قطع النيوكولونيالية المتناثرة

نحو الشرق الأوسط محمّلا بحقيبة دبلوماسية مبعثرة الأوراق، تبدو في ظاهرها صفحة أخرى ضمن مشروع القرن الذي أطلقه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أو ما بات يعرف باتفاقات أبراهام، كانت رحلة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى (دولة) الاحتلال الإسرائيلي، كي ترسم وفق ما جاء على لسان وزير خارجيته، «شرق أوسط جديد لمجابهة تحديات الخطر الإيراني» مع حلفائه الذين أظهروا له استعدادهم للتطبيع في سبيل شرعنة إخفاقاتهم السياسية، في مرحلة يعايش العالم أزمات اقتصادية من شأنها أن تحرّك البنى الاجتماعية نحو التغيير.

حقيبة بايدن… ما من صكوك بيضاء

لعبت الولايات المتحدة دورا محوريا في تأزيم الوضع الإقليمي في أوروبا، إذ بات توغل حلف الناتو تجاه حدود وريث الاتحاد السوفييتي أمرا يصعب التغافل عنه، في وقت تتزايد المخاطر الناجمة عن دعم الغرب والولايات المتحدة لأعداء روسيا، في المقابل لعب تنامي النزعة الإمبريالية لدى روسيا إلى إعادة تشكيل خرائط الهيمنة الغربية التي أصبحت تعرف منعرجا خطيرا وحاسما، تجاه «فعالية أوروبا» ودورها في بسط السّلام العالمي، والحفاظ على ما أنجزته الحضارة الغربية من تطور يشوبه الضعف الأخلاقي والإنساني.
ولعل الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة التي امتدت شرارتها إلى العاصمة البريطانية لتطيح بزعيم الحكومة بوريس جونسون، على خلفية تراكمات سياسية آخرها نزوحه نحو تأجيج الصراع بين المملكة المتحدة وروسيا، تلقي بظلالها الحارة على الشرق الأوسط، والذي امتنع قادته عن اتخاذ موقف حاسم تجاه العدوان الروسي ضد أوكرانيا، ليس على الجانب الاقتصادي فحسب، بل على التحالفات السياسية التي بشّر بها بايدن حليفته إسرائيل، في مسعى منه لاحتواء الانفلات الأمني المتزايد وتقويض التصدعات الناجمة عن تجاوزات «الأنظمة الفْوَيُوكونيالية» من جهة، وصمت الإدارة الأمريكية السابقة عن الأزمة الإنسانية التي تسببت بها حروب المنطقة.
وبالعودة إلى حقيبة بايدن التي على ما يبدو ليس في جعبتها سوى «التطبيع المباشر» مع كيان الاحتلال، تواجه الإدارة الأمريكية تحديات سياسية واقتصادية أكثر إيلاما لقواعدها الانتخابية والحزبية، تتوارى خلف «التحالف العسكري» المزمع عقده بين إسرائيل وبعض الدول العربية، كشركاء محتملين ومفضلين لدى الكيان الصهيوني، بعيدا عن «الالتزام الحضاري» الذي صاغه «المانيفستو الغربي» عن الحرية والديمقراطية.
وفي تقديم الصورة المظلمة التي تهدد المنطقة العربية وتوغل الهلال «الإيراني» بها، تنحصر ملخصات الأوراق التي أقدمت إدارة بايدن على تصديرها في واحدة من أسوأ اللحظات الدولية التي يعيشها العالم، في الحد من تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على الشرق بشأن الغذاء، وإصلاح العلاقات الأمريكية الفلسطينية، وخفض أسعار الغاز وزيادات امدادات البترول، بالتزامن مع انهاء سياسة الصكوك البيضاء والعمل على التوافق السياسي بين السعودية وأمريكا، فحرب اليمن التي توالت عليها «الهدنات الهشة» تطور وضعها الإنساني ينبئ بمجاعة تهدد الملايين من البشر، وما يشاع على أنه هدنة لوقف الحرب ما هو إلا التفاف هش عن «جرائم المرتكبة ضد الإنسانية في اليمن» ومدى التجاوزات الخطيرة لحفاء إيران في المنطقة.

توافقات تكاملية

من المهم الوقوف على زيارة بايدن للشرق الأوسط، والتي تحمل «توافقات تكاملية بين العرب وإسرائيل» فبدل الحرية وحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان، تتسارع الأنظمة العربية والاحتلال الصهيوني بإعلان قابليتهم لإنشاء «حلف ناتو أوسطي» لمواجهة المشروع النووي الإيراني، وتعزيز أمن إسرائيل على حساب الطموح الشعبي وتطلعاته الديمقراطية، في وقت بدأت تتكشف فيه أبشع المجازر التي قام بها الاحتلال إبان حرب 67، ولعل «السلام مقابل الحرب» و»الاقتصاد مقابل الإرهاب» كما زعم رئيس وزراء الاحتلال لابيد، ما هو إلا «إعادة جدولة سياسية في المنطقة» لإخراج الاحتلال الصهيوني من مآزقه الداخلية المهددة لاستمراره، وتفويض صريح لأعتى الديكتاتوريات لبسط المزيد من التصور اللاديمقراطي، لمواجهة الارتدادات الشعبية الرافضة لأشكال التطبيع العربي الصهيوني.
تبدو نبوءة بايدن حول شرق أوسطي موحد ومتكامل أكثر ملاءمة للأنظمة التي لا تملك أدنى التزام أخلاقي مع شعوبها والتي تورطت في سحق الحلم العربي، وتطلعات جماهيره نحو الحرية والعدالة والديمقراطية، والمصير المشترك للشعوب المناهضة لبقايا الاستعمارية الغربية، بيد أنّ الأحداث غير المكتملة التراجيدية فصولها في أوروبا، وصراع الهيمنة دول الشرق الأوسط لم تأخذ بعد «طابعا سيريلانكيا» ما دام العرب يحجون تباعا نحو اتفاقات أبراهام، والعمل على حماية أنفسهم من تهديدات إيران، إذ المقرر من زيارة بايدن عزل روسيا أوسطيا بإنشاء تحالف اقتصادي يحمي الولايات المتحدة من تبعات استمرار الأزمة الأوكرانية، وانقطاع إمدادات الغاز والغذاء العالمي، في حين تبرز المخاوف من اندلاع تحركات شعبية في أوربا والعالم العربي، أكثر استقلالية وتعبيرا عن إرادتها السياسية والاقتصادية، التي ستعجل بالقضاء على الأخ الأكبر الممعن في القتل والتهجير، وبإسقاط أوهام الديمقراطية الغربية وأشياعها الذين نصبوا لها المكامن بثوراتنا العربية والملونة، محققة وعد العودة للمهجرين عن ديارهم والمغيبين.

تعزيز التواجد النيوكولونيالي

مع تفاقم الأزمة الأوكرانية الروسية وأخذها منحى تصاعديا زعزعت تداعياتها استقرار الاقتصاد العالمي، والذي بالكاد نجا من سطوة جائحة كورونا على ارتفاع مستويات نموه، لا يتوقف الغرب تَقدُمهم بريطانيا عن التفاخر بشكل مقزز ومبتذل، يدعو للتساؤل عن رهانات «التبعية الغربية المطلقة» للهيمنة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، ومدى فشل المانيفستو الأوروبي في الانفصال الاقتصادي وعزل سياسته عن توجهات الامبراطورية، إذ إنّ محطات توغل النيوكولونيالية بعد أحداث أيلول/ سبتمبر2001 في العديد من دول آسيا والشرق الأوسط، تحت ذريعة الإرهاب والخطر الصيني لم يثن الغرب تتقدمهم فرنسا بالمضي نحو سنّ قوانين ضد «فرص الاندماج الحضاري للمسلمين» عبر تشريعات عنصرية توّجتها النزعة الماكرونية الفاشية بمشروع الانعزالية، لتطال الحرب على الإرهاب العابر للقارات، الأقليات المسلمة والمهاجرين غير النظامين في دول أوروبا، ما أفقد الغرب «حضوره الإنساني» كاشفا زيف قيمه الحضارية، فهل استطاع الاجتياح الروسي لأوكرانيا أن يعرّي الغرب مجردا إيّاه من زيف الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ أم أنّ المتغيّرات الدولية ما هي إلا نتاج تصارع القوى الإمبريالية وفي مقدمتهم أمريكا وروسيا، ضد الآخر الذي يفقد مع مرور الوقت بإغلاق روسيا إمدادات الغاز نحوه، عقلانيته وسبقه الديمقراطي.
بات الأوروبي كقطع الشطرنج بيد لورنس الإمبراطورية الأمريكية، فاتحة أمامه المزيد من الأزمات الاقتصادية والسياسية، والمهددة لاستقرار بنيته الاجتماعية والحضارية، فإلى جانب الملايين المهاجرين الأوكرانيين نحو أوروبا، تتجهز الحكومة البريطانية لترحيل المئات من المهاجرين غير النظاميين «قسرا» من ذوي الأصول الشرقية والأفريقية نحو رواندا، في عملية صنفت على أنّها «انهزامية لاأخلاقية» أمام تصاعد «الشعبوية النظامية» وأخذها منعرجات حاسمة في السياسات الداخلية للغرب.
قطع الإمبراطورية المتناثرة عبر خرائط الهيمنة الناعمة وحروب الوكالة، تتجه الآن صوب الشرق الأوسط كي يحل السّلام بدل الحرب، والتطبيع مقابل الاعتراف، فهوس الولايات المتحدة بجعل إسرائيل شريكا فاعلا في الجغرافيا العربية ضد «التوغل الإيراني» قد أفقد مبادرات السّلام العربية واتفاقات السّلطة الفلسطينية «جدواها السياسية» بتأجيل «الحل النهائي» للقضية الفلسطينية بتصفية الاستعمار الصهيوني، وفي سبيل اللابديل السياسي للفراغ الحاصل بعد موجات الربيع العربي، يسعى الأمريكيون على خطى لورنس العرب للاحتفاء «بالسلام العربي/الإسرائيلي» وفق الحلول الأمنية، لعسكرة الشرق الأوسط الجديد بقيادة الأخ الأكبر ضد الطموح الإيراني، عبر مراوغة الحلفاء العرب في ملفات ثقيلة كحرب اليمن والجرائم المترتبة عنها بهدنات هشة، سرعان ما تخرقها المسيرات نحو خاصرة إسرائيل.

خيبات الأمل الأوروبي

نجح الأمريكيون في دفع الغرب نحو صدام يبدو مباشرا مع روسيا، في حرب ستطوي صفحة أخرى من سجل «خيبات الأمل الأوروبي» عقب انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، ولترتفع واردات أوروبا «النقطة الساخنة الجديدة» من السلاح الأمريكي إلى 19 في المئة، يليها الشرق الأوسط في المرتبة الثانية كأحد أهم مستقطبي الأسلحة، وعلى ما يبدو في ظل زيارة بايدن، فإنّ الهوس بإيجاد اتفاقات دائمة للقضايا المصيرية في المنطقة، كالملف النووي الإيراني، والقضية الفلسطينية، لا تشكل ورقة تفاوضية للإدارة الأمريكية لاصطفافها المطلق مع إسرائيل، بقدر ما ستمنح الكيان الصهيوني فضـاء عربيا محفزا على التصعيد والاستيطان والعنف.

كاتب من الجزائر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية