قمة بوينس آيرس: دروس لم تستوعب

اذا كان ثمة وصفٌ عامٌ لعالم اليوم في ظل المماحكات والشد والجذب بين الدول تارة وبين التحالفات والتكتلات السياسية والاقتصادية فمن المناسب القول انه «عالم بلا قيادة». ومع الاعتراف باستحالة توافق هذا العالم الذي يتجاوز سكانه 7 مليارات انسان على قيادة موحدة، فان من المنطقي التطلع لمنهجيات سياسية واقتصادية توفر قدرا من التوجيه الذي يحافظ على التوازن السكاني والمناخي والاقتصادي والسياسي في عالم مضطرب. فبرغم اهوال الحروب، خصوصا الحربين العالميتين، الا ان سياسات دول اليوم لا توحي باستيعاب حقيقي للتجارب البشرية المتلاحقة.
اما مقولة «الاستفادة من التجارب» فهي فضفاضة ولا تنطوي على معطيات حقيقة توحي بذلك. ومن يقل ان من الخطأ عدم جدوى الجهود التي تسعى لتكرار اختراع العجلة بعد مرور آلاف السنين على اختراعها الاول، فان هذا الخطأ يتكرر بدون توقف. يصدق هذا القول على تجارب الشعوب مع حكامها، ومع علاقات الدول في ما بينها ومع المؤسسات الدولية التي ينطلق قادتها للعمل الدولي المشترك بهدف تقليص الاحتكاك او بذل المزيد من الجهود لاعادة اختراع العجلة. انها دوامة من الضياع التي لم تستطع القمم الدولية وقف دورانها في حلقات مفرغة.
وما القمة التي عقدت مطلع الشهر في العاصمة الارجنتينية، بوينس آيرس، الا مصداق جديد لما يصح تسميته «حوار الطرشان». فكل اتفاق دولي يمر بمخاضات عسيرة تستغرق سنوات طويلة قبل ان يطرح للتوافق الدولي الذي سرعان ما يتبخر عند اول تجربة تمر بها واحدة من الدول الموقعة عليه. هذا ما حدث لاتفاقية المناخ المعروفة بـ «معاهدة باريس» التي اقرتها دول العالم ومن بينها الولايات المتحدة الامريكية. لكنها تعثرت بعد صعود دونالد ترامب للرئاسة الامريكية، فاصبح مستقبلها غامضا. وبرغم ان تسع عشرة من الدول العشرين التي حضرت قمة بوينس آيرس ما تزال ملتزمة بتوقيعها تلك المعاهدة الا ان الرئيس الامريكي اعلن العام الماضي قراره الانسحاب منها. صحيح ان هذا الانسحاب ما يزال لفظيا لأن المعاهدة لا تسمح بانسحاب موقعيها الا بعد ان تبدأ مرحلة تنفيذها العام 2020 (اي بعد اعادة انتخاب ترامب في الانتخابات الرئاسية او فشله فيها) الا ان قراره احدث ارتباكا واسعا في العمل الدول المشترك، والقى بثقله على قمة الـ 20 المذكورة وحال دون صدور بيان ختامي متوافق عليه بشكل قاطع.
لماذا يتعثر العمل الدولي المشترك؟ ولماذا تم تهميش عمل الامم المتحدة كهيئة دولية جامعة تهدف لاحتواء التوترات السياسية ومنع الحروب ووقف المشتعل منها وتطوير العلاقات الدولية وحماية الشعوب من الظلم والاستبداد والاضطهاد والعنصرية والعبودية؟ ما الخطأ الذي حدث على الصعيد الدولي وحال دون تفعيل العمل المشترك وساهم بتهميش دور الامم المتحدة؟ من المتضرر من ذلك العمل ولماذا تلاشت الرغبة التي نمت بعد الحرب العالمية الثانية وساهمت في صياغة الكم الهائل من التشريعات الدولية التي تحكم اغلب قطاعات المجتمع الانساني المعاصر؟ يبدو ان العامل المحوري في العمل الدولي، تقدما او تراجعا، يدور حول مواقف الولايات المتحدة وسياساتها وتوجهاتها. فهي ما تزال البلد الاقوى سياسيا وعسكريا واقتصاديا، وانها تتجه للتموضع في واحد من الموقعين: فاما العزلة التامة عن العالم وترك العمل الدولي المشترك، او الهيمنة المطلقة على بقية دول العالم. وكلاهما مرفوض في العرف الدولي ولا تقبل به الدول الكبرى سواء روسيا ام الاتحاد الاوروبي ام الصين ام الهند. ومنذ ان صعد ترامب الى رئاسة بلاده لم تخل واحدة من فترات حكمه من قرارات مثيرة للجدل وباعثة على الاحباط من العمل المشترك.

قمة العشرين لا تهدف لشيء غير تنظيم الفعاليات التجارية العالمية ليس بهدف مكافحة الفقر او المرض او تطوير حقوق الانسان او الضغط على انظمة الاستبداد لمنح البشر حريته، بل لتنظيم هذا القطاع الحيوي لتطوير اساليب الاستحواذ على اموال البشر العاديين

فانسحاباته المتكررة من اتفاقات دولية مهمة (ومن اهمها الاتفاق النووي مع ايران) ساهمت في تعميق الشعور العام بالرغبة في العيش في عالم يخلو من الهيمنة الامريكية. كما ادخل دول العالم في دوامة من الاضطراب السياسي والعلاقات الدولية والاقتصادية ادت لتلاشي الثقة في العمل المشترك بشكل عام. وكان يفترض ان تكون قمة الدول العشرين جامعة للدول الاكثر نفوذا وتأثيرا على مسارات الاقتصاد والسياسة في العالم. هذه الدول تستحوذ على حوالي 80 بالمائة من اقتصادات العالم، ويمتلك اغلبها مشاريع سياسية واقتصادية ويتطلع لتعامل دولي على اساس الاعتراف المتبادل والتعامل بالمثل والايمان بالعمل المشترك والتخلي عن النزعة الاحادية والانطواء وما يسمى «الحمائية» الاقتصادية. ولكن تجربة القمة الاخيرة اظهرت صعوبة تحقق ذلك. فقد طغى وجود الرئيس الامريكي على القمة واملى عليها اجندتها واثر على بيانها الختامي الذي اكتفى بتكرار ثوابت قديمة والامتناع عن اصدار ما قد يؤثر سليا على الولايات المتحدة او شخصية الرئيس نفسه.
صحيح ان القمة اقرت ان 19 من بين 20 دولة ملتزمة باتفاقية باريس لحماية المناخ العالمي وان ذلك الاتفاق «لا عودة عنه»، لكن المواقف الامريكي اضعف بريق ذلك الاقرار. وصحيح كذلك ان القمة أصرت على اعتماد منظمة التجارة العالمية كمرجعية للعلاقات التجارية بين دول العالم ولكنها انحازت لموقف ادارة ترامب قائلة إنّ التجارة المتعدّدة الأطراف «لم تتمكّن من تحقيق أهدافها» بتعزيز النمو وخلق فرص عمل، ودعت لاصلاحها، الامر الذي قلل من بريق المنظمة وبرر مواقف الادارة الامريكية. كما اقرت القمة الدور المحوري لصندوق النقد الدولي في اقتصادات دول العالم، سواء الممولة له ام المقترضة منه. ولكن ذلك يعتبر تكريسا لهيمنة النظام الرأسمالي على العالم برغم اخفاقات مؤسساته النقدية التي ادت للكارثة الاقتصادية الدولية التي حدثت قبل عشرة اعوام وتراجع اداء القطاع المصرفي.
ومن المؤكد ان اقتصادات دول العالم الثالث اصبح اكثرها رهينة لدى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين اصبحا قادرين على تغيير التوازن السياسي في المجتمعات ذات الاقتصادات المتواضعة. هذا ما تدركه مجموعات الضغط والمنظمات المعارضة للنظام الرأسمالي، التي تواجدت خلال القمة وأسمعت اصواتها للزعماء الذين أصموا أسماعهم عن هتافاتها ومواقفها المعارضة للمشروع المصرفي الغربي الذي اصبح سيفا مصلتا على القوى الناهضة في بلدان العالم الثالث. وبرغم مطالبة زعماء البلدان الاقتصادية العملاقة مثل الصين والهند بنصيب من التصويت يعزز موقعها في الصندوق، الا ان هناك تجاهلا واضحا لتلك المطالب، كما تجاهل المطالبة بشراكة سياسية حقيقية على اساس تكافؤ الاصوات بمجلس الامن الدولي.
من المؤكد ان انتشار ظاهرة الفساد الاقتصادي واحدة من اهم الامراض التي تقلق شعوب العالم. هذه الظاهرة لم تنحسر ابدا بل يتوسع انتشارها وتتبدل اشكالها. هذا الفساد لا ينحصر بشكل واحد من اشكال التعامل بين الدول في ما بينها او في مؤسساتها فحسب، بل انها توسعت كثيرا في الاعوام الاخيرة حينما سمح لبعض الدول الاعضاء باستغلال قوتها العسكرية المفرطة لنهب ثروات الشعوب الاخرى الاقل ازدهارا وتطورا. فماذا تعني الصفقات العملاقة التي وقعتها السعودية مع الولايات المتحدة والتي تتجاوز 500 مليار دولار؟ ماذا تعني المخصصات الكبيرة لمدراء الشركات العملاقة؟
يمكن القول ان كافة المؤسسات والمنظمات والهيئات المالية والشركات التجارية انما قامت بهدف وضع اليد على ما لدى المواطنين العاديين، واغلبهم من الفقراء، من مال. تنطبق هذه الحقيقة على شركات الاغذية والسيارات والهواتف وشركات التأمين والطيران وسواها. وقمة العشرين لا تهدف لشيء غير تنظيم الفعاليات التجارية العالمية ليس بهدف مكافحة الفقر او المرض او تطوير حقوق الانسان او الضغط على انظمة الاستبداد لمنح البشر حريته، بل لتنظيم هذا القطاع الحيوي لتطوير اساليب الاستحواذ على اموال البشر العاديين. صحيح كذلك ان القمة تداولت في قضايا الفساد وتطرقت لوسائل مكافحته، ولكن ما مدى جدية «العالم الحر» في مكافحة الفساد المالي المستشري في دول العالم؟ حين يستلم الوزير او العضو البرلماني في دول هذا «العالم الحر» الاموال والدعم من حكومات دول كالسعودية والبحرين بهدف استمالتهم لدعمها والسكوت على ما يجري في سجونها من تعذيب وتنكيل، فهل هذا إفساد ام اصلاح؟ وحين تصل العمولات التي يتقاضاها الوزراء او المسؤولون في مقابل تسهيل تلك الصفقات الى المليارات، فاين هو المستقيم من السلوك وما الفاسد منه؟ والسجال نفسه يتصل بمقولة تقليص الفجوة بين الجنسين في القوى العاملة سواء على مستوى التوظيف او الاجور. أليس هذا مؤشرا لعدم قدرة النظام السياسي والاقتصادي العالمي على تفعيل قيم المساواة والعدل بين الناس؟ بعيدا عن الدعاية والتضليل الاعلامي ما يزال العالم بحاجة لنهضة قيمية وصحوة ضمير انسانية تضع حدا للانفاق الهائل على الثقافة البيروقراطية التي تقضم رؤوس اموال الشركات ومنظمات الاغاثة الدولية والمؤسسات الخيرية.

كاتب بحريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية