يُحكى أن الغزاة دخلوا قرية، واقتحموا منازلها واغتصبوا نساءها، إلا امرأة منهن خرجت من بيتها تحمل رأس عدوها، قتلته دفاعا عن شرفها، فما كان من بقية النساء إلا أن اجتمعن عليها وقتلنها، حتى لا تتعالى عليهن بشرفها، وحتى لا يُسأَلن لماذا لمْ تقاومن مثلها.
العبرة: هناك من يسعى لقتل الشرف حتى يحيا العار، وهكذا القاعدون المتخاذلون أيضا، يحاربون من تحركوا وتجاوزوا السكون، وقدموا وبذلوا، ويودون لو أنهم يشاركونهم الخمول، حتى لا يظهر عوارهم وتخاذلهم وخنوعهم، ولكن ماذا لو لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا؟
حينئذ يترصدون لهم ليتلقفوا أي هنّة، أو موقف تتنازعه وجهات النظر المختلفة، ثم يقومون بالطنطنة حولها، والنفخ فيها، ليسقطوا الفضيلة. ستبصر عينا القارئ بوضوح ذلك الإسقاط على واقع قطر والمتربصين بها، الذين أرادوا التشويش على سجلها النظيف، من خلال الطرق على مسألة خروج المكتب السياسي لحركة حماس من الدوحة، وسعوا لتعزيز الأقاويل حول تحول السياسة القطرية تجاه القضية الفلسطينية، وتراجع الدور القطري في التعاطي مع القضايا الإقليمية والدولية.
مستويات التحمل ومستويات المواجهة محكومة بظروف سياسية وإقليمية وجغرافية، ومحكومة بشبكة علاقات متداخلة صعبة
دعونا نتذكر ونذكّر بالدور الذي لعبته قطر طيلة السنوات الماضية، إقليميا ودوليا، وهي الدولة الصغيرة في حيزها الجغرافي وعدد سكانها، إلا أنها فاقت في مواقفها المشرفة وأدوارها الحيوية، في جهود السلام والتعاطي مع قضايا الأمة ما لم تقم به دول كان يقال عنها «كبيرة». عندما قيل إن قطر كعبة المضيوم، فلم يكن ذلك دعاية جوفاء، فقطر فتحت أبوابها للأحرار من كل صوب، الذين ضاقت بهم بلادهم، فكانت هي ملاذهم الآمن، وتحملت في سبيل ذلك الكثير من حملات الهجوم. لم تتوان في كل محفل عن إبراز أصالتها وثقافتها العربية والإسلامية، ولم تنسلخ من جلدها إرضاء للغرب، كما فعل كثير من الدول، ويشهد لذلك أحداث ووقائع المونديال الذي استضافته، فلم تنسلخ من هويتها، بل قدمت بيئتها ومجتمعها وثقافتها العربية والإسلامية بشكل واضح وصريح. لعبت دورا حيويا في جهود السلام والقيام بدور الوسيط في العديد من القضايا الإقليمية والدولية، إذ نجحت في الالتزام بسياسة منفتحة متوازنة، وكانت على مستوى جيد من العلاقات غير المنحازة مع الأطراف المتصارعة، ما جعلها مؤهلة للعب دور الوسيط في العديد من الصراعات.. من ذلك الوساطة في صفقة تبادل الأسرى بين أمريكا وطالبان، والوساطة بين جيبوتي وإريتريا، والتوسط لإنهاء أزمة راهبات معلولا، والإفراج عن صحافي أمريكي مختطف في سوريا، والإفراج عن 45 جنديا تابعين لقوات حفظ السلام في سوريا أيضا.
وتعد قطر أبرز الدول، التي احتضنت ودعمت القضية الفلسطينية، بشهادة الأشقاء الفلسطينيين أنفسهم، فقام إعلامها، الذي تُمثل «قناة الجزيرة» رأس حربته، بدور غير مسبوق في تجلية الحقائق حول القضية الفلسطينية، وإبرازها أمام العالم، ووضعها على طاولة الإعلام العالمي، وفق الرواية العربية والإسلامية، وهذا أمر لم يكن موجودا من قبل بهذه السعة والشمول.
وبالإضافة إلى جهودها الإغاثية والإنسانية، التي لا يستطيع أحد إنكارها، مدت قطر يدها لكل الأطراف على الساحة الفلسطينية لرأب الصدع السياسي بين الفصائل الفلسطينية، ولإيجاد متنفس لحركات فلسطينية لها أثرها في الواقع على رأسها حركة حماس. استضافت المكتب السياسي لحركة حماس، بعد أن خرج أعضاؤه من سوريا بسبب موقف الحركة الرافض لتأييد نظام بشار الأسد، الذي يقتل شعبه، ففتحت لهم أبوابها، وعاشوا على أرضها معززين مُكرّمين. ولن ننسى ولن ينسى التاريخ، كيف تعاملت مع جنازة القائد إسماعيل هنية، رحمه الله، حيث قامت القيادة القطرية بدور الأهل والعائلة، وكانوا هم أصحاب الجنازة، وسمحوا بحضور وتحدُّث لفيف من قادة النضال في العالم العربي والإسلامي.
لكن قطر اليوم تواجه حملة شعواء تريد أن تحاسبها على مواقفها، وتريد أن تطفئ مشعلها وآثارها وبصماتها الواضحة في كثير من أماكن الصراع، تواجه ضغوطا بسبب ما فات، وبسبب الحاضر الذي لا تزال فيه متشبثة بتلك الروح العربية الإسلامية الأصيلة، التي تعتبر مصالح قطر جزءا من هذه المصالح العربية والإسلامية لا تنفك عنها.
تواجه خطابا إعلاميا عربية يحرض الغرب عليها، ويحرض الإدارة الأمريكية المقبلة عليها، حسدا من أولئك على ما قدمته ولا تزال على الساحة السياسية الإقليمية والعالمية، وعلى التأثير الذي أحدثته في سنوات، والذي لم تقدمه دول أخرى في عقود. تواجه ضغوطا وتحركات دولية غربية أمريكية، تريد أن تضعها في موقف المدان، وتريد أن تجعلها في مواجهة حالة قانونية، ترغمها على التراجع والتخلي عن مواقفها.
إن كانت قطر قد اضطرت لاستبعاد المكتب السياسي لحماس، تحت وقع الضغوط، فإن هذا لا يقتضي تشويه سجلها الحافل بالدعم للقضية الفلسطينية. ندرك جميعا أن مستويات التحمل ومستويات المواجهة محكومة بظروف سياسية وإقليمية وجغرافية، ومحكومة بشبكة علاقات متداخلة صعبة، وإزاء هذه العوامل لجأت قطر إلى هذا الإجراء للتخلص من بعض الضغوط الإقليمية والدولية. ليس هناك تلازم بين هذا الإجراء والتخلي عن القضية الفلسطينية، وليس معنى خروج سياسيو حماس من الدوحة، أن قطر تخلت عن مسؤوليتها تجاه فلسطين، فالقضية عند قطر تأتي الآن في سياق الاختيارات السياسية، قطعا لن تفك ارتباطها مع القضية الفلسطينية، ولا عملها الإنساني ولا حضورها السياسي في هذا المجال، ربما يكون هناك شكل آخر من إدارة الموقف السياسي، دون أن يكون هناك أي تغيير على جوهر هذا الموقف. قطر لم تصنف حماس ولا غيرها من فصائل المقاومة على أنها منظمات إرهابية، كما فعلت دول عربية أخرى، ولم تلاحق قيادتها، ولم تعتقلهم على أرضها، كما فعلت دول أخرى، ولم تقتل أفرادها كما فعلت دول أخرى، ولم تضيق عليهم الخناق على أرضها، وتجبرهم على رؤى وسياسات تجاه القضية الفلسطينية ينسجم مع التوجهات الدولية.
من المؤسف أن تواجه قطر لغة الشماتة من الأشقاء، ولغة الترصد والتصيد من هؤلاء وكأنها كانت ترتكب جرما يوم سدت الثغرة التي فتحوها، ويوم وقفت الموقف الذي قعدوا عنه، وليس لهم ها هنا إلا قول الحُطيئة الشاعر:
أَقِلّوا عَلَيهِم لا أَبا لِأَبيكُمُ .. مِنَ اللَومِ أَو سُدّوا المَكانَ الَّذي سَدّوا
كان الأحرى بالأشقاء الذين تعنيهم فلسطين، أو يتأثرون بما يجري على أرضها، أن يشكلوا موقفا عربيا موحدا في مواجهة الضغوط التي تُمارس على قطر، وإذا كانوا يريدون أيضا أن تكون القضية الفلسطينية بعيدة عن تجاذب القوى الإقليمية أو الدولية، التي تريد أن تستثمر فيها، فعليهم أن يمدوا اليد لقوى المقاومة، وأن يكونوا حضنها بدلا من توجيه اللوم لقوى المقاومة، أنها استجابت لدول وجهات مدت يدها إليها كإيران والفصائل الموالية لها، فمن هو تحت الموت ومن يواجه القتل والدمار إنما ينتظر كل مساندة من أي اتجاه أتت، وينتظر كل منقذ في أي سبيل كان، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية