في 20 تموز (يوليو) أحيت الإنسانية الذكرى الخمسين لهبوط أهل الأرض على سطح القمر، عبر المركبة الفضائية «أبوللو 11»، وعلى متنها نيل أرمسترونغ وبوز ألدرن ومايكل كولنز. ومن جانبي، شخصياً، على مستوى المحاكمة العقلية تحديداً، أفتقد السيميائي والمفكر والروائي الإيطالي الراحل أمبرتو إيكو، الذي غاص عميقاً في سيمياء صور الهبوط ذاك، لا لكي ينخرط في أيّ من نظريات المؤامرة النافية لحكاية النجاح الباهرة هذه؛ بل لكي يساجل حول سطوة الصورة بالقياس إلى مرادفات أدلّتها المادية، وما إذا كان العقل البشري قابلاً للترويض بموجب العلائم البصرية وحدها.
على مستويات أخرى تخصّ علاقة المخيّلة البشرية بالقمر، خاصة الشعر بالطبع، يصعب أن تمرّ حكاية الهبوط هذه، وبالتالي تجريد القمر من صفاته المجازية الحاشدة العديدة؛ دون استرجاع اختراقات كبرى في التراث الشعري العربي، ابتداءً بالعصر الجاهلي وحتى العقود المعاصرة. هنا، في مثال أوّل، عنترة بن شداد: «وَبَدَتْ َفُقلْت البَدْرُ َليْلة تِمِّهِ/ قدْ قَلَّدَتْهُ نجُومَها الجَوْزاءُ»؛ أو الوليد بن يزيد، الذي قارب التجديف حين تغزّل هكذا: «إنَّما بِنتُ سَعيدٍ قَمَرٌ/ هل حَرِجنا إِن سَجَدنا لِلقَمَر؟». وكيف تُستعاد ذكرى الهبوط على سطح القمر من دون بدر شاكر السياب، في «أنشودة المطر»: «عيناك غابتا نخيلِ ساعةَ السحرْ/ أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر/ عيناك حين تبسمان تورق الكروم/ وترقص الأضواء كالأقمار في نهر»؟ أو محمد الماغوط، حيث الحزن يطفح أكثر في ضوء القمر: «أيها الربيعُ المقبلُ من عينيها/ أيها الكناري المسافرُ في ضوء القمر/ خذني إليها/ قصيدةَ غرامٍ أو طعنةَ خنجر»؟
سواء هبط البشر على سطحه أم خلب ألبابهم عن بُعد، يظلّ القمر سيّابياً على نحو أو آخر: ينأى ويؤوب، ولا يكفّ عن الرقص!
وفي «الفتوحات المكية» نصّ محيّر، بقدر ما هو فاتن، يسوقه محيي الدين ابن عربي هكذا: «ومنهم من يكون إمداده من حضرة النور نور الشمس، ومنهم من يكون إمداده من نور البدر، ومنهم من يكون إمداده من نور القمر، ومنهم من يكون إمداده من نور الهلال، ومنهم من يكون إمداده من نور السراج»! وأمّا ابن النديم فينقل، في «الفهرست»، عن صاحب بيت الحكمة ابن راهيون، هذا التصنيف الصاعق للعلاقات بين الكواكب واللغة العربية: «عدد حروف العربية ثمانية وعشرون حرفاً على عدد منازل القمر وغاية ما تبلغ الكلمة منها مع زيادتها سبعة أحرف على عدد النجوم السبعة، قال وحروف الزوائد اثنا عشر حرفاً على عدد البروج الإثني عشر، قال ومن الحروف ما يدغم مع لام التعريف وهي أربعة عشر حرفاً مثل منازل القمر المستترة تحت الأرض، وأربعة عشر حرفا ظاهرا لا تدغم مثل بقية المنازل الظاهرة، وجعل الإعراب ثلاث حركات الرفع والنصب والخفض لأن الحركات الطبيعية ثلاث حركات حركة من الوسط كحركة النار وحركة إلى الوسط كحركة الأرض وحركة على الوسط كحركة الفلك، وهذا اتفاق ظريف وتأوّل طريف»!
وفي كتابه الموسوعي الفريد «معجم الموتيفات المركزية في شعر محمود درويش»، يسجّل الباحث الفلسطيني حسين حمزة أكثر من 200 صيغة للقمر في قصائد الراحل؛ تتغاير على مستويات دلالية وبلاغية ومجازية مدهشة، حتى يصحّ القول (من وجهة نظري شخصياً) أنّ رصد تحوّلات مفردة القمر من مجموعة «عصافير بلا أجنحة»، 1960، إلى «كزهر اللوز أو أبعد»، وكذلك «في حضرة الغياب» و«أثر الفراشة»؛ يمكن أن يمهّد السبيل، على نحو أيسر، لتدوين سيرة المجاز عند درويش، بصفة عامة. هنا بعض الأمثلة على تلك التحوّلات: «ترعاه عين القمر»، «على قمرٍ تصلّب في ليالينا»، «منزلي كان خندقاً/ لا أراجيح القمر»، «على جبهتي قمر لا يغيب»، «ينام المغنّي على أسطوانة/ يخبّيء أقماره في خزانة»، «وكان فراغك ممتلئاً قمراً»، «شارعٌ واضحٌ وبنت/ خرجتْ تشعل القمر»، «ناديتُ/ كان الصدى قمراً»، «ولمن أمدح هذا القمر الحامض فوق المتوسط»، «للنهايات مذاق القمر البنّي»، «يشرب القمر الحرّ شاي المحارب تحت الشجر»، «لها/ قمرٌ صغيرٌ مثل خادمها يمشّط ظلّها»، «ويرى ما رأيتُ من القمر البدويّ»، ضعْ ههنا قمراً على الكرسيّ»، «ألمّ بها قمرٌ عائد من أريحا»…
وتبقى إشارة إلى اثنتين من أفضل الأبحاث المعاصرة حول علاقة الشعر العربي بالقمر، من المبهج أنهما أطروحتان جامعيتان لنيل درجة الماجستير لاثنين من الباحثين العرب الشباب. الأولى بعنوان «القمر في الشعر الجاهلي»، وقد تقدّم بها فؤاد يوسف إسماعيل إشتية إلى جامعة النجاح في نابلس، فلسطين، سنة 2010؛ وتتضمن فصولاً معمقة حول القمر في الموروث الإنساني والعربي، ومواضيع وروده في الشعر الجاهلي (أغراض الغزل والرثاء والمديح والهجاء والفخر والحرب والحيوان)، وصورة القمر الفنية (التشبيه والاستعارة والكناية واللون والحركة)، ثمّ أبعاد هذه الصورة دينياً ونفسياً واجتماعياً. الدراسة الثانية تقدّم بها مجيب عيدان جبر إلى جامعة القادسية، العراق، سنة 2015، تحت عنوان «القمر في الشعر العراقي المعاصر من 1947 ــ 1979»؛ وتتضمن فصولاً في ماهية ومكونات صورة القمر الشعرية، والأغراض التي اقترنت بالقمر، في تطبيقات على نماذج من السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وشاذل طاقة وسعدي يوسف وحسين مردان وسواهم.
وفي نهاية المطاف، سواء هبط البشر على سطحه أم خلب ألبابهم عن بُعد، يظلّ القمر سيّابياً على نحو أو آخر: ينأى ويؤوب، ولا يكفّ عن الرقص!
الأجمل من ذلك كله، رغم أهميته، هو تكون القمر نفسه ! ذلك أنه منذ 4 مليار ونصف سنة إرتطم شيء في حجم المريخ بالأرض و رغم أن الأرض إستطاعت إستيعابه، فإن شظايا الإرتطام العنيف، الذي يعادل سبعة مليار قنبلة نووية ،خرجت من الأرض، وأخدت تدور على شكل حزام حولها نتيجة الجاذبية، وفي ظرف سنة إندمج الحزام ليشكل القمر ويبتعد عن الأرض بمقدار 300 ألف كيلومتر. وبفضل ذلك إستطاعت الأرض أن تستقر في مدارها المعروف المائل ونتج عن ذلك الفصول الأربعة وظاهرة المد والجزر والليل والنهار !
وعسى أن تكرهوا شيئا ..!