مكتضة عن أخرها. لقد كان هذا المزج أسلوبا فنيا لفرجة تتراوح بين حكي غنائي خفيف و عرض بلغة حكي مباشرة، إنه أسلوب و طريقة الحكي ، الذي أقنع الجمهور، فالجاي يضفي علي حكايته حلة خيال جامح و يجعل الشخوص تصبحذات شكل حي، أثناء ذلك يختلط بالجمهور و في لحظة غير مواتية رن هاتف محمول، الذي تم ربطه مع الحكي ببراعة. يقول ينس فين.
كان حضور الحكواتي يجسد أحيانا بعض شخوص حكايته، حيث تصبحالأعمال المغناةدلالة على الأحداث. فيتحول مثلا إلى الأب، الذي يتوجه إليه بأغنية أو مييو بنبينو كارو لجيامو بوتشيني، أو مساء النجوم لدينوسي أو لا أعلم لمن أنتمي لفريدرش هولندس. لقد طال هذا المزج بين اللغات حتي عازفت البيانو اليبانية، التي حين قدمت قطعة روبيرت شومان الكلمة بثلاثة لغات العربية، الفرنسية و الألمانية،نقلتها هي الأخرى باللغة اليابانية، لم يكن من المرجح في القاعةأحد يفهم اليابانية لكن ذلك المزج تركإنطباعا بوحدة لغة الموسيقى.
كذلك تم تحويل حكاية أصل عنصرها ذكورا إلى إناث، حيث تنقذ بنات الشيخ عبد الرحمان الجميلات حياة الأمير جلال، الذي قضت على قافلته عاصفةريح في الصحراء، و حين يقرر الزواج بإحداهن يصبح حائرا أيهن سيتزوج فيترك لهنالإختيار و هنا تقوم مبارزة بين الأخوات الثلاث يحسمنها، برحلة بحث عن غرائب العالم كتحدي أيهن تستحق الزواج من الأمير. ترحل النساء متنكرات في زي التجار إلىحواضر مثل سمرقد، القاهرة و مراكش و بعد غياب سنة تعود كل واحدة منهن باعجوبة معها،تكون سببا في إنقاد حياة الأمير من مرضه القاتل، غير أن الأمير لا يستطيع مرة أخرى إتخاذ قرار أيهن سيتزوج. في هذا المناخ الخرافي تتحلقت الأعمال الكلاسيكية الغنائية حول الحكاية و بذلك تصبح المعنيات جزء لا ينفصل عن سير الحدث الحكائي ، بحيث أبانت المغنيات: عن مهارة و منحن عرضهن دفعات قوية. كان سيكون ذلك غير لطيف، أن يجرؤ أحد ويقول، أي المغنيات أكثر جاذبية، من الأفضل أن يترك ذلك للسيدات أنفسهن، كما كتبت جريدة الأنباء لولاية بادن. و فعلا فقد تم حسم الموقف غنائيا، حتى و إن لم يحسم عمليا، برقة فنية من خلال رائعة بيرسال المشهورة ثنائية القطط، التي تم أدائها ثلاثيا، و هن يصوبن المخالب إلى بعضهن البعض.في النهاية لا أجد كلمة أختم بها أجمل من كلمة ينس فين و هو يكتب: مساء فرجة بأسلوب ذكي، الذي و جد إقبالا لذى الجمهور، و شكل من الجمع الثقافي، الذي يدعو بلا ريب إلى إعادته.