فيلم «قودي سيارتي» للياباني ريوسوكي هاماغوتشي، الحائز جائزة السيناريو في مهرجان كان في دورته للعام الحالي 2021، فيلم يغوينا بسلاسته ويوقعنا في حبه، هو فيلم تتكشف أسراره الواحد بعد الآخر، ويمتزج فيه الإبداع الأدبي والفني، بالحب والشبق.
يجمع فيلم هاماغوتشي، المقتبس عن قصة قصيرة لهاروكي موراكامي بالعنوان نفسه، بين الأسرار التي تنطوي عليها أرواحنا وذواتنا، وما نختار أن نقدمه من مكنوناتنا للآخرين، هو فيلم عما نظهره وما نخفيه، هو فيلم عما يعتمل في أنفسنا من ألم وندم وعشق، لكننا نفضل أن نبقيه طي الكتمان. هذه الذخيرة من العواطف التي نبقيها طي الكتمان يحولها هاماغوتشي لمصدر للإبداع والفن. «قودي سيارتي» عن الأسرار والبوح، عن كيف تصبح هذه الأسرار ذخيرة للإبداع.
الشخصية المحورية
الشخصية المحورية في الفيلم هو يوسوكي (هيديتوشي نيشيجيما) وهو ممثل ومخرج مسرحي، يعكف على إخراج مسرحيات متعددة اللغات، تضم ممثلين من بلدان عدة، ويؤدي كل منهم دوره بلغته الأم، ويتلقى الجمهور منهم المشاعر التي يستقونها من الأداء. وهو بصدد إخراج مشروع مسرحي جديد، هو نص متعدد اللغات لمسرحية «العم فانيا» لأنطون تشيخوف. يواجه يوسوكي معضلتين، إحداهما تتعلق بنظره وقدرته على الرؤية، والأخرى، ربما الأكثر أهمية، تتعلق بزوجته أوتو، وهي مؤلفة مجيدة وذائعة الصيت، لكن لا يأتيها وحي الكتابة وإلهام سرد القصص ونسجها إلا وهي تمارس الجنس. هنا يأتينا هاماغوتشي بأول أسرار الفيلم، فهل يا ترى هل تكتفي أوتو بعلاقتها بزوجها، كمفتاح للإبداع والسرد، أم تراها في حاجة إلى عشاق آخرين لتنسج عالما من القصص. يتقبل يوسوكي، بصبر وجلد، أنه قد يفقد القدرة على الأبصار في إحدى عينيه، لكنه يجد من الصعب بمكان تقبل فكرة أن ضعف بصره قد يحول دون قيادته لسيارته العتيقة التي يعتز بها كثيرا. وتخبئ الأقدار فجيعة أخرى ليوسوكي، حيث يعود لمنزله ذات ليلة ليجد زوجته الشابة ملقاة على الأرض وقد فارقت الحياة. صدمات موجعة يتلقاها يوسوكي، لكنه يقرر أن العمل هو الملاذ من آلامه الشخصية، فيقرر قبول مهمة إخراج وإنتاج جديد متعدد اللغات والأعراق من «العم فانيا» لتشيكوف في هيروشيما. وبعد اختبارات للأداء يعهد بالدور الرئيسي في المسرحية لممثل وسيم وشهير شاب اسمه كوجي (ماساكي أوكادا) على الرغم من معرفته بسر يخفيه كوجي يتعلق بأوتو، زوجة يوسوكي الراحلة.
ثمة توتر نلحظه بين الرجلين، بين المخرج والممثل الذي يوجهه، بين الرجل الأكبر سنا والممثل الشاب المختال بوسامته، لكنه صراع يجيد يوسوكي إدارته. وبالتوازي مع هذا الخلاف الكامن تحت السطح مع ممثله الأول، ذلك الخلاف الذي يحول يوسوكي دفته إلى علاقة أبوة وصداقة مع الممثل الشاب الجامح، يكون يوسوكي علاقة جديدة، علاقة يدخلها على مضض وتردد مع سائقة شابة هي ميساكي (توكو ميورا).
تكلف الشركة المسرحية التي عهدت ليوسوكي بإخراج مسرحية «العم فانيا» السائقة الشابة ميساكي بقيادة سيارة يوسوكي طوال فترة العمل على إعداد المسرحية وعرضها. يقبل يوسوكي الأمر دون حماس، وبموافقة تخفي امتعاضه عن اقتحام شخص لسيارته التي يعتبر قيادتها طقسا خاصا ومهما في حياته. تتولى ميساكي قيادة سيارة يوسوكي بتمكن كبير، وبذلك الصمت والتحفظ الذي يفضله صاحب السيارة والسائقة. لكن سرعان ما تتطور العلاقة بين الاثنين، حينما تصبح ميساكي ملاذا للمخرج الأربعيني، يبوح لها في طريقهما بالسيارة عن مكنوناته، وعن أسراره، وعما يعتمل في داخله. تصبح السيارة وقائدتها موضع الأسرار والبوح والتفهم الصامت. وبمرور الوقت تبدأ ميساكي في البوح هي أيضا، وفي مبادلة الثقة بالثقة والأسرار بالأسرار. تصبح علاقة المخرج بالسائقة الشابة ملاذا لاثنين لديهما من الأسرار الكثير، ولديهما من الحزن الكامن الكثير. وتبدأ بين الاثنين صداقة غير متوقعة، وثقة تنمو يوما بعد يوم.
نتابع الصداقة تنمو بين المخرج الأربعيني الصموت والسائقة الشابة التي تفوق حكمتها عمرها. وما كان لهذه الصداقة وهذا البوح أن يكونا على هذا القدر من التأثير، لولا أداء نيشيجيما وميورا المتميز لدوريهما. نشيجيما يؤدي دور يوسوكي بتحفظ من يحمل من الأسرار الكثير، وبحنكة المخرج المعتاد على توجه ممثليه. وميورا تؤدي دور قائدة السيارة بالنضج النفسي والعقلي اللذين يتطلبهما دورها كمستمعة متفهمة وكموضع للثقة والبوح بالأسرار. وتصبح شخصية العم فانيا ومسرحية تشيخوف، بكل ما تحويه من حزن وأسى وشجن على ماض ولى وفرص مهدرة، هي المحفز للاثنين على الحديث.
التواصل الانساني
يوظف هاماغوتشي مسرحية تشيخوف وشخصية العم فانيا ليصبحا شخصيتين فاعلتين في الفيلم. ندم فانيا على حياته المهدرة يحاكي ويماثل ندم يوسوكي على فرصه المهدرة، فربما لو اختار مسارا آخر لعلاقته مع زوجته، وربما لو صارحها بمدى ألمه لعلاقاتها التي تحيي بها نتاجها الأدبي، وربما لو جاء مبكرا إلى المنزل يوم وفاتها، لبقيت على قيد الحياة. لكن يوسوكي يعلم أنه لا يستطيع أن يغير الماضي، وكل ما في وسعه هو التعايش معه عن طريق البوح بالأسرار التي تثقله، فالبوح لسائقته الشابة المتفهمة، التي تبادله الود بالود والبوح بالبوح، هو المتنفس الوحيد لكليهما. شهدت ميساكي في حياتها الشابة من الألم والحزن ما منحها هذا النضج المبكر وهذه القدرة على الاستماع.
«قودي سيارتي» فيلم يمدنا بفيض من الثقة عن جدوى التواصل الإنساني. تبدأ الصداقة بين يوسوكي وميساكي بفعل ثقة رئيسي، فقد سلمها مفاتيح سيارته لتقودها، كما لو أن مفاتيح هذا السيارة هي البداية لفتح أبواب روحه الموصدة لتروي أسرارها. نشهد هذه الصداقة تنمو وتزدهر، فتزدهر أرواحنا وتزيد ثقتنا في جدوى التواصل الإنساني. إنه فيلم نشاهده فنحيا بعمق أكبر وبثقة أكبر.
كاتبة مصرية