قناة «العربية»: ماذا بقي من المهنة؟!

حجم الخط
6

قضيت الأسبوع الماضي متنقلاً بين قناتي «ماسبيرو زمان» و«العربية كوميدي» وراديو «بي بي سي عربي» ولأن «الفاضي يعمل قاضي» فها أنا ذا أتصرف على هذا النحو، مع الوضع في الاعتبار، أنني لم ألتزم بقواعد النحو في التعامل مع المفعول به «قاضي» لأن القافية حكمت، كما يقول شعراء الغبراء!
وخلال الوقت الذي قضيته متابعاً لـ «العربية» كنت أنتظر اطلالة مذيعتها منتهى الرمحي، التي تم وقفها عن العمل بعد أن دخلت في وصلة ضحك هيسترية على زميلها محمد العرب، مراسل القناة من مأرب، وهو يتحدث بهمة ونشاط، عن المشروع السعودي العملاق، بإنشاء مطار مأرب الدولي، بينما لا نرى على «مدد الشوف» سوى صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، وضحكت منتهى، وهو مشهد لا بد وأن يضحك الحجر، ليس للحديث عن مطار لا وجود له فقط، ولكن لهذه الجدية المهنية اللافتة التي ظهر عليها مراسل «العربية» بكل هيلمانه الجسدي!
يومئذ عرف الناس منتهى الرمحي، الذي غادرت «الجزيرة» مبكراً إلى المجهول الإعلامي، فبدت كما لو كانت قد انتقلت إلى مثواها الأخير، وإلى مدافن العائلة في دبي، لكنها عادت على قيد الحياة بهذا الخروج على الانضباط المهني، ولأن هذه الحالة أسأت إلى أولي الأمر منهم في السعودية، فكان لا بد من عقابها، وتقرر وقفها عن العمل لمدة أسبوعين، ورغم هذا لم أعثر عليها على الشاشة مطلقاً، حتى عندما بقيت فيها فترات طويلة على مدى أسبوع كامل، وكأن الوقف امتد وكأنها رقدت على رجاء القيامة!
الانطباع المهم، الذي يخرج به من يشاهد «العربية» أنها تصلح مثالاً للدرس لموضوع «الإعلام الموجه» في طبعته الجديدة، فالحاصل في مصر، من قنوات تملكها الإمارات وأخرى تكتفي بتمويلها لخدمة عبد الفتاح السيسي، هو الإعلام الموجه القديم، بذات الطبعة الرديئة. فلا ينقص «العربية» التمويل، ولا تنقصها الأستوديوهات الحديثة، والصورة الناطقة، أو المذيعين الأكفاء، فلديها أصوات قوية ليس لها وجود الآن في المدرسة الأولى لهذه الطبقة من الأصوات الـ «بي بي سي» ففي «العربية» استمعت لهذا المذيع الأصلع صاحب الصوت القوي، والذي لم أتمكن من معرفة اسمه للأسف الشديد!

المذيعون ومنصات التواصل

وهذه قيمة مضافة للاختيارات الأولى لـ«الجزيرة» حيث أعادت تجربة المذيع النجم، الذي يعرفه الناس ويبحثون عن أخباره، وهي تجربة عرفتها مصر مع بداية البث التلفزيوني ومع مذيعات الإذاعة المصرية، كما عرفها العالم العربي عبر متابعة هيئة الإذاعة البريطانية، فيقلد الناس أصواتهم، ويحفظون «المطبات» التي يتعرضون لها وهم على الهواء، وهي نجومية مرتبطة بالأداء المهني رفيع المستوى، وليست مرتبطة بأشياء أخرى خارجها، في زمن صار فيه تقييم المذيع بأعداد المتابعين على «تويتر» و«انستغرام» وهي معايير خارج المهنة؛ الأمر الذي أحدث هوساً لدى البعض، بهدف التنافس بالفولورز، فأثر هذا على قيمتهم، وأضر بهم، «تعس عبد اللايك، تعس عبد الشير، تعس عبد الفولوروز»!
وبعد أن شاهدت الكثير من الابتذال والضحالة الفكرية، وددت لو كان التعيين في المؤسسات الإعلامية، يشترط عدم التعامل مع هذه المنصات كتابة أو تعليقاً، لأنها عمل فردي، في حين أن المذيع النجم هناك جيش خلف الكاميرا ساهم في صناعة نجوميته، وقد حدثت المشكلة عندما ظهر للناس بدون هذا الجيش، فتضررت نجوميته التي صنعها هناك، والضرر يلحق بلا شك بالمؤسسات ذاتها!
بيد أن الجميع غارق «لشوشته» في بحر الإعلام الجديد، والمنصات، والـ«سوشيال ميديا» والتي وإن كانت أضرت بالصحافة المطبوعة (وهذا ليس صحيحاً في المطلق) فلم تضر بقيمة الشاشة الصغيرة، دعك من موشح «يوتيوب» فهذا منبر للأداء الفردي لا يغني عن التلفزيون ولا ينافسه!
ومع وجود مذيع «العربية» سالف الذكر وغيره في هذه القناة، ومع توافر الكفاءات المهنية، إلا أنها لم تصنع منهم نجوماً كما «الجزيرة» التي هالني أن فيديو على «يوتيوب» عن موضوع واحد هو جنسيات مذيعات ومذيعي الجزيرة، تجاوز عدد مشاهديه المليون مشاهد، وهذا أمر كاشف عن معنى النجومية، التي تفرض قواعد مختلفة عند التعامل، فلا يظهر إلا بقدر، وقد بنى عمرو دياب شهرته، بفضل من تعهد به منذ النشأة والتكوين، بالشح في ظهوره الاعلامي، وسبقه في ذلك عادل إمام مع تزايد الطلبات والإلحاح لإجراءات مقابلات صحافية أو تلفزيونية، لا يوافق منها سوى على القليل وبعناية!
والبعض لا يقدم على ذلك لأنه يعرف قدر نفسه، والمعلوم لدينا أن الفنانة عبلة كامل لم تضبط متلبسة بأي ظهور تلفزيوني أو صحافي بعيداً عن أدوارها، وعقب أدوارها الأخيرة طلبت منها رئيسة تحرير إحدى المجلات المصرية حواراً للمجلة، فاعتذرت على أساس أنها لا تجيد الحديث، ومن علم بهذه الواقعة نظر إليها باعتبارها متواضعة، فهي فنانة موهوبة وممتلئة بالموهبة ومفعمة بالحيوية، لكني شاهدتها في برنامج للمذيعة سلمى الشماع على «ماسبيرو زمان» كان التسجيل من كواليس التصوير في أحد المسلسلات، وكان اللقاء جماعيا مع المشتغلين في هذا العمل، وكانت هي واحدة منهم، وهذا في بدايتها، وعندما شاهدت ردودها الفقيرة، قلت: رحم الله امرئ عرف قدر نفسه!
وهذه ميزة ربما لا يعرفها مذيعون كبار، يظنون أنهم بحكم النجومية يمكن أن يكونوا من قيادات الرأي في المنطقة، فأضروا بسمعتهم المهنية، وبعضهم قد يكون صاحب موقف ورأي، ولكنه بهذا الحضور على منصات التواصل لا بد وأن يضر بنجوميته المرتبطة بالحضور بالملابس الرسمية على الشاشة والحديث بالشوكة والسكينة!

عاجل

ما علينا، فالذي تفتقد اليه «العربية» هو قيم المهنة وضوابطها، لأن رسالتها الإعلامية موجهة، فهي تخدم مشروعا سياسيا يفتقد للخطاب المقنع، فيكون اللجوء للتلفيق بالاستخدام المبتذل للأدوات الإعلامية.
لا أعرف الشاشة الأولى التي اخترعت «عاجل» كما لا أعرف من المذيع الأول الذي استخدم عبارة «أتحفظ» والتي أصحبت تقال «عمالاً على بطال» يقول أحدهم: «إن هذا المسؤول يكذب» فيقول المذيع: «أتحفظ» فاذا عدل في أقواله وقال «إنه لا يقول الحقيقة» قال المذيع: «أتحفظ». فأنا أتحفظ إذاً أنا مذيع!
وإن كان «عاجل» هو اختراع مهم، لإبراز الأخبار العاجلة والمهمة على الشاشة، وهي تمثل تطوراً لمرحلة «شريط الأخبار» والتي كنت أرى في البداية إنها تشوش على النشرة، لا سيما عندما يكون قارئ النشرة يتلو الخبر، بينما يمر أسفلا منه، وفي أحداث مهمة مثل الغزو الأمريكي للعراق كنا نرابط أمام «الجزيرة» في انتظار النشرة، حيث الأخبار الجديدة، فصارت مع الوقت قيمة النشرة ليست في الجديد، ولكن في التفاصيل وفي الاستماع اليها وليس فقط مجرد مطالعتها مكتوبة على الشاشة، في شريط لا يُرى بالعين المجردة في بعض المحطات التلفزيونية!
فلما طال عليهم الأمد، في هذه المحطات، نسوا ما ذُكروا به، وأن الخبر «العاجل» يستوجب أن يكون خبراً، مهماً، وعاجلاً، فأحياناً يكون في هذا البعض «العاجل» رأي، أو موقف، أو أمنية. وقد يكون خبراً ولكنه ليس على درجة من الأهمية التي تدعو لإبرازه لولا أنه اختلط بالأماني والمواقف، وقد يكون خبراً مهماً لكن ليس «عاجلاً» فقد علم بأمره القاصي والداني قبل بثه بصيغة الـ «عاجل» وقد اهتدت «الجزيرة مباشر» إلى عنوان آخر هو «ورد للتو» وهو يُنشر في المساحة نفسها واللون وفي نفس طريقة الـ «عاجل» فيتحقق الهدف بالإبراز، لكن دون الوقوع في خطأ مهني بوصفه «عاجلا» وما هو بـ «عاجل» إنه خبر مهم، وقد وصلهم حالاً لكنه ليس «عاجلاً»!
وقد ابتذلت «العربية» فكرة الخبر العاجل المتمدد بعرض الشاشة لأهميته، وهو ما يمكن أن يقف عليه من يتابعها. وفي الأسبوع الماضي كانت نائبة فرنسية ضيفة في نشرة أخبار القناة، وقد كتب على الشاشة «عاجل» فاعتقدت بوقوع كارثة فاذا بهذا النص: «عاجل: نائبة فرنسية: فرنسا سبق لها أن أعلنت انحيازها لليونان»!
إن عبارة «سبق لها أن أعلنت» تنفي «العاجل» عن الموضوع، ثم إن الخبر الصحافي ليس فقط معلومة، لكن وعلى ما يبدو أن الموضة الإعلامية الجديدة هي أن كل أمر مرتبط بتركيا هو «خبر» وهو «عاجل» لدى بعض القنوات؛ فقناة «الحرة» أذاعت تقريراً عن تركيا ونشرته على الشاشة بعنوان «عاجل»!
وعلى ذكر «الحرة» فالسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا فشلت كل قنوات الأعاجم الناطقة باللغة العربية ومن أول «الحرة» إلى القناة الألمانية DW إلى «فرانس 24» ولا أستثني «تي آر تي» التركية من الفشل أيضاً، وبدرجة ما «بي بي سي» التي لم تستطع أن تحافظ على عراقة الاسم، والتي راعني بالاستماع إلى مذيعها عبر الراديو، أن الأصوات ضعيفة والخامات متواضعة، فأين يكمن الخلل في فشل هذه القنوات جميعها؟!
سألت عمنا أيوب صديق، أحد الزعماء التاريخيين في هيئة الإذاعة البريطانية إن كان ضعف الأصوات بشكل عام راجع إلى عوامل طبيعية وأن الأصوات العفية مرتبطة بمرحلة زمنية معينة، وعلى قاعدة القلوب وما تعرضت له في الطلب المستحيل للسيدة أم كلثوم «وهات لي قلب لا داب ولا حب، ولا انجرح، ولا شاف حرمان»؟ فقال: بل القواعد الفاسدة في الاختيار!
لقد ابتذلت «العربية» مفهوم الخبر، كما ابتذلت صيغة «عاجل» وصار أداؤها كوميديا يمكنها من منافسة «موجة كوميدي» ثم تعاقب منتهى الرمحي، لأنها لم تلتزم بالانضباط المهني، فماذا بقي من المهنة، لتوقع عقوبة على عدم الانضباط؟!
محظوظة قناة «الجزيرة» بمنافسيها.

٭ صحافي من مصر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول لقد تشابه البقر علينا:

    مقال جميل كالعادة، تحياتي

  2. يقول محمد محمود:

    كل الملاحظات جادة يا استاذ عزوز وصحيحة
    ولكن الإعلام الموجه يطرد المشاهد لدرجة أن النشرة قد تكون مفتقرة للجدية

  3. يقول 344 مترا:

    شكرا لك و شكرا لكل من يمتلك الجَلَد و القدرة على متابعة الضحالة في إعلام المحمدين و عبدالفتاح لأنه لولا تضحياتكم و تجشكم عناء متابعتهم لما عرفنا بطرائفهم. إعلام عبدالناصر مهما قيل فيه فإنه كان جذابا إلى درجة حفر معها في الذاكرة طول الموجة التي تبث عليها إحدى إذاعاته، تلتمية و أربعة و اربعين متراً.

  4. يقول مروان:

    أعرف أنك كنت ضحية ” أتحفظ” هذه. ولكن المذيع لديه كل الحق في طلب إظهار الاحترام لأي شخص مهما كان الاختلاف معه أو مع سياساته، خاصة إذا لم يكن ممثلا في الحوار في بلاتو البرنامج.
    تحياتي

  5. يقول الكروي داود النرويج:

    لا حول ولا قوة الا بالله

  6. يقول عربي حر:

    للأسف اغلب القنوات العربية تغرد خارج السرب تبقى قلة تلتزم الخيط الرفيع بين الوقوع في فخ الاعلام الموجهة و المحافظة على درجة من المهنية . تحية لقناة الجزيرة

إشترك في قائمتنا البريدية