قوة أمريكا المطلقة لا تمكنها من هزيمة العالم

منذ أن دخل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب البيت الأبيض وجلس على مكتبه البيضاوي والعالم يمر بحالة توتر وإرتباك وهلع وكأن القيامة الأمريكية قاب قوسين أو أدنى. منذ تلك اللحظة وترامب يعادي جيرانه، ويعاقب حلفاءه وعملاءه، ويعبئ ويحشد للمنازلة الكبرى ضد مخالفيه، ويضع خطط تصفية أعدائه ومارقيه، الرافضين الالتحاق بركبه. واعتقد كما هو سوء الوضع الأمريكي خارجيا، ففي الداخل يبدو الوضع أكثر سوءا، ومن بقيت لديه ذرة عقل يسأل نفسه هل يقوى الإنسان، أي إنسان مهما تجبر وأوتي من قوة، وملك من أدوات وآسلحة دمار شامل، فهل يقوى ضميره على تحمل مسؤولية دمار متوقع، وخراب ممكن جراء اشتباك مميت، إذا اندلعت حرب خلفت ضحايا بالملايين؟
وبدا الجنون العنصري والاندفاع الأهوج سمات غالبة على سلوك اللاعبين بالنار، وفي واقع الأمر بدا ترامب ساعيا لدفع بلاده إلى الانتحار. وإذا ما تحقق سعيه فلن تذهب بلاده وحدها، وستجر العالم معها، في ظروف لا تبدو مواتية لضعف الإرادة الجماعية والإقليمية القادرة على التصدي وكبح هذا الجنون. والرئاسة الأمريكية تمر بحالة من المرض النفسي والسياسي غير مسبوقة.
ويتوقف التاريخ طويلا أمام إمبراطوريتين كبريين، الأولى هي الإمبراطورية البريطانية حديثا، والثانية هي الإمبراطورية الرومانية قديما، وتركتا بصمات لم تمحها الأيام ولا الأزمنة بعد، فالإمبراطورية الرومانية انتسبت إلى المناطق المعروفة اليوم باسم إيطاليا، واتخذت من روما عاصمة ومركز انطلاق لإمبراطورية هي الأكبر في تاريخ العالم، وتركت آثارا ما زالت باقية في دول خضعت لسيطرتها، وآثارا جوهرية في الإدارة والقانون والسياسة، أخذت بها دول فطورت قوانينها ودساتيرها ونظمها.
وبالرجوع إلى المؤرخ البريطاني «بيرس بريندون» وكتابه: «انحطاط الإمبراطورية البريطانية وسقوطها»، وهي إمبراطورية استهدفت العرب، قسَّمتهم ومزقتهم وأعملت فيهم مبدأ «فرق تسد»، وجعلت أهلها فرقا وشيعا، وأمعنت في ذلك ولم تتركهم إلا بعد أن سددت خنجرها السام إلى صدورهم النازفة. وأعتبر الكتاب إن الإمبراطورية البريطانية تعد الأشهر والأكبر في التاريخ الحديث. وتعود نشأتها لنهايات القرن الثامن عشر، واستمرّت لنهاية القرن العشرين. وشرح المؤرخ قصة بداية النهاية، وقصة الانحطاط والانهيار. وأشار إلى استيعاب البريطانيين لمبدأ إن من يسيطر على البحار يسيطر على العالم. جعلوا منه مبدأ أساسيا في إقامة مشروعهم الاستعماري، فأقاموا إمبراطورية قوية، مترامية الأطراف، في افريقيا وآسيا، وتحديدا في الهند وأفغانستان وباكستان والعراق وغيرها. ورغم الانهيار تركت آثارا باقية، ومن وجهة نظري فالأدق القول إنها تركت جرائم قائمة ومزمنة، وأبشعها زرع جسم صهيوني استيطاني غريب، يعزل مشرق «القارة العربية» عن مغربها، وحال ذلك دون تواصلهما وارتباطهما، وأحل «دولة بديلة» لفلسطين، التي تقاوم وتعمل باستمرار لاستعادة وجودها وحقوقها وكيانها.
وتسلمت الإمبراطورية الأمريكية راية العدوان من بريطانيا. وأضحت مسؤولة عن رعاية الدولة الصهيونية وحمايتها وتوفير كل ما تحتاجه، وجعلها «كيانا وظيفيا» يُعتمد عليه في استنزاف العرب وبث الفتن بينهم وتحريضهم على بعضهم البعض. ونظر المؤرخ «بريندون» لعام 1947 كعام فاصل في مصير الإمبراطورية البريطانية، ففيه نالت الهند استقلالها، وتوجت كفاحها «السلمي» بقيادة المهاتما غاندي، وصولا إلى الفصل النهائي في 1997، عام عودة هونغ كونغ للسيادة الصينية.

في واقع الأمر بدا ترامب ساعيا لدفع بلاده إلى الانتحار، وإذا ما تحقق سعيه فلن تذهب بلاده وحدها وستجر العالم معها

وبعيدا عن الجرائم المرتكبة في حق شعوب العالم، وفي مقدمتهم العرب، فالأثر الأقوى الباقي من الإمبراطورية البريطانية هو انتشار اللغة الانكليزية، بجانب إن المركز الذي اكتسبته الولايات المتحدة الأمريكية، (مستعمرة بريطانية سابقة) أضحى عاملا مضافا لانتشار اللغة الانكليزية على صعيد غير مسبوق، هذا بالإضافة إلى إن خسارة «المستعمرات الأمريكية» مثلت ضربة كبرى للإمبراطورية البريطانية. ومثلت «المنافسة الفرنسية» عائقا «تاريخيا» في البدايات الأولى. وتضاءل بعد ذلك بزيادة التفوّق البحري البريطاني، وبفضل الثورة الصناعية، والضعف النسبي للقوى الأوروبية المنافسة خلال القرن التاسع عشر.
وانتقلت الولايات الأمريكية، التي أصبحت متحدة، من مستوطنات تابعة للتاج البريطاني إلى شريك له، وانعقد لها القياد بعد الحرب العالمية الثانية، وجاء انتصار السويس في 1956 فجعل من بريطانيا وفرنسا دولا من الدرجة الثانية. ولم تتعلم أمريكا من الدروس البريطانية أو الفرنسية، ولا من هزيمتهما أمام حركات التحرر والاستقلال الوطني، وها هي تدفع العالم إلى حافة السقوط في أتون محرقة، تتجاوز محارق النازية في ثلاثينيات القرن الماضي، معتمدة في ذلك على قواعد عسكرية منتشرة حول العالم، بأعداد ضخمة، وعتاد مهول، وقوة نيران كثيفة ومميتة ولامحدودة.
وتحتفظ وزارة الدفاع الأمريكية ـ رسميا ـ بـ4775 قاعدة داخل الولايات الأمريكية الخمسين، وضمن الأقاليم الثمانية التابعة لها، وفي 45 دولة أجنبية. وهناك نحو 514 من القواعد العسكرية الأخرى، خارج الولايات المتحدة، وثمة أمثلة مختارة من قوائم طويلة، منها، قواعد جزيرة دييغو غارسيا في المحيط الهندي، وجيبوتي في القرن الافريقي، وبيرو، والبرتغال، والإمارات العربية، بجانب تجاهل القائمة الأحدث، الصادرة من البنتاغون مطلع 2018 قواعد بعينها، فلم تشر لقاعدة «التنف»، وأي قاعدة في سوريا، وفي العراق، وأفغانستان، والنيجر، وتونس، والكاميرون، والصومال، ودول أخرى فيها قواعد أمريكية، تجري توسعتها، من غير الإعلان عنها.
ويتصور ترامب أن القوة المملوكة للولايات المتحدة مطلقة. وهذا قصور في الإدراك والحسابات، ولدينا مثل في مصر يقول: «الأرض تحارب مع أصحابها»، وعشت ذلك بنفسي وأنا صغير، في عام 1956، وكنت قد أنهيت دراستي الإعدادية وبدأت دخول المدرسة الثانوية، ولا أنسى الغارات الكثيفة على مدن القناة، وامتدادها إلى الداخل المصري. وهب الناس، رجالا ونساءً من كل الأعمار، هبوا على قلب رجل واحد، يحملون ما وقع تحت أيديهم للتصدي للمظليين الذين يهبطون من السماء، وخرجوا طلبا للالتحاق بالمقاومة الشعبية المسلحة، وكان لذلك قيمة كبرى، فقد كان جيش مصر ما زال صغيرا، وكانت بريطانيا وفرنسا وأمريكا قد منعت عنه السلاح، ونجحت المحاولات المصرية لكسر احتكار السلاح، ووصل السلاح التشيكي إلى أيدي المقاومة، وإلى يد كل قادر على حمله، وتصاعدت «ملحمة بورسعيد» ومدن القناة، وانتهت بخروج الاحتلال البريطاني للمرة الثانية في العام نفسه.
كان الخروج الأول في حزيران/يونيو 1956 تنفيذا لاتفاقية الجلاء، والخروج الثاني في ديسمبر/كانون الأول 1956، بضغط المقاومة المسلحة وفرض إرادتها، وكان السلاح يتم توزيعه فور وصوله. وأتذكر أن البنادق كانت تخرج من صناديقها بشحمها وزيوتها، ويتولى الشباب تنظيفها وإعدادها، ويتدربون عليها. وتلك الملحمة يصفها من لم يعشها من ضعاف النفوس بالهزيمة، ويصدقهم من حرموا من دراسة تاريخ شعبهم الحقيقي بسبب قيود التطبيع وتسلل الصهينة إلى مفاصل الدولة والحكم والتعليم، ويتساوى في ذلك المصريون والفلسطينيون والسوريون والجزائريون والعراقيون واليمنيون والمغاربة وكثيرون غيرهم.
هل هناك من يتصور أن ترامب، وأيا كان من معه من الصهاينة، العرب وغير العرب، أنهم قادرون على المصادرة على الحاضر والمستقبل وتأتيهم الشعوب مستسلمة صاغرة، مرحبة بعودة الاحتلال؟ دروس التاريخ تقول بانتصار أصحاب الحق، وأكدت للأجيال السابقة، وتؤكد للأجيال اللاحقة «كم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة»، والمستهدفون ليسوا فئة قليلة، فليثقوا بأنفسهم، ويتفاءلوا بالخير فيجدوه!

كاتب من مصر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامح //الأردن:

    *وصول الاهوج الطبل الأجوف (ترامب)
    إلى البيت الأبيض خطأ تاريخي
    وعلى الشعب الأمريكي تصحيح
    هذا الخطأ قبل فوات الأوان
    وقبل خراب مالطا..

  2. يقول علي:

    عملاؤها العساكر الخونة والمناشير الخونة يمكنونها من هزيمة العالم!

إشترك في قائمتنا البريدية