قلعة طرابلس هي من أضخم وأقدم القلاع التاريخية في لبنان، ومعلم أثري جمع بين زاوياه أربع حضارات.
تقع في مدينة طرابلس شمال لبنان، التي تبعد عن العاصمة بيروت حوالي 90 كيلومتراً، وعن الحدود السورية قرابة 40 كيلومتراً.
والقلعة هي إحدى أهم المواقع الأثرية في طرابلس، وجزء من سلسلة حصونٍ وأبراجٍ كانت قديماً تُحيط بالقبّة، والبلدة والميناء، وتختزل القلعة سائر الأحداث التي عاصرتها خلال مسيرتها وتاريخها القديم، ويمثل صمود معالمها إلى يومنا هذا دليلاً دامغاً على براعة معماريها من جهة، وقدرتها على الصمود في وجه التحديات الجسام التي عايشتها من جهة ثانية.
عرفت هذه القلعة باسم قلعة سان جيل أو صنجيل نسبة إلى الكونت الصليبي ريمون دي سان جيل، واشتهرت بمقاييسها الضّخمة القائمة على رأس رابية تُشرف على كلّ أنحاء مدينة طرابلس وتطل على نهر قاديشا.
أحرقها المماليك
بنى الصّليبّيون قلعة طرابلس في أوائل القرن الثاني عشر خلال حصار المدينة، واتّخذوها مركزًا لحملاتهم العسكرية. وقد أحرق المماليك هذه القلعة عام 1289م ثم أعيد بناؤها بين 1307 و1308 على عهد الأمير أسندمير كورجي، حاكم المدينة آنذاك، ورُمِّمَت عام 1521م في عهد السّلطان سليمان القانوني. وفي أواخر الحكم العثماني حَوَّلها الأتراك إلى سجنٍ.
وقلعة طرابلس هي حصن عربي الأساس والموقع، باعتبار أن القائد الصحابي سفيان بن مجيب الازدي هو الذي أسس أول حصن عربي في الموقع الذي تقوم عليه القلعة اليوم ما بين نهر أبو علي في محلة السويقة وتلة أبي سمراء مقابل قبة النصر في طرابلس، وذلك حين أتى لحصار طرابلس في أوائل عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان حوالي سنة 25 للهجرة.
وتقول المصادر التاريخية إن هذا الحصن عرف باسم «حصن سفيان» وذكره المحدث الطرابلسي أبو مطيع يحيى إبن معاوية في القرن الثاني الهجري باسم حصن «كفر قدح» ولم يوضح سبب هذه التسمية في العصر العباسي.
بعد ذلك وفي العهد الفاطمي بنى أمير طرابلس جلال الملك بن عمار سنة 472 هجرية مسجداً في موقع الحصن، وهو لا يزال ظاهرا حتى الآن في وسط الحصن، ولا يزال المحراب ظاهرا، وحين جاء الصليبيون بقيادة ريمون الصنجيلي وحاصروا طرابلس، أقاموا حصناً في الموقع نفسه، وعملوا على تحويل الجامع إلى كنيسة، وذلك سنة 497 هجرية.
الترميم والتحصين
وتضيف المعلومات التاريخية، أنه بعد تحرير طرابلس من الصليبيين على يد السلطان المنصور قلاوون، قام نائب السلطنة أمير طرابلس أفندمر الكرجي بترميم الحصن وتوسيعه، وتحويله إلى قلعة كبيرة وذلك حسب رواية المؤرخ المقريزي سنة 707 هجرية 1307 ميلادية، وفي العهد العثماني أضيف إلى القلعة البرج الشمالي والبوابة الرئيسية التي ما تزال تحمل تاريخ التوسعة في عهد السلطان سليمان القانوني سنة 927 هجرية.
وقد اشتهرت قلعة طرابلس بمقاييسها الضّخمة القائمة على رأس تلة، وتقسم إلى قسمين، داخلي وخارجي: الخارجي مؤلف من خندق وسلسلة أبراج وحجب، والخندق محفور في الصخر عند طرفه الغربي، وتتألّف سلسلة الأبراج والحجب من خمسة وعشرين برجا وحاجبا، ويحتوي الجزء الداخلي على متاحف تحتوي آثاراً قيمة تحكي تاريخ هذه المدينة العريقة.
حجارة القلعة رملية وناعمة، ولكل حجر قصة ورواية، والأدراج أعيد تدشينها بفوضى «دون رعاية لتراثها» لتجد حجراً يحمل النقوش «مداس» للأقدام.
وتنقسم هذه الحجارة من حيث الحجم إلى نوعين: الأول بطول 90 سم وارتفاع 40 سم، والثاني بطول 25 سم وارتفاع 18 سم. أما العلامات المنقوشة على الحجارة الضخمة، فهي علامات خصائص صليبية. الدخول إلى القلعة يكون عبر باب خشبي ضخم، يطل على ممر ثم على مجموعة من الغرف والأروقة والأدراج المشيدة بشكل عشوائي مثير للعجب، وفي آخر الساحة تقبع النواويس، إضافة إلى متحف للآثار القديمة. تباين معماري في القلعة حجارة أكثر حداثة من المجموعتين السابقتين، منتشرة في كل أرجائها، وخصوصاً في أبراجها الغربية، كما أن هناك اختلافاً كبيراً في طريقة نحتها، ويمكن تقسيم الحجارة إلى قسمين رئيسيين: قسم ينحرف نحته إلى اليمين أو إلى اليسار، وقسم منحوت عمودياً من الأعلى إلى الأسفل، أو أفقياً من اليمين إلى اليسار.
خندق وسلسلة أبراج وحجب
وقلعة طرابلس، مستطيلة الشكل ومتعددة الأضلاع، يبلغ طولها من مدخلها الشمالي إلى أقصى طرفها الجنوبي 136 متراً، وبعرض متوسطي يصل إلى 70 متراً، أما استحكاماتها فقسمان: داخلي وخارجي. والخارجي مؤلف من خندق وسلسلة أبراج وحجب، والخندق محفور في الصخر عند طرفه الغربي، وهو فوق سطح الأرض عند الطرف الآخر، ويمتد من وجه البرج الرابع والعشرين إلى وجه البرج الرابع، فيتجاوز بذلك طوله السبعين متراً، وعرضه بمعدل خمسة أمتار، أما عمقه فيتراوح بين المترين والثلاثة أمتار. الأعمدة المرتبة تتألف سلسلة الأبراج والحجب من 25 برجاً وحاجباً.
الخروج من باب القلعة الكبير ومحاولة الالتفاف حول هذه السلسلة، هناك إلى اليمين واليسار برجين جددهما السلطان سليمان القانوني، وهما لا يتجاوزان الخمسة أمتار ارتفاعاً. وفي أعلى هذين البرجين يمكن رؤية أربع فتحات وعدداً وافراً من المكاحل، وبعض الشرفات الحربية، كذلك يمكن رؤية أطراف بعض الاعمدة القديمة التي استعملت لربط جدران هذين البرجين وتقويتهما، وهي أعمدة مرتبة ترتيباً هندسياً، سبعة في البرج الاول، وستة في الثاني. وإلى اليسار نحو التحصينات الخارجية الغربية والجنوبية، هناك مركبة من سبعة أبراج وأربعة حجب، في أعلاها عشر فتحات للمدافع وحوالي 10 مزاغل. أما سماكة هذه الأبراج والحجب فتتراوح بين الـ 6 و 7 أمتار.
في قلعة طرابلس عدا بابها الكبير في البرج الأول، بابان صغيران يكادان يكونان خفيين: الواحد في أسفل البرج الثاني عشر، والآخر في قاعدة البرج الثاني والعشرين، ويقال إن هناك مجموعة سراديب سرية وأقبية محصنة، تقود المرء من داخل القلعة إلى خارجها وقد تم تجديد برجي القلعة من قبل السلطان العثماني سليمان القانوني في بدايات القرن السادس عشر الميلادي.
متحف طرابلس
ونظرا لأهمية القلعة أطلقت بلدية طرابلس، بالتعاون مع المديرية العامة للآثار في لبنان وبدعم من مؤسسات دولية معنية، أعمال الترميم لأجزاء في القلعة التي تشمل رصف الممرات، وتأهيل القاعات والأقسام المتصدعة، وتنظيمها داخلياً، وتنظيف حجارتها، إضافة إلى إقامة متحف طرابلس الذي من المفترض ان يضم الكثير من الآثار التي ما تزال موجودة في القلعة والتي عثرت عليها بلدية طرابلس خلال عملها في المدينة.
ويقول رئيس بلدية طرابلس المهندس رشيد جمالي في اتصال مع «القدس العربي» إن مشروع إعادة تأهيل القلعة الأثرية هو أحد أهم المشاريع في المدينة، خصوصاً أن ذلك سيساهم بشكل مباشر في تحريك عجلة السياحة باتجاه واحد من أهم المعالم الأثرية، إضافة إلى الإقبال الذي سيشهده المتحف الذي سيقام في داخل القلعة وهو المتحف الأول من نوعه في المدينة، كما سيمكن المشروع من استخدام قاعات القلعة لإقامة النشاطات الثقافية والفنية والاحتفالات الفلكلورية.
بدوره، يؤكد مؤرخ طرابلس الدكتور عمر عبد السلام تدمري على أن ترميم وتأهيل قلعة طرابلس أمر بالغ الأهمية، لافتا إلى أن البلدية والشخصيات والمؤسسات المعنية في المدينة طالبت منذ زمن بعيد بترميمها وإعادة تأهيلها لاستقبال الزائرين من مواطنين وسياح أجانب، خصوصاً أنها استهدفت خلال الحرب بقذائف صاروخية عدة، وأصابها تخريب كبير في حجراتها وممراتها وقاعاتها الداخلية، إضافة إلى سرقة الآثار التي كانت تضمها، حيث كانت مهيأة لاقامة متحف كبير.
ولفت الدكتور تدمري إلى أهمية أن يراعي المتعهد وضع القلعة وحجارتها الأثرية التي تحتاج إلى ترميم من نوع خاص كي لا تفقد قيمتها التاريخية والأثرية، كذلك طالبنا باعادة بناء الجامع العثماني في القلعة.
قلعة طرابلس مقصداً لجميع الرحالة الذين زاروا مدينة طرابلس شمال لبنان، وشهدت خلال السنوات الماضية، عمليات تنظيف لجدرانها وحجارتها، وتمت إنارتها بشكل فني، ودخلت في عملية إعادة ترميم وتأهيل شاملة كان لها انعكاسات إيجابية على تنشيط الحركة السياحية في المدينة، خصوصاً أن ترميم القلعة ترافق مع سلسلة مشاريع صغيرة ضمن مشروع الإرث الثقافي.
قلعة طرابلس «سر» يغني المدينة تراثاً وآثاراً، فإن كان ما ظهر وهو القليل اختصر أربع حضارات، لكن أسرار القلعة المخفية أكثر ممّا تظهره، والروايات تتنوع فما بين حكايات الأجداد.