قمة إسطنبول الرباعية وتربيع الدائرة

حجم الخط
0

كان الغياب الأمريكي عن القمة الرباعية التي استضافها الرئيس التركي رجب أردوغان، في إسطنبول، هو العلامة الأبرز في الحدث. ليس فقط لأنها القوة العظمى الوحيدة في العالم، ولا يمكن اتخاذ قرارات كبرى، كمصير سوريا مثلاً، بدون مشاركتها وموافقتها، بل كذلك لأنها تحتل، عملياً، أكثر من 20٪ من مساحة الأراضي السورية، ولديها عشرات القواعد والمطارات العسكرية، إضافة إلى وجود قوات برية حليفة لها، قوات سوريا الديموقراطية.
والحال أن القمة هذه ما كان لها أن تعقد في إسطنبول، أصلاً، لو أرادت واشنطن المشاركة، في ظل تضارب الأجندات المعلن بينها وبين أنقرة. من جهة أخرى، أراد القادة الأربعة المشاركون في قمة إسطنبول أن يقنعوا العالم، كل بدوافعه الخاصة به، أن اجتماعاً للبحث في مصير سوريا هو أمر ممكن بدون مشاركة أو تشويش أمريكيين، نظراً لما يعانونه جميعاً في التأقلم مع شخص متقلب المزاج كدونالد ترامب متربعاً في البيت الأبيض. هل نجحوا في هذا الإقناع؟ قراءة البيان الختامي وتصريحات القادة في المؤتمر الصحافي المشترك تجيب بالنفي. ولكن الصورة بذاتها مهمة. صورة اجتماع كبير، يجمع معاً ممثلين من مسار آستانة الثلاثي والمجموعة المصغرة السداسية، الجهتان المعنيتان بالموضوع السوري، في غياب واشنطن. كأن القادة الأربعة، والجهات التي يمثلونها، قد رددوا شعار باراك أوباما الانتخابي: (نعم، نستطيع!).
ولكن هذا كل شيء! تضارب أجندات الدول الأربعة الممثلة في القمة، أو تباينها، كان واضحاً في البيان الختامي الذي يشبه، إلى حد كبير، بيانات القمم العربية التي اشتهرت بإرضاء كل المشاركين، بحذف جملة في مسودة البيان هنا، أو إضافة جملتين هناك، أو تعديل عبارة هنالك. بحيث يحصل الجميع على ما يريدون على مستوى الكلام المكتوب، كتسجيل موقف، ثم ينفض الاجتماع ليتابع كل نظام سياسته المعتادة كأن شيئاً لم يحدث.
ففي الأمور الأساسية ظل بوتين متمسكاً بمواقفه، فلم يمنح شركاءه في القمة وعداً قاطعاً بعدم الهجوم على إدلب، متوعداً بالرد على ما وصفه بـ«استفزازات المتشددين» في الوقت الذي لم يشهد الميدان فيه غير استفزازات كبيرة من النظام الكيماوي الذي ارتفعت وتيرة هجماته، في الأسابيع الماضية، على المنطقة منزوعة السلاح وجوارها. إضافة إلى مطالبته تركيا بالإسراع في نزع السلاح الثقيل من الفصائل في إدلب، في حين أن ذلك قد تم إلى حد كبير. أما بالنسبة لموضوع اللجنة الدستورية الذي رحَّله البيان الختامي من نهاية تشرين الثاني إلى نهاية العام، فقد «صارح» بوتين شركاءه في القمة بصعوبة إقناع «الحكومة السورية» في موضوع «يمس سيادتها» مكرراً بذلك كلام وليد المعلم بخصوص اللجنة الدستورية، أي مطالبة النظام بثلثي اللجنة ورئاستها، الأمر الذي كان موضوع شكوى المبعوث الأممي ديمستورا.

تضارب أجندات الدول الأربعة الممثلة في القمة، أو تباينها، كان واضحاً في البيان الختامي الذي يشبه، إلى حد كبير، بيانات القمم العربية التي اشتهرت بإرضاء كل المشاركين

وهكذا جاءت مواضيع كالتشديد على المضي في الحل السياسي، أو المحافظة على وقف إطلاق النار، أو تهيئة الشروط الميدانية لعودة اللاجئين إلى ديارهم وغيرها، من موجبات الكلام الإنشائي الذي لا بد من حشو البيانات الختامية به. وفي حين تم إرضاء تركيا بالتأكيد على وحدة الأراضي السورية، وإضافة عبارة «كل التنظيمات الإرهابية» إلى محاربة داعش والنصرة والمنظمات المرتبطة بالقاعدة، مما شملتها قائمة مجلس الأمن للمنظمات الإرهابية، كان نصيب ألمانيا وفرنسا ذكر البيان لمرجعية القرار 2254 للحل السياسي، وإن كان ذلك بصورة ملتبسة، جنباً إلى جنب الحديث عن أهمية مسار آستانة ـ سوتشي، والتنويه بالإنجاز الروسي ـ التركي للهدنة في إدلب.
من مفارقات هذه القمة الرباعية أن ممثلَيْ الاتحاد الأوروبي فيها، ألمانيا وفرنسا، كانا الطرف الأضعف أمام بوتين وأردوغان اللذين يحتفظان بوجود عسكري مباشر على الأراضي السورية، مقابل وجود رمزي للدولتين الأوروبيتين. وفي حين كانت أنجيلا ميركل «أم الصبي» في موضوع اللاجئين، كما في التنكب المحتمل للقسم الأكبر من أعباء إعادة الإعمار التي تطالب بها روسيا بإلحاح، كان الحضور الفرنسي أقل طموحاً، وهو المقتصر على وجود عسكري رمزي في منبج، وضجيج إعلامي حول دور سياسي لا يستند إلى أساس متين سوى رغبة ماكرون في الظهور بمظهر من يفعل شيئاً.
أما الرئيس التركي أردوغان فقد نجح في تقديم نفسه إلى الرأي العام الداخلي بوصفه عقدة الربط بين «آستانة» و«المجموعة المصغرة» كما بين أوروبا وروسيا، عشية احتفال تركيا بالذكرى السنوية الخامسة والتسعين لتأسيس الجمهورية التركية، موعد افتتاح «مطار إسطنبول» الأكبر في العالم. ففي الحسابات السياسية الداخلية، لهذه القمة قيمة معنوية كبيرة في وقت تستعد فيه الأحزاب السياسية لخوض الانتخابات البلدية في آذار 2019. غير أن المواجع التركية ليست مع أوروبا أساساً، بل مع الولايات المتحدة، الغائبة ـ الحاضرة في قمة إسطنبول. وإذا كان غيابها مريحاً لبوتين وأردوغان، فإن حضورها كهاجس يكاد يفرغ إنجاز إسطنبول من مضمونه، وبخاصة في وقت تنشط فيه الدبلوماسية الأمريكية في الملف السوري بسياسة «جديدة» وأكثر تدخلية على ما أعلن الممثل الخاص جيفري. صحيح أن إطلاق سراح القس برونسون، قد أذاب بعض الجليد المتراكم بين واشنطن وأنقرة، لكن ما تحت الجليد يبقى أهم بالنسبة لتركيا: تحالف الأمريكيين مع وحدات حماية الشعب الكردية، وبقائهم شرقي نهر الفرات حتى إشعار آخر.
أما الغياب الإيراني عن قمة إسطنبول، فلم يكن بأهمية الغياب الأمريكي، على رغم تدخلها المكثف في الصراع السوري، عبر الميليشيات الشيعية التابعة لها. فلم يكن لحضورها أن يقدم لها شيئاً في محنتها، بل كان من شأنه أن يلغم القمة من حيث استثارة غضب ترامب، وهو ما لا يريده المجتمعون الأربعة.
القمة التي قد تناسب متطلبات طهران وطموحاتها هي تلك التي يمكن أن تعقد في مكان آخر، وبمشاركة مختلفة، مثلاً: إسرائيل والولايات المتحدة وروسيا. وربما كانت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إلى سلطنة عمان، في جانب منها، تعويضاً لإيران عن غيابها عن قمة إسطنبول.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية