تتقشّف العائلة المصرية شديدة التدين تقشّفا يقربها من الفاقة والجوع، لترسل ابنها إلى «بلاد بره» ليصبح طبيب عيون. نشأ الشاب إسماعيل «في حراسة الله ثم أم هاشم» التي تسكن الأسرة قرب مزارها، ويرتبط بطل قصة «قنديل أم هاشم» بالمكان والمزار، حيث يشرح له الشيخ درديري وأسرار «ليلة الحضرة» حين «يجيء سيدنا الحسين، والإمام الليث، يحفون بالسيدة فاطمة النبوية، والسيدة عائشة والسيدة سكينة، في كوكبة من الخيل، ترفرف عليهم أعلام خضر، ويفوح من أردانهم المسك والورد، يأخذون أمكنتهم عن يمين الست وعن يسارها، وتنعقد محكمتهم وينظرون في ظلامات الناس».
يشرح الشيخ أيضا كيف في تلك الليلة «هذا القنديل الصغير الذي تراه فوق المقام، يكاد لا يشع له ضوء، ينبعث منه عندئذ لألاء يخطف الأبصار.. زيته في تلك الليلة فيه سر الشفاء» ويشرح بطل قصة الروائي المصري يحيى حقي الشهيرة، الفلسفة البسيطة لضوء ذلك القنديل، فـ»كل نور يفيد اصطداما بين ظلام يجثم وضوء يدافع، إلا هذا القنديل فإنه يضيء بغير صراع».
يتفوق إسماعيل في دراسته، كما يكتسب خبرة حياتية واسعة، خاصة عند لقائه فتاة إنكليزية تشرح له أن استناده إلى دينه وعبادته وتربيته وأصوله «مشجب يعلق عليه معطفه الثمين» وأن «من يلجأ إلى المشجب، يظل طول عمره أسيرا بجانبه يحرس معطفه. يجب أن يكون مشجبك هو نفسك» إلى أن استيقظ في يوم «فإذا روحه خراب، لم يبق فيها حجر على حجر، بدا له الدين خرافة لم تخترع إلا لحكم الجماهير» فخلص من المحنة «بنفس جديدة مستقرة ثابتة واثقة. إن طرحت الاعتقاد في الدين، فإنها استبدلت إيمانا أشد وأقوى بالعلم. لا يفكر في جمال الجنة ونعيمها، بل في بهاء الطبيعة وأسرارها».
انطفاء القنديل وعمى فاطمة
يصطدم إسماعيل، حال عودته، بالبيئة التي جاء منها، فلا يرى في أمه غير «كتلة من طيبة سلبية» والمصريون بالنسبة له «جنس سمج ثرثار، أقرع أمرد، عار حاف، بوله دم، وبرازه ديدان. يتلقى الصفعة على قفاه الطويل بابتسامة ذليلة تطفح على وجهه». أما وطنه فليس غير «قطعة مبرطشة من الطين أسنت في الصحراء، تطن عليها أسراب من الذباب والبعوض، ويغوص فيها إلى قوائمه قطيع من الجاموس نحيل» وليس في بلاده غير «جمود يقتل كل تقدم، وعدم لا معنى فيه للزمن، وخيالات المخدر، وأحلام النائم والشمس طالعة».
يثور إسماعيل حين يرى أمه تقطر عيني ابنة عمه الرمداء بزيت أم هاشم، فيقول لها إنها ستأتي بالعمى للفتاة قائلا: «أنا لا أعرف أم هاشم ولا أم عفريت» مطوحا بالزجاجة إلى الطريق، معتبرا شعاع القنديل «إعلانا قائما للخرافة والجهل» وهاجما عليه كاسرا إياه، ولا ينقذه من الموت وغضب الناس غير شيخ المقام الذي عرفه. يجرّب إسماعيل أدويته الحديثة لكنّ عيني فاطمة تتدهوران «ولا ينقذها في علمه حيلة» إلى أن «انطفأ آخر بصيص تتعزى به». بعد محنة نفسية كبرى يصل البطل إلى أن فاطمة تحتاج إلى علمه، لكنها لا تستطيع أن تتخلى عن إيمانها بالدين وأم هاشم، فيعود إلى زيت القنديل، وبعد فترة من العلاج حين يراها سليمة معافاة «فتش في ذهنه وقلبه عن الدهشة التي كان يخشاها فلم يجدها».
تحاول قصة «قنديل أم هاشم» تلخيص محن النخب العربية والإسلامية الحديثة، في لحظتي الانفصال عن المجتمع، والعودة إليه، ورغم تقصيرها في تلخيص فترة السباحة بين اللحظتين، كما حصل مع بطل «موسم الهجرة إلى الشمال» الذي مات بين ضفتي الشمال والجنوب، الشرق والغرب، السودان وإنكلترا.
تقدّم القصة، مع ذلك، تعبيرا عن قضايا عانت منها نخب ومجتمعات، ويمكننا القول، إن جزءا كبيرا من هذه النخب لم تتوصل إلى حلول فعلية لهذه القضايا، كما فعل البطل الذي وجد أن العلم لا يتعارض مع الإيمان، وبدلا من العودة لإنكلترا، أو سلوك طريق الاغتناء والصعود الاجتماعي، اختار أن يكون طبيبا للفقراء، وصار في آخر أيامه «ضخم الجثة، أكرش، أكولا نهما، كثير الضحك والمزاح والمرح، ملابسه مهملة، تتبعثر على أكمامه وبنطلونه أثار رماد سجائره».
اعتبر أنجلز الدين الإسلامي مقارنة بالأديان السماوية «حركة وردّة بدوية ضد فلاحي المدن المتحفزين المفسدين بديانات طبيعية، والمنحطين إلى مستويات ديانات مفسدة كاليهودية والمسيحية» فيما رأى ماركس في الدين عموما «وعيا مقلوبا للعالم».
لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية شتى، تثبتت أغلبية النخب العربية الحديثة، في لحظة الكراهية لمجتمعها، وتحميله وزر تخلفه، مستغرقة في هجاء مجتمعاتها، ودينها خصوصا، واعتباره جذرا للتخلف الذي يسود بلداننا، فرأينا محاولة كسر القنديل، سياسيا وعسكريا وأمنيا وأدبيا، كما رأينا أشكال الاستهانة بغضب الناس واعتبار إهانة معتقداتهم غباء وسفاهة وقلة عقل.
اتصلت هذه اللحظة في البلاد العربية، والعالم، لفترة طويلة، بانتشار الماركسية، التي كانت «القنديل» الذي سعى إليه أتباع وموالون و«دراويش» كثر صنعوا دينا جديدا تحت عنوان «نقد الفكر الديني» وتمثل نصوص ماركس وأنجلز حول الدين، التي ترجمها ياسين الحافظ تحت اسم مستعار، نموذجا عما يسميه الكاتب السوري تركي علي الربيعو، «النزعة الوضعانية المعادية للدين».
الصراع المضمر مع الجماهير
اعتبر أنجلز الدين الإسلامي مقارنة بالأديان السماوية «حركة وردّة بدوية ضد فلاحي المدن المتحفزين المفسدين بديانات طبيعية، والمنحطين إلى مستويات ديانات مفسدة كاليهودية والمسيحية» فيما رأى ماركس في الدين عموما «وعيا مقلوبا للعالم». إنه «التحقق الوهمي للكائن الإنساني الذي لا يملك واقعا حقيقيا» ولذلك فـإن «الصراع ضد الدين هو بصورة غير مباشرة صراع ضد ذاك العالم الذي يؤلف الدين نكهته الروحية». نقد الدين، بالنسبة لماركس، كان «الإرادة للتحليق عاليا فوق وادي الدموع، بعد أن خلفت البشرية وراءها وادي السراب. إنها هجرة الطيور وراء هدهد سليمان».
يتقمص ماركس، على ما يقول الربيعو بسخرية، هنا دور الهدهد، العابر للأودية السبعة للوصول إلى السيمورغ (حسب ملحمة فريد الدين العطار) وبإطلاق ماركس الشعار الشهير «الدين أفيون الشعوب» حكم على خلفائه ووارثيه إرث صراع هائل مع الأديان، وهي ظاهرة أعقد بكثير وأكثر اشتباكا بالحضارة والأدب والسياسة والاجتماع البشري والفنون والعلوم من إمكانية تلخيصها بكونها «وعيا مقلوبا». اضطر هذا الإرث بعض الأحزاب الماركسيّة والاشتراكية التي يفترض منطق السياسة أنها ممثلة لـ«أوسع الجماهير» إلى تدبيج بعض خطاباتها بآيات قرآنية (هناك كتاب لفاضل الربيعي يحلل يافطة الحزب الشيوعي العراقي المطالبة بعودة المهدي المنتظر والأثر الشيعي الهائل في الحزب) لكن الجماهير، كما يقول الربيعو، «كانت تدرك أن الصراع معها كان مضمرا داخل الخطاب الماركسي» معتبرا، في دراسته «الدين في الخطاب الماركسي العربي» إلى أن نتائج «النزعة الوضعانية» العربية أدت إلى كارثة في نتائجها، وأنها دفعت «إلى ممارسة شطط وحماقة، بل وسذاجة مخيفة في تعليل الظواهر التاريخية».
إضافة إلى الصراع الذي فتحته الماركسية مع الأديان (متأثرة بلا شك بالثورة الفرنســـية وموقفها الرافض للكنيسة) فقد اجترح ماركس شعار ديكتاتورية البروليتاريا، الذي تحول في عهدة فلاديمير لينين، زعيم المجموعة البلشفية في الحزب الشيوعي الروسي، إلى ديكتاتورية حزب ضد المجتمع (بمن فيهم المناشفة الذين هم شيوعيون أيضا، وفروع أخرى عديدة من الشيوعية) وكانت تداعيات هذه المنظومة الفكرية حين حكمت حيزا واسعا من العالم هائلة، ورغم أنها خلفت عشرات ملايين الضحايا، إلى حد أكبر حتى من الحقبة النازية في ألمانيا، فما زال إرثها رائجا وذا شعبية بين المثقفين والنخب، التي أصبحت «ليبرالية» و«علمانية» لكنّها لا تزال تمارس احتقار المجتمع وتحلم بسوسه بالحديد والنار.
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»
ليست الشيوعية العدو الأول للأديان, فهناك العلمانية المتغطية بالديموقراطية!
أما طغاة العرب المتصهينين, فحدث ولا حرج!! ولا حول ولا قوة الا بالله
أعادتني قصة “قنديل أن هاشم” ٤٠ عاماً إلى الماضي. يسلّم الأيادي عزيزي حسام.
اعتقد عزيزي حسام ان الادب العربي لم يف لموضوع الدين والخرافات التي نشأت حوله حقه من الكتابة ولا بد من الخوض به أكثر.
وهناك خلط كبير عند بعض الناس بين العلمانية ومعاداة الدين. يجب توضيحها
مقال ممتاز ومفيد
مقال ممتاز THANKS
أوافقك الرأي و أضم صوتي إليك، في مقالات الأستاذ حسام في العادة جميلة. لكن ربما يمكن الإشارة ان المقال وربما لضيق المساحة المتاحة قام بعملية التشخيص فقط، أما الأعراض والأمراض والتداعيات التي ترتبت على هذا فهي قصة اخرى مؤسفة ومزعجة، تستوجب وتستدعي مقالة او مقالات عديدة أخرى ..
وهل يجهل اي عاقل دور الدين التخريبي لكل تقدم للمجتمع والدولة ولولا تخلص اوربا من دور الدين الكبير سابقا في كل مفاصلها لما استطاعت ان تصل لما هي عليه وهل كانت الهند ستنقسم الى شطرين يتصارعان لولا دور الدين وهل كانت الصين وقبلها اليابان ستنجح هكذا لو ان الدين كان احد مقومات نهضتها وهل يحتاج العرب امثلة لدور الدين في فشلهم وتاخرهم
توطئة مقالك الشيق اخي حسام الدين بشذرات من رائعة يحي حقي قنديل
–
ام هاشم انعشت ذاكرتي مشكور استاذي على كتاباتك
–
تحياتي