تطرح مسألة الكتابة بوصفها انشغالا حيويا يمس حيواتنا في الجوهر. فهي رابطنا الروحي مع أنفسنا ومع ما يحيط بنا. ليست كمالية من الكماليات التي تأتي مثل الكرزة على الكعكة. لا ندري حقيقة كيف كان سيكون عالمنا بلا كتابة؟ أي عالم بلا تخييل ولا خروج من دائرة اليومي القلق والجامد. عالم التسطيحات الكبرى واللامعنى الذي نصنعه بإخفاقاتنا ويأسنا.
في الكتابة، كما في بقية الفنون الأخرى، تساؤلات كثيرة لا تفضي دومًا إلى أجوبة مقنعة، وسحر خاصّ، لا ندرك مصدره بدقّة إلّا مع الزمن، مع ذلك نستمرّ في الكتابة، حتى لو لم يسمعنا الآخرون، لأنّ في دواخلنا شيئًا ما يرفض أنْ يستسلم للسهولة. هل نكتب لأنّنا نريد أن نعبِّر عمّا فينا من حرائق، وأن نوصل صوتًا نشعر بأنّ هناك، في مكان ما، مَن يهمّه أمره؟ أم نكتب لأنّنا نريد أن نخرج من ظلمة الجماعة لنتفرّد، ونصبح شخصية خارج دائرة العام؟ هل نكتب لأنّنا نملك طاقة اضافية لا نريدها أنْ تضيع، وندرك بالقلب والحواس العميقة أنّ لها مستقرًّا في زاوية ما قد تكون اللغة مثلًا، ونتقاسمها بالقصد أو بالمصادفة، مع مَن يريد ذلك؟ ربما نكتب أيضًا لأنّنا بكلّ بساطة لا نريد أن نتلاشى في الآخرين لدرجة ألّا نصبح، ولا نُرى.
أسئلة تظلّ معلّقة إلى أن نصل إلى إهمالها مع الوقت، أو تخزينها، وتصبح الكتابة في النهاية هي عنواننا الأوحد، وندخل فجأة في أسئلة أخرى أشدّ كثافة وعنفًا أحيانًا. مثلًا كيف نصل إلى أعالي قمم جبل أوليموبس لنسرق النار المقدّسة؟ ما الذي يميّز كاتبًا عن آخر؟ ما هي الآلية التي تجعل هذا يصل بسرعة البرق بموهبة متوسّطة، وآخر لا يصل أبدًا، أو يصل ببطء؟ هل هو منطق الكتابة نفسها وآلياتها وظلمها المبطّن؟ الموضوعات؟ سلطان الإبداع وقانونه؟ كثرة الاعترافات الدولية والجوائز التي تنام على الحيطان، أو في الخزانات التي احتوت كلّ جهدنا على مدار عمر بكامله؟ أم الكتابة شيء آخر يكاد يكون زئبقيّ الحركة، لا يمكن تأطيره بسهولة؟
ربما كانت الكتابة ذلك الشيء الآخر الذي لا يمكن لمسه ولا تسميته، ولا أعتقد أنّ شيئًا ما يضاهيه بالنسبة للكاتب، لأنّه هويته الأساسية، مثلما للعالِم هويته التي ترفعه إلى أعلى المقامات، وهي اكتشافاته واختراعاته ومنجزه العلمي، هوية الكاتب هي وطنه اللغوي، وطن بسعة الحلم، كلما وُضِعت له حدود وأسوار وأسلاك شائكة، هدمها، وقطَّعها، وعبرها، حاملًا في جسده وذاكرته جراحات زمنه الكثيرة التي حتى عندما تنغلق، تترك وراءها الندوب ظاهرة. وطن الكتابة ليس هو الوطن المشترك الذي يتقاسمه مع الجميع، لأنّ به تربة الأجداد ورفاتهم وحكاياتهم القديمة التي ما تزال تسري في الذاكرة الجمعية. هذا الوطن ملكية عامّة ليس لأحد حقّ احتكارها وحرمان الآخرين منها، مهما كان مقامه أو رتبته. التربة للميت والحيّ، الأمر يتعلّق ههنا بوطن آخر، لا يمكن أن نعثر عليه إلّا عند واحد وحيد، هو من يشكّله، ويمنحه الحياة والاستمرارية حتى حينما يدقّ ناقوس الموت على أبوابه، حتى حينما ييأس، ويحلم بإضرام النيران في كلّ شيء ورقي.
طبعًا للوطن العام مكانة حيّة ومهمّة في وجدان الكاتب، لكن مع الزمن والخبرة يغتني الوطن المادّي، بوطن آخر، هو وطن الكتابة الذي تحدّثت عنه، الوطن الأوسع والأكثر شمولًا.
لا جدال في أنّ الكاتب في النهاية هو ابن هذه الأرض بمآسيها وإنسانيتها أيضًا، فهو من يقوم بتشكيلها إبداعيًّا وفنّيًّا داخل مساحة الوطن اللغوي، ويختزل مسافاتها في ظلّ إعلام متحرّك ونشيط، ووسائل اتصال حيّة تمنحه دفعًا قويًّا لم يكن متوفّرًا من قبل. ولا غرابة لو قلت إنّ لمسة واحدة ترمي الكاتب في أية بقعة يشاء، ووفق ما يشاء.
يحصل هذا على أرض ضاقت، وصغرت حتى أصبح بالإمكان عبورها في دقائق فقط، وربما في ثوان، لذلك فإنّ كلّ كاتب في عصرنا لم يعد ملكية ضيقة لتربة، أو لحدود أو لجاذبية عرقية أو إثنية ضيقة، فهو صياغة كونية، أو فلنقل إنّه عبارة عن صناعة ثقافية متعدّدة يتداخل فيها المحلّي الخاصّ والضيق بالعالمي المفتوح على الإنسان. الكاتب حالة اتساع يمكن ان تصل أحلامها إلى اللانهاية، مخترقة كل الحدود التي صنعتها البشرية. وإذا أردنا ان نعرف الكتابة ببساطة، فهي اللامحدود والمطلق. وكلما وضعت لنفسها حدودا ماتت. الحرية هي جوهرها ومآلها. كلما غابت الحرية غاب الإنسان في أثرها. نكتب لأننا نريد للحياة أن تستمر، وأن تظل الحرية رهانها الأبدي.