تساءلت مرارا لماذا لا ننتج نظريات، ليس فقط في الأدب، ولكن في كل الاختصاصات العلمية؟ تتعدد الأجوبة عن هذا السؤال المحرج لثقافتنا المعاصرة. فمع غياب البنيات التحتية الملائمة، وغياب دعم البحث العلمي، وعدم الإيمان بالعلم، خاصة في بعض الحقول مثل الاجتماعيات والإنسانيات، وانعدام عقلية العمل الجماعي، يمكننا أن نتحدث عن بعض الإكراهات الوازنة، التي تحول دون تحقيق المشاركة في تطوير النظريات بله إنتاجها. وما دمنا عاجزين عن إنتاج نظريات فنحن، في الوقت نفسه، عاجزون عن الإنتاج في أي صناعة كيفما كان نوعها.
نحمِّل غياب سياسة تعليمية وتربوية ملائمة، السبب الأكبر في هذا الغياب أو التغييب. فتعليمنا العربي من الروض إلى العالي ضد الإبداع، وهو صنو الإنتاج، بل هو عينه. إن تعليما ينهض على أساس استرجاع المعلومة بهدف النجاح، لا يمكن أن يعلم الإبداع، ولا كيف نمارس التفكير. وبما أن قياس الذكاء ومعه النجاح مبني على القدرة على إعادة ما قيل لا يمكن أن يسهم ذلك في تنمية ملكة امتلاك مهارات التجريد والمقارنة والاستدلال.
إن تعليمنا يشكل كائنات لا تسعى إلى بناء مقومات الشخصية المستقلة عن الآخرين. فمن أين لتكوين يخلق المتشابهات أن يكون محفزا على الإبداع والخلق والتفكير؟ إننا كما لا ننتج نظريات في الأدب أو الفكر، لا ننتج في أي صناعة من الصناعات المعاصرة، إذا كانت مثل هذه الحقيقة لا تفرض علينا التساؤل بصددها في بدايات تشكل الدول العربية الحديثة، نجد أنفسنا اليوم، أي بعد مرور أكثر من نصف قرن على كل الاستقلالات السياسية، أمام ضرورة طرح السؤال. لا ننتج أي سيارة، ولكن مع ذلك نجد كل شوارع مدننا وقرانا تزدحم بها. لا ننتج أي نظرية أدبية، على سبيل المثال، ومع ذلك نجد كل كتبنا ودراساتنا «ّالعلمية» تزخر بالنظريات والمصطلحات الأدبية المعاصرة؟ إننا نكون المهندس ولا نوفر له التكوين الملائم، ولا البنيات التحتية التي تجعله يبدع، وفي أحسن الأحوال نوفر قاعة للتكوين المهني لمحاربة بطالة الشباب، يتحدث الكل عن التكوين المهني، ولا أحد يعنى بالبحث العلمي؟ يمكن قول الشيء نفسه عن الأدب، نكوّن باحثين فيه، لكن بدون خلفية معرفية عميقة، وبدون توفير شروط الإبداع الفكري، فيكونون مدرسين يشتغلون أحيانا بمواد أساتذتهم، رغم تبدل الزمان؟
إن تعليما ينهض على أساس استرجاع المعلومة بهدف النجاح، لا يمكن أن يعلم الإبداع، ولا كيف نمارس التفكير. وبما أن قياس الذكاء ومعه النجاح مبني على القدرة على إعادة ما قيل لا يمكن أن يسهم ذلك في تنمية ملكة امتلاك مهارات التجريد والمقارنة والاستدلال.
صناعة السيارة تستدعي صناعة قطع غيارها، والأدوات التي تلائمها في حالتي الحل والعقد. السيارة واحدة. لكن شتان بين السيارة الميكانيكية والإلكترونية مثلا. إنهما معا تقومان بالوظيفة نفسها، لكن قطع غيار هذه مختلفة عن تلك وكذلك أدواتها. بمعنى أن إنتاج سيارة جديدة يستدعي قطع غيار جديدة، وعلبة أدوات جديدة أيضا. قد تكون قطع الغيار هذه متشابهة من حيث وظيفتها، لكن تصميمها وبنيتها يخضعان لتطوير يجعلها مباينة لتلك القديمة. أفضل هذه الاستعارة من صناعة السيارة لمقابلتها بصناعة الأفكار والنظريات والمصطلحات. وقديما وازن العرب القدامى بين بعض الصنائع المادية والأدبية. يمكن قول الشيء نفسه عن النظريات ومصطلحاتها. قد نوظف المفاهيم والمصطلحات عينها، لكن حين لا نعرف جيدا ما وضعت له نتعامل معها كقطع غيار صالحة لكل شيء. وهنا يكمن الفرق بين المبدع والمتحذلق. يوظف المبدع والمنتج لكل قطعة غيار ما يناسبها حسب نوع السيارة وبالأدوات التي تلائمها. أما المتحذلق فيستعمل أدوات محدودة لكل شيء، وبدون التمييز بين التطورات التي طرأت على المجال الذي يشتغل به.
إن صناعة السيارة مثل أي صناعة، سواء كانت مادية أو نظرية، وسواء ارتبطت بالعلوم الحقة أو الاجتماعية والإنسانية. إنها جميعا تؤوب إلى دماغ واحد، وطريقة مشتركة في التصميم والتركيب. والذهن الذي لا ينتج في أي صناعة لا يمكنه أن يضع نظرية في السياسة أو الاجتماع أو الدين أو الأدب.
تزدحم شوارعنا بالسيارات التي لا ننتج، كما أن كتبنا ودراساتنا تتذيل بهوامش تتصل بنظريات ومصطلحات لا نبدعها، وكلما برزت موجة جديدة من هذه الإنتاجات، نجدنا نتهافت على اقتنائها للتباهي، والإسراع في توظيفها لنيل قصب السبق. إنها ذهنية مشتركة. أنى لنا أن نجدد في الفكر السياسي والديني والاجتماعي والأدبي ونحن نشتغل بذهنية المرقّع والمتحذلق لا بعقلية العالم أو الصانع. إننا لا نتتج النظريات ولا نعمل على فهم خلفياتها، ولا نضعها في سياقاتها، ولا في تطورها التاريخي. كما أننا لا نبذل أي مجهود لمعرفة علاقة بعضها ببعض، أو ما يميز عن غيرها، ولا عن حدودها. إنها متشابهة. كل النظريات مثل سيارة نقتنيها لنقودها. قد نميز بينها حسب الأسماء، والعلامات. لكنها تظل سيارة لا يعرف من سيصلحها إذا تعطلت عندنا إلا بحسب المعرفة التي توفرت لديه من خلال طراز سابق من السيارات التقليدية. يمكن قول الشيء نفسه عن باحثينا. إنها ذهنية المتحذلق. توظف المصطلحات التي تكونت في نظريات متعددة على أنها متشابهة. فتجد الدارس يتعامل معها كعلبة أدوات محدودة، وصالحة لكل شيء. فلا نحصل في النهاية سوى على التلفيق. وبذلك ينعدم الإنتاج.
٭ كاتب مغربي
نعم استاذنا يقطين لقد أصبتَ…و كذلك حال السياسة و انظمة الحكم في بلداننا …اجترار للبالي في قالب مستورد فلا هو مُتأصل ولا هو معاصر …
هذا من جهة ، و أظن من جهة أخرى أن العالم بأسره في مجال السياسة و الاقتصاد و البيئة بهذا القدر أو ذاك يعاني من فكر علبة الأدوات المحدودة …