قليل من أخلاقية الكتابة لا يضر

فيما يفترض أن يكون عرضاً لكتابي «بالخلاص يا شباب» الصادر عام 2012، يسيء مروان عبد الرزاق (مقالته في «القدس العربي» في 1 ديسمبر/أيلول 2020) إلى مضمون ما يعرض، وإلى أخلاقية الكتابة، في مقالة مؤسفة من أكثر من وجه.
أولها ما يتصل بخوضه معركة سياسية متأخرة بلا لزوم يوجبه تناول كتابي عن السجن وتجربة السجن. يتعلق الأمر بموقف اتخذه حزبي وقتها، الحزب الشيوعي – المكتب السياسي، من الأزمة الوطنية والاجتماعية المتفجرة في أواخر سبعينيات القرن الماضي، ولا تُختزل بحال إلى صراع بن النظام والإخوان، كما فعل عارض كتابي، وكما فعل النظام طوال الوقت (شيء يشبه تماماً اختزال صراعنا اليوم وخلال نحو عشر سنوات إلى النظام والإسلاميين). وفوق أن ما يقوله مكرور للمرة الألف، فهو إما غير صحيح أو منقول عن سياقه إلى سياقات أخرى، ودوماً في صورة مضبطة اتهام متواضعة الأمانة، فإن الانطباع الذي يخرج به القارئ من إقحام مضبطة تحالف الأشرار في عرض الكتاب هو أن حبسي كان مستحقاً أو قريباً من ذلك.
السيد العارض يتعامل مع وقائع التاريخ السياسي والاجتماعي، التي لا توافق هواه كأخطاء أصلية، لا كتفاعلات سياسية ممكنة مع أوضاع عينية، تقبل النقد مثل أي تفاعلات غيرها. وبوصفي عضواً في حزب شرير، متحالف وقتها مع أشرار على ذمة ناقدي، فإني أحمل هذه الخطيئة إلى الأبد، مثلما يحمل نسل آدم وحواء خطيئة التفاحة. لا تاريخ في عالم الأخطاء ولا غفران، فقط تقديس وتدنيس، طبائع ولعنات وأبد.
في المقام الثاني، ثمة أسلوب كتابي مُهوّش وغير أمين، في ثلاثة من مقاطع مقاله الستة يورد عبد الرزاق كلاماً على لساني وبضمير المتكلم، مأخوذاً كيفما اتفق من كتابي، لكن وفق فهمه هو. فإذا كان ما ينسبه في المقاطع الثلاثة لي فعلاً، فإنه لا يكاد يبقى من مقالته غير مضبطة الاتهام إياها (وما سيأتي عن أسطورة المعتقل السياسي)؛ وإن لم يكن الكلام لي، فليس من أخلاق الكتابة استخدام ضمير المتكلم على نحو يوهم القارئ بأني أنا من يتكلم. أليس هذا من الألف باء؟ يقول مثلاً على لساني: «وكان التوقيف العرفي أرحم علينا، إذ يمكن الإفراج عنا في سنوات أقل». الواقع أني لم أقل ذلك ولا ما في معناه أبداً. يقول كذلك إني كنت «مهزوماً عاطفياً ودراسياً وثقافياً» وقت اعتقالي، بينما كان ما قلته هو أني كنت في أزمة عاطفية ودراسية. أما ثقافياً فقد كنت أصغر سناً من أن أنتصر او أنهزم، ولم أقل شيئاً في هذا الشأن على أي حال. ويسيء فهم الوطنية السجنية التي تكلمت عليها، وكان المقصود استقلال تجربتنا في السجن عن أحزابنا، وأولوية الولاء لوطننا، السجن، ولمجتمع السجناء الذي هو مجتمعنا وقتها، على الولاء لمراكز حزبية خارج السجن. هذا يصير عند عبد الرزاق «الهوية الوطنية في السجن هي الأساس لتعلو على الهوية المذهبية». وينسب إلي القول إن مكتبة السجن ضخمة. لم أقل ذلك، ولم يتح لنا نفاذ إلى مكتبة سجن المسلمية حتى أفرج عن معظمنا في أواخر 1991، ولم تكن «ضخمة» ولم أصف مكتبة سجن عدرا بأنها ضخمة، ولم أكن أعرف عنها شيئاً في الواقع.

جمع مروان عبد الرزاق بين ذاتية سياسية مكيودة، في المقطع الأول من ركيكته، الذي يتناول شأناً لا صلة له بمضمون كتابي، ومزيج من قلة الأمانة وسوء الفهم في المقاطع التي تحيل إلى مضمون الكتاب، وسقم تفكير في المقطع الخاص بالأسطرة، فحقق لنفسه مستوى من الرداءة ما كان مضطراً إليه.

وفي موقعين متتابعين من نصه المُعيي لغزارة ما فيه من أخطاء في الفهم ولانعدام انضباطه بما يقرأ، يورد العارض كلاماً بين قوسين يفترض كذلك أنه لي. عن المعتقل السياسي يبدو أني أقول إنه «يعتقل ويصمد ويتفكك، وهو ليس رمزاً لواجب بطولي، إنما يبقى متماثلاً مع ذاته، ويصبح تجسيدا لفكرة مجردة.. ومن هذا البطل المنهار، كأنه نبتة برية يجب اقتلاعها». وفوق أنه لا يكاد يكون ثمة معنى لهذا الكلام، فإنه «قطش ولحش» من أكثر من موقع من الكتاب، مع إساءة فهم بخصوص التماثل مع الذات، الذي لا أعتبره شيئاً طيباً بحال، خلافاً لما توحي الجملة الركيكة أعلاه. الاقتباس الثاني هو التالي: «إذ كيف نكافح من أجل الحرية ونحن لا نمارسها، ولا نحاول التعرف إليها، حيث يتطلب الأمر بطولات من نوع مختلف مثل: الصبر، والمثابرة، واحتواء النزاعات». هذا أيضاً «قطش ولحش» قص ولصق عشوائيان، وربط ركيك بدوره بين جمل مأخوذة من مواقع متباعدة. وفي الحالين لا أعرف إن كان عبد الرزاق نصّص ما نصص بسوء نية، أم لجهل بأصول الكتابة والاقتباس، أم ربما لمزيج منهما؟
وبعد ذلك عارضُ كتابي مستاء من فكرة تحطيم أسطورة المعتقل السياسي التي وردت في مقدمة «بالخلاص يا شباب» وفي متنه. يقول في لغة ملؤها اليقين: «لا أحد مهما كان مثقفاً أم لا، يمكن أن يدعو إلى تحطيم أسطورة السجين السياسي في سوريا، إلا إذا كان يعبر عن عقدة نفسية داخلية في نفسه». اعترف بأني مذنب، ولا أستبعد أن لديّ عقدة نفسية داخلية في نفسي. لكن لعله يغفر لي أي كنت أظن أن هذا هو ما يجدر بالمدافعين عن الحرية فعله، بخاصة اليساريين والعلمانيين منهم. عبر نزع السحر والأسطرة عن المعتقل السياسي عملت في الكتاب على أنسنته/أنسنتنا. بعض السبب في ذلك هو أن الأسطرة تحمل معها دوماً أسطرة مضادة، مثلما يقترن كل تقديس بتدنيس، والسيد المحامي عن أسطرة المعتقلين السياسيين مثال ناطق، وإن يكن غافلاً عن ذلك: فقد أصّل الشر في حزبي القديم، وجعلني شخصياً حامل لعنة تحالف الأشرار الأبدية. ثم إن بعضاً آخر من السبب في نزع الأسطرة هو الحقيقة، حقيقة أننا عشنا حياة بشرية دنيوية لا سحر فيها، تسير وتتعثر، حاولنا خلالها أن نصون كرامتنا وإنسانيتنا.
في المحصلة، جمع مروان عبد الرزاق بين ذاتية سياسية مكيودة، في المقطع الأول من ركيكته، الذي يتناول شأناً لا صلة له بمضمون كتابي، ومزيج من قلة الأمانة وسوء الفهم في المقاطع التي تحيل إلى مضمون الكتاب، وسقم تفكير في المقطع الخاص بالأسطرة، فحقق لنفسه مستوى من الرداءة ما كان مضطراً إليه.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    شكرًا أخي ياسين الحاج صالح. جميل جدًا هذا التةضيح. كم يتقصني الوقت لقراءة بعض هذه الكبت أو متابعة هذه المقالات بكل تفاصيلها.

إشترك في قائمتنا البريدية